ما يزال الصراع السوري يشكل نقطة اشتعال حاسمة، والتي اجتذبت عددا كبيرا من القوى الإقليمية والعظمى على سواء. ومع انخراط الكثير جدا من القوى في الحرب الأهلية الدائرة هناك، فإن هناك خطرا متزايدا من احتمال أن تتصادم هذه القوى الخارجية واحدتها مع الأخرى وأن تشعل صراعا تكون له تداعيات عالمية.
* * *
لمحة عامة
• تصل المعركة بين الحكومة السورية والثوار إلى نهايتها، بينما تكسب دمشق اليد العليا وتنهار “الدولة الإسلامية”. لكن ثمة خطرا أكبر من اندلاع مواجهات بين الدول المتدخلة في الصراع في العام 2019.
• يمكن أن تصبح أي من الولايات المتحدة، وروسيا، وتركيا، وإيران وإسرائيل متورطة في صدام مع واحدة من الدول الأخرى المتدخلة في سورية.
• بينما ستعمل كل هذه الدول على التقليل من فرص تصعيد الصراع إلى الحد الأدنى بالنظر إلى المخاطر الكامنة من نشوب حرب أكبر، فإنها لا تستطيع القضاء على هذه المخاطر بالكامل.
* * *
ربما لا يمكن نسيان الحرب الأهلية الدائرة في سورية –على الأقل بالنسبة لملايين الناس الذين طالتهم عاصفتها- لكن هذا الصراع لم يعد يتصدر دورة الأخبار العالمية كما كان حاله ذات مرة. ويعود ذلك، في جزء كبير منه، إلى أن قوات الحكومة السورية نجحت في انتزاع السيطرة على معظم المراكز السكانية في البلد، ولأن معظم خطوط الجبهة المتبقة أصبحت متجمدة نسبياً. ومع ذلك، وحتى بينما يصبح الصراع الساخن أقل انتشاراً في البلد، فإن السنة المقبلة تظل محفوفة باحتمالات الخطر مما قد يكون أكبر عاصفة يشهدها الصراع على الإطلاق: هذه المرة، ليس بين قوات الحكومة والثوار فحسب، وإنما بين العديد من الدول التي دخلت حلبة الصراع السورية.
على مدى السنوات العديدة الماضية، دخلت قوى عظمى وإقليمية على حد سواء ميدان الصراع في سورية في إطار مساعيها لتحقيق طائفة متنوعة من المصالح والأهداف. بعض هذه الأهداف –مثل إلحاق الهزيمة بمجموعة “الدولة الإسلامية” الإرهابية المتطرفة (التي أصبحت الآن ظلا لنفسها السابقة بفضل الجهود الدولية)- تعتنقها القوى المتدخلة بشكل مشترك، لكن هذه القوى لا تتقاسم العديد من الأهداف الأخرى. وربما تكون لتركيا، وإسرائيل، وإيران والولايات المتحدة وروسيا القليل من المصلحة في الانخراط في حرب مفتوحه مع بعضها البعض، لكن مساعيها لتحقيق أهداف مختلفة، وكذلك الافتقار البسيط إلى المتسع للمناورة في مسرح مكتظ، يعني أن الحملات العسكرية تبقى عرضة لخطر نشوب اشتباك –سواء كان ذلك عن قصد أم غير ذلك- بين دولة ودولة. ويمكن أن تكون لمثل هذا الصراع تداعيات عالمية.
مسرح مزدحم
ينشأ الخطر الأساسي من الرغبة المستمرة لدى الحكومة السورية وحلفائها –وخاصة إيران- في الاستيلاء على مزيد من المناطق. وبعيدا عن الجيوب القليلة المعزولة التي ما تزال تحت سيطرة “داعش” والتي تحاول القوات الموالية استعادتها، يمكن أن تحول دمشق وطهران انتباههما إلى منطقتين رئيسيتين: شمال وشمال غرب سورية، حيث يحتفظ الثوار المدعومون من تركيا بالسيطرة،؛ وشمال شرق وشرق سورية، حيث تسيطر قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة. وفي حين أن وجود القوات التركية والأميركية القريبة يمكن أن يحد من قدرة طهران على التقدم إلى تلك المناطق، فإن من غير المرجح أن تبقى القوات الموالية للحكومة السورية سلبية تماماً.
كما هو واقع الحال، يبدو القيام بنوع من النشاط العسكري حول محافظة إدلب حتميا تقريبا، وهو ما يعرض خطر حدوث مواجهة مباشرة بين القوات الموالية والقوات التركية المتوغلة في المنطقة المجاورة لبعض من حلفائها الثوار. وفي حال أمنت دمشق مساعدة موسكو ودعمها لعملياتها العسكرية في إدلب، فإن احتمالات حدوث صدام سوري-تركي سوف تزداد فقط. وتتمثل أولوية روسيا في تهدئة الصراع (والحفاظ على مكاسبها) بينما تحتفظ بعلاقات ودية مع تركيا أيضاً. لكن موسكو تصبح أكثر غيظا باطراد من افتقار أنقرة إلى إحراز تقدم في تفكيك بعض من مجموعات الثوار الأكثر تطرفاً في إدلب، مثل “هيئة تحرير الشام –التجسد الأخير لجبهة النصرة- والتي واصلت شن الهجمات على القوات الروسية. ولأن دمشق تريد أي عذر لاستئناف العمليات العسكرية، فإن الكرملين التواق إلى إنهاء الصراع يمكن أن يدعم هجوما إيرانيا وسوريا على إدلب، والذي يعرض خطر الاصطدام مع تركيا.
عبر البلد إلى الشرق، تقوم الولايات المتحدة بتحديث أهدافها من أجل إعاقة المصالح والوجود الإيراني. وتتواجد أعداد يُعتد بها من القوات الإيرانية بالقرب من مواقع قوات سورية الديمقراطية في شرق سورية، وقد خاض الطرفان مسبقا عددا من المناوشات. وإذا ما ازداد الخلاف بين واشنطن وطهران في العام 2019، فإن معركة تنشب بين القوات الإيرانية وقوات سورية الديمقراطية في المنطقة يمكن أن تثير صداما أكبر في سورية بين القوات الأميركية والقوات الإيرانية. وبالإضافة إلى ذلك، وفي مثل هذه الحدود المغلقة، فإن من المرجح أن يجذب صراع ينشب هناك القوات السورية، بل وحتى الروسية.
تركيا بلد آخر له مصالح كبيرة في المنطقة. ومن منطلق حرصها على المزيد من إضعاف وحدات حماية الشعب الكردية في المنطقة، سعت تركيا بداية إلى البقاء في سورية بعد الولايات المتحدة قبل التحرك لسحق المجموعة الكردية في أغلبها في المنطقة، لكن واشنطن أجبرت أنقرة على إعادة التفكير في هذه الاستراتيجية بعد أن أعلنت نيتها البقاء لفترة أطول في سورية. وسوف تحرص تركيا على تجنب صدام مباشر مع قوات الولايات المتحدة في سورية (حتى لو أن مكائدها الإقليمية لا تفعل أي شيء لتخفيف التوترات بين حليفي الناتو الاسميَّين)، ومع ذلك سوف تبحث باستمرار عن طرق لإضعاف وحدات حماية الشعب في العام المقبل. ويمكن أن تقوم القوات التركية بضرب قادة مختارين من وحدات حماية الشعب وغيرهم من الأهداف التي تتسم بالأهمية، وقد تشن أنقرة أيضا حملة سرية ضد المجموعة الكردية من خلال اغتيال قياديين بارزين وإشعال التوترات في أوساط الأعضاء العرب في قوات سورية الديمقراطية. وبغض النظر عن مسار عمل تركيا، فإنها لن تبقى واقفة على الهوامش.
وإسرائيل، أيضاً، لها سببها الخاص للخوض في الحرب الأهلية السورية: إيران. وقد وجهت ضربات إلى إيران عدة مرات داخل سورية، مستدرِجة في بعض الأحيان ردود فعل انتقامية من طهران، كما حدث في أيار (مايو). وفي الوقت نفسه، يمكن أن يجذب الشجار بين البلدين بسهولة قوى أخرى في سورية. وفي أيلول (سبتمبر)، حاول جنود يشغلون الدفاعات الجوية السورية مقاومة غارة جوية إسرائيلية، ليسقطوا بالصدفة طائرة روسية في العملية. ومن أجل تخفيف فرص تكرار الحادثة، زودت موسكو شركاءها السوريين بمعدات دفاع جوي أفضل، بينما هددت أيضاً برد فعل انتقامي ضد إسرائيل. ومع ذلك، من غير المرجح أن تجبر الجهود الروسية إسرائيل على وقف هجماتها تماما. ووفقا لذلك، ومع وجود مساحة صغيرة للخطأ، فإن الضربات الجوية الإسرائيلية في المستقبل ضد أهداف إيرانية يمكن أن تشعل فتيل مواجهة بين القوات الروسية والإسرائيلية، أو حرباً أوسع نطاقاً مع إيران والتي يمكن أن تتطور إلى صراع مع حزب الله في لبنان.
مخاطر حدوث زلة أو سوء حساب
لا تتوق أي من الدول التي دخلت المستنقع السوري إلى محاربة أي من القوى الأخرى، مما يعني أن كلا منها سوف يحرص على اتخاذ أقصى درجات الحيطة للتقليل من احتمالات تصعيد الصراع. ولكن، مع انتشار قوى رئيسية في مثل هذا القرب من بعضها البعض –إلى جانب مجموعة من المصالح المتضاربة والطموحات المتنافسة للسيطرة على المناطق- فإن مخاطر تسبب شرارة في إشعال حريق هائل تظل كبيرة. كما تعني هذه الظروف أيضاً أن هناك فرصة قليلة لأن تتلاشى مخاطر نشوب صراع في سورية في أي وقت قريب.