لم يعد خروج المتظاهرين في مدينة البصرة العراقية مقتصراً على يوم الجمعة، في ظلّ استمرار المحتجين في المنطقة الأغنى بالنفط والمنافذ الحدودية في البلاد، بخروجهم بأوقات مفتوحة، أمام المباني الحكومية وأبرزها “مبنى المحافظة ومجلسها”، وهو مركز السلطة التشريعية والتنفيذية في المدينة.
ومنذ يوليو/ تموز الماضي، لم تستقر البصرة، فبعد التظاهرات العارمة التي تخللها سقوط عشرات القتلى من المدنيين الشباب الذين طالبوا بمياه صالحة للشرب وتحسين الواقع الخدمي والمعيشي وتوفير فرص عمل، فضلاً عن إحراق مقار الأحزاب والقنصلية الإيرانية، يواصل الناشطون تحشيدهم لتكرار نفس الاحتجاجات الماضية وبأعداد كبيرة، للضغط على الحكومة في بغداد، حتى تستجيب إلى مطالبهم والإفراج عن باقي المعتقلين في سجون القوات العراقية. غير أنه في الأيام الماضية ارتفع منسوب العنف ضد المتظاهرين، عبر تفريقهم بواسطة الرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع، فعاد الغضب الشعبي من جديد، ولا سيما أن القوات العسكرية خالفت مقررات رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، التي منعت استخدام العنف والرصاص.
وعمل المحتجون على رسم سياسة جديدة في طريقة التظاهر، إثر احتشادهم أخيراً أمام دور المسؤولين المحليين، بعد تظاهرهم في الساحات والشوارع العامة في الأسابيع الماضية، وكان آخرها التجمهر قرب دار رئيس مجلس محافظة البصرة وليد كيطان، وتطويقه بإطارات السيارات وحرقها، في إشارة إلى إهمال الحكومة المحلية في البصرة لمطالب المحتجين.
”
التظاهرات السلمية التي خرجت منذ أشهر لم تحرك أي ساكن لدى الحكومتين المحلية والمركزية
”
وعن ذلك قال أحد أعضاء تنسيقيات البصرة، محمد عباس، إن “التظاهرات السلمية التي خرجت منذ أشهر لم تحرك أي ساكن لدى الحكومتين المحلية والمركزية، لذا اعتمدنا على الوصول إلى دور المسؤولين لإرسال رسالة المواطن البصري الفقير والمحروم”. وأشار إلى أن “تطويق دور المسؤولين لا يعني إرهاب أهلها، إنما هو لضرورة تنفيذ مطالبنا، وإننا إن وصلنا إلى دور المسؤولين فبإمكاننا إسقاط كل الحكومة المحلية في البصرة، عبر الاستيلاء على كل المباني فيها، ونحن لا نريد أن نصل إلى هذا الحد”.
من جهته، أكد الصحافي عبد زيد البصري، أن “القوات الأمنية التي وفدت إلى البصرة لغرض ضبط الأمن فيها، كانت قد خدمت خلال المعارك ضد تنظيم داعش في الفلوجة والموصل والأنبار، وهي تمارس أقسى أنواع التعنيف مع المحتجين، واستمرار التعامل مع المواطنين المدنيين الذي يطالبون بحقوقهم بهذا الشكل، قد يؤدي إلى تدخل العشائر والقبائل من أجل الدفاع عن أبنائها”.
وقال البصري، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “هناك تسريبات من حي المعقل تشير إلى أن القبائل والعشائر في الحي متأهبة للتدخل والاشتباك مع العناصر الأمنية في مركز المدينة، بعد أن انتشر خبر مفاده أن القوات الموجودة في مركز المدينة والتي تحمي المباني الحكومية، ليست من البصرة بل من محافظات أخرى، والهدف منها هو ترهيب الناس وتعنيفهم لمنع التظاهرات وإخراسها”.
وفي الوقت نفسه الذي يطالب فيه أبناء البصرة بالمياه، تزداد حدة التصريحات والخطابات النارية بين ممثلي الأحزاب الحاكمة في البلاد، بشأن منصب “المحافظ”، الذي يخوّل له القانون إمساك زمام الأمور في المدينة، بالإضافة إلى التحكم بالعقود والاستثمارات والمناقصات وغيرها بما يتعلق بأموال البصرة ومشاريعها. وهو أمر كافٍ لاشتداد التنافس على المنصب، وعلى الرغم من تمسك النائب، المحافظ الحالي أسعد العيداني، فقد بلغ آخر إحصاء للمرشحين للمنصب، 27 مرشحاً من الأحزاب الإسلامية وتحديداً الشيعية، وأبرز المنافسين هو “تيار الحكمة” التابع لعمار الحكيم، بحسب أحد أعضاء المجلس، الذي تحدث مع “العربي الجديد”. وقال إن “اختيار المحافظ الجديد سيحدث خلال هذا الشهر أو الثلث الأول من الشهر المقبل”، مبيناً أن “استمرار التظاهرات وتطورها إلى الحد الذي وصل إلى تطويق بيوت بعض المسؤولين في البصرة، ولا سيما المرشحين لمنصب المحافظ، يعني أن هناك من اشترى بعض المتظاهرين وصار يوجههم إلى حيث يريد، ويحارب بواسطة المحتجين خصومه، ما يعني أن التظاهرات خرجت عن سلميتها ومطالبها المشروعة إلى جزء من العمل السياسي”.
”
هناك 27 مرشحاً من الأحزاب الإسلامية وتحديداً الشيعية لمنصب محافظ البصرة
”
من جانبه، ذكر نائب مستقل عن محافظة البصرة، لـ”العربي الجديد”، أن “أسعد العيداني، محافظ البصرة، متمسك بمنصب المحافظ، برغم أنه حصل على مقعد في البرلمان، لأن منصب المحافظ يوفر للعيداني امتيازات عديدة ومخصصات مالية كبيرة، لا يمكن الحصول عليها عبر مقعد البرلمان، وهو الأمر نفسه الذي يدفع باقي المرشحين للقتال من أجل نيل منصب المحافظ”. وأشار إلى أن “المتظاهرين أدركوا أن منصب المحافظ هو ما يشغل عقول المسؤولين المحليين، لذا قرروا محاصرتهم وتهديدهم، ورفعوا شعارات منددة بما وصفوها عمليات (بيع وشراء) المناصب في المحافظة التي تعاني من الإهمال منذ سنوات عدة”.
بدوره، رأى المحلل السياسي محمد عماد، أن “رئيس الوزراء عادل عبد المهدي يفكر بحل أزمة البصرة السياسية والاقتصادية، لكنه يفتقد لأدوات الحل، خصوصاً أنه منشغل حالياً بقضية تكملة تشكيلته الوزارية، والخلافات السياسية على ذلك، وتهديدات القوى السياسية له”، مبيناً لـ”العربي الجديد”، أن “تهدئة أوضاع البصرة، لا تتطلب تصريحات ولقاءات، بل تتطلب أفعالا على أرض الواقع، كتوفير مياه صالحة للشرب، وتوفير فرص عمل لجيوش الشباب العاطلين عن العمل وتحديداً الخريجين، وبدون هذه الأدوات لن تتمكن حكومة عبد المهدي من تهدئة الوضع في البصرة”.
وأكمل أن “التظاهر ضد انتخاب محافظ جديد من حزب معين، هي مسيسة وتقف خلفها جهات سياسية، تريد طرح مرشحها لهذا المنصب في وقت آخر، وهي تحاول استغلال ظروف البصرة، ومعاناة المواطنين، وركوب الموجة”، موضحاً أن “استمرار الإهمال الحكومي ودفع الشارع من قبل جهات سياسية، سوف يولد أعمال عنف خطرة، وربما أخطر من أحداث يوليو الماضي، والذي تمّ فيه إحراق مقار أحزاب والقنصلية الإيرانية في البصرة”.