تأتي أهمية كتاب الباحث العراقي رسول محمد رسول «هيا إلى الإنسان- من الكائن البشري إلى الموجود الإنساني»، (مركز سلطان بن زايد/ أبوظبي)، أنه صدر في وقت يستباح فيه الإنسان العربي في جميع حقوقه الوجودية الدنيوية منها أو حتى الدينية، أمام استفحال المدّ الراديكالي لبعض القوى التي تحاول حكم الناس باسم الله، معتمدة على تأويلات بعض رجال الدين للنص القرآني والحديث النبوي من غير أيّ تفكير عقلاني أو نقاش مع الرافضين لهذه التأويلات أو القائلين بتأويلات أخرى لهذا النص. بعد أن يشرح رسول معيقات الإنسية من خلال التمركزات الاثنية العرقية والغربية والدينية، ينطلق من النزعات الإنسانية في النص القرآني ملاحظاً ألا نظرية واضحة للإنسية في الإسلام وإنما هي متضمنة في نصه. فحسب الرواية القرآنية فإنّ الله فضّل الإنسان على الملائكة والجنّ، وميز القرآن بين البشر والناس، فالبشر كتلة بهيمة لا تهتم إلا بما يهتمّ به الحيوان من متطلبات الجسد بينما الإنسان يهتم بجسده وعقله وروحه.
ويذهب رسول مذهب من يرى أنّ الإنسان في الإسلام صاحب إرادة ويعيش كما يرى عبد الوهاب بوحديبة؛ لغيره ولذاته في الوقت نفسه. ولكي يجيب على سؤال إن كان الإنسان الإسلامي متمركزاً بدوره في عقيدته أم منفتحاً على الديانات الأخرى ومتساوياً معها؟
ينتقل إلى القرن الأول الهجري، ليشرح خسارة التاريخ الإسلامي لدعوة عليّ بن أبي طالب الإنسانية، والمنصوص عليها في أمر توليته لمالك الأشتر والياً على مصر، ومفادها أنّ الرعية: «صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق». لولا أن مقتل مالك الأشتر ومن بعده علي بن أبي طالب، جعل الإسلام متمركزاً وذا طابع قومي عربي إلى حين تفكّك الدولة العباسية، ولا أرى في ذلك انزياحاً عن رسالة الخليفة علي لأن كيفية التعامل مع غير المسلمين باعتبارهم أهل ذمّة، منصوص عليه في القرآن، ولا أظنّ أنّ الخليفة الرابع كان سيخرج عنه، وقد جرى ما جرى له بسبب قبوله الاحتكام مع معاوية إلى القرآن.
نقد إدوارد سعيد للإنسية الغربية
في العصر الحديث؛ ينطلق رسول من نقد إدوارد سعيد للإنسية الغربية، وعلى النحو الذي بدأ به الكتاب، من شرح الخلل الجهوي لمفكري الغرب في التمركز حول ذات الرجل الأميركي والأوروبي الأبيض وتفوقه تاريخياً، بينما يدعو إدوارد إلى قراءة التاريخ الإنساني بشكل متساوٍ ومنح الجميع حقّ الوجود في تطوّر الحضارة المعاصرة.
وربما للبرهنة على ما ذهب إليه إدوارد سعيد يعود رسول إلى الإسلام من خلال كتاب عبد الوهاب بوحديبة «الإنسان في الإسلام» حيث يؤكّد أنّ الإنسان أصل في الخلق، وأنّ الرسول محمد بن عبد الله أعطى نموذجاً للإنسان الأعلى في دعوته وتعاملاته مع الناس. وربما من اللافت أنّ يميز عبد الوهاب بين مرحلتين في الإسلام وهما مرحلة الوحي التي انتهت بوفاة الرسول، لتبدأ مرحلة العقل التي كانت ذروتها مؤلفات ابن رشد وابن طفيل مروراً بالإبداعات الإنسانية من فنون وعلوم التي تأسست عليها الحضارة الأوروبية. لكنّ عبد الوهاب لا يغفل عن الواقع المتخلف الذي آل إليه حال العرب، فيدعوهم إلى اعتبار أنفسهم على أسس الإسلام المعتبرة لأصل الإنسان فيه ولا سيما عقله، ليمكن النهوض من جديد وبما يناسب العصر ومتطلباته.
ربما يحاول رسول أن يضيف إلى رؤية إدوارد سعيد النقدية تعصّباً لأنثى الأوروبية البيضاء أيضاً، إذ إنّ حظّ الإسلام منها لم يكن أفضل من حظ الرجل الأبيض، فها هي جوليا كريستيفا تنشئ قولها عن الإنسية على ما قال به الفكر اليوناني واللاهوت التوراتي- المسيحي. وهي تخطئ أكثر من مرة: أولاً بتجاهلها للإسلام وعلاقته الوثيقة بالديانتين اليهودية والمسيحية. وثانياً: بتجاهلها لما يتضمنه الإسلام من نزعات إنسية أشير لها سابقاً. ورابعاً بتنويهها بإنسية دانتي المزعومة اعتماداً على ترجمة خاطئة تموّه تعاليه اللاهوتي، وموقفه العدائي من الرسول محمد والخليفة الرابع علي بن أبي طالب رغم مساهمتهما الملحوظة في فكر الإنسية.
صحيح أنّ ثمة صراعاً تاريخياً بين بني هاشم وبني أمية على السلطة الإسلامية حسم في العصر الأموي، لكن لا أستطيع أن أردّ تأويل العنف في الإسلام لبني أمية وحدهم بل هو متقاسم من كلا الطرفين سياسياً على الأقل. وإن كان خروج معاوية عن الإجماع أو استخدامه للحيلة من أجل السلطة وتثبيتها واضح، لا لبس فيه. لكنّ معاوية وخلفاءه من بعده لم يتخذوا من العنف سبيلاً في جميع أمور إدارة الدولة، وإلا لما استطاع أحد الحديث عن الإنسية للعلوم والفنون في الإسلام من جهة.
ولظلمنا الدور الحضاري للحكم الأموي في العمران من جهة أخرى. وهذا إن شكّل اضطراباً في مدخل قراءة رسول لمرجعية التأويل العنيف على الشكل الملاحظ لدى القاعدة و»داعش» وتنظيمات متطرفة أخرى ترفع راية المقدّس لانتهاك حرمة الإنسان واستعباده والمتاجرة به. إلا أنه أكثر من البيان في تفكيك بنية العنف لدى هذه التنظيمات الإرهابية إيديولوجياً وسيكولوجياً مبرزاً دورها المشتت للإسلام بنزعتها البشرية المتوحشة القائمة على كراهية الآخر، والتنكيل به جسداً وعقلاً، على النقيض مما يحاوله مفكرو الإسلام المتنورون.
الإنسان جوهر الوجود
يحاول رسول في هذا الكتاب أن يقدّم، بدوره، مساهمة قيمة من خلال العقل الإسلامي عن ضرورة الإنسية في حياة الناس، مفنداً الكائن البشري العدمي بوجهيه اللاهوتي الملفوف بجماعة طائفية مدمّرة أو العلماني الملفوف بمنظومة رقمية، متلاشية في الاستهلاك، مؤكداً أنّ الإنسان جوهر في الوجود، وإن كان يحمل بعداً ما ورائياً لكن ليس إلى الحدّ الذي ينصهر فيه بالذات الإلهية، لأنّ الله حدّد علاقته بالإنسان على أنها علاقة تواصلية «قوامها العابد والمعبود»، وهذه العبادة في ما ترضي الله هي ترضي الإنسان أيضاً، لأنّ الإنسان أصل في الخلق. وجوهر الإنسان هو العقل من جهة، وهو العمل، وتحديداً العمل المنتج للزرع بقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من جهة أخرى.
وما السعي إلى جعل الإنسان مجرّد صور افتراضية للكائن المستهلك في الميديا أو مجرّد جسد يطهر نجاسته في الجهاد الدموي إلا محاولة للسيطرة من قبل العدميات الغربية على مصائر الشعوب ومقدراتها. بعد ذلك يستذكر رسول أفكار التنوير الأوروبي في الإنسية ليؤكّد ضرورة رفع الوصاية الطائفية عن الإنسان الفرد ليتمكّن من الإبداع، ويدعو الدولة الوطنية إلى منح المثقف دوراً في المجتمع لينشر القيم الخيّرة كالتسامح والمحبة، منتقداً أفكار صموئيل هنتنغتون منظّر الحروب وصراع الحضارات باحثاً عن دور للفيلسوف ليجد ضالته في كتاب جميل صدقي الزهاوي «الفجر الصادق» الذي تصدّى فيه للفكر التكفيري، ولا أدري ما علاقة ذلك بالفلسفة؟ على أية حال ربما باستعراضي لأهم أفكار هذا الكتاب ومناقشتها قدر المستطاع أبرزت أهميته للقارئ العربي الذي قد يتعب من اعتماده على لغة البيان أكثر من لغة البرهان وما هو متعب أكثر عدم المنهجية في طرح أفكاره وتشتتها وتكرارها وكأن الكتاب تجميع اعتباطي لمجموعة من المقالات حول كوارث الواقع العربي ولاسيما العراقي أكثر مما هو كتاب فكري يبحث في الأنسية كنظرية فلسفية واضحة!