شكّل قرار اتخذه مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع بتحميل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المسؤولية عن مقتل جمال خاشقجي، صفعةً مدوّية لدونالد ترامب. انعكاسات شتى، داخلية وخارجية، ستترتب على هذا الحدث الجلل، ليس أقلّها، داخلياً، تصدّع الحزب الجمهوري وابتعاد المزيد من شيوخه ونوابه في الكونغرس عن الرئيس العجيب الغريب المحسوب على حزبهم، وتعزيز فعالية الحزب الديمقراطي المعارض، الذي يمتلك الغالبية في مجلس النواب اعتباراً من أول العام المقبل 2019.
خارجياً، أصيبت هيبة إدارة ترامب بمزيد من الخيبة والتراجع، ما يشجع خصوم الولايات المتحدة على مناهضتها سياسياً وعسكرياُ في مناطق ومسارح عدّة، ولاسيما في دول غرب آسيا. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن عن عملية عسكرية جديدة شرق الفرات ضد «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تدعمها واشنطن، في حين تصنفها أنقرة تنظيماً إرهابياً وتعتبرها امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني» الذي يقاتل للحصول على حكم ذاتي للأكراد في جنوب شرق تركيا.
لطالما كانت أنقرة وواشنطن على خلاف حول سوريا، إذ دعمت الولايات المتحدة بالتسليح والتدريب«وحدات حماية الشعب» الكردية في القتال ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، الأمر الذي فسّرته أنقرة بأنه دعم غير مباشر للاكراد السوريين، كما للأكراد الاتراك لإقامة كيانات حكم ذاتي في كِلا البلدين تمهيدا لإقامة دولة كردية موحدة. وكانت تركيا شنّت عمليات عسكرية من قبل في شمال سوريا (محافظة حلب ) وغربها (عفرين) لكن قواتها لم تعبر نهر الفرات إلى الشرق، تجنباً لمواجهة مع قوات امريكية متموضعة في محافظتيّ الرقة والحسكة.
«البنتاغون» (وزارة الدفاع الامريكية) اعلن أن اي عمل عسكري أحادي الجانب من شأنه أن يقوّض ما أسماه «المصلحة المشتركة لتأمين الحدود بين سوريا وتركيا بصفة دائمة». الحقيقة أن ما يهم واشنطن ليس «تأمين الحدود» بين البلدين الغريمين، بل توفير الظروف الامنية والسياسية اللازمة لتحقيق غرضين: تفكيك سوريا خدمةً للكيان الصهيوني، وتأمين أوسع الفرص وأكبر الحصص للشركات الأمريكية المتطلعة إلى المشاركة في المشاريع المقبلة لاستخراج واستثمار النفط والغاز من منابعه الغنية في شمال سوريا وشرقها، حيث أقامت القوات الأمريكية قواعد ومطارات ومخازن أسلحة ومسارح تدريب وتجهيز.
إذا ما نفّذ اردوغان تهديده بغزو مناطق شرق الفرات، مستغلاً انشغال ترامب بإنعكاسات تمردّ الكونغرس على احتضانه لمحمد بن سلمان ودعمه السعودية في حربها الضارية على اليمن، فإن تأزيماً كبيراً مرجحاً سينشأ بين أنقرة وكلٍّ من موسكو وطهران ودمشق وبغداد. ذلك أن روسيا حريصة على وحدة سوريا واستكمال سيطرة جيشها على المناطق التي ما زالت في قبضة التنظيمات المسلحة في شرق البلاد (شمال غرب دير الزور) وغربها (إدلب) وستفسر هجمة اردوغان على الأكراد السوريين شرق الفرات بأنها هدية وخدمة عسكريتين وسياسيتين للولايات المتحدة لتبرير وتمديد وجودها العسكري غير المشروع وغير المقبول في شرق سوريا.
سوريا كانت وما زالت أشد الساخطين والرافضين للتمدد التركي في شمالها الشرقي، لكونها عانت وتعاني من مطامع أنقرة المزمنة في أراضيها ومواردها الطبيعية، ومن قيامها بفتح حدودها أمام المتشددين المتدفقين من كل انحاء العالم للانخراط في حرب وحشية، منذ نحو سبع سنوات، ضد شعبها ووحدتها الجغرافية والسياسية. من الواضح أيضاً أن إيران تشاطر سوريا قلقها ورفضها انتهاكات تركيا لسيادتها، كما مطامعها في أراضيها ومواردها، وكذلك العراق الذي يعاني أيضاً من الاعتداءات التركية المتصاعدة في شمال البلاد بدعوى ملاحقة الانفصاليين الأكراد.
إلى ذلك، ثمة تخوّفات مما قد يلجأ ترامب إلى فعله أملاً في إنقاذ هيبته المتراجعة. في هذا السياق، سرّب موقع “ميدل ايست آي” الإعلامي الالكتروني، كما صحيفة «معاريف» العبرية، اخباراً عن مبادرة لتلميع صورة ولي العهد السعودي، بهندسة لقاءٍ دراماتيكي له مع نتنياهو برعاية ترامب في البيت الابيض. مهندسو هذه المسرحية يرمون، في الداخل الأمريكي، إلى استنفار اليهود الامريكيين، والمسيحانيين الصهاينة، ودعاة تدويم سيطرة الرجل الابيض، والمحافظين عموماً للالتفاف حول الرئيس الابيض الحامل راية «أمريكا أولاً» (و«إسرائيل» أولاً وآخراً!) في وجه أعدائها من “إرهابيين إسلاميين» وشعوب ملوّنة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وغرب آسيا، تزحف بلا هوادة لإغراق أمريكا البيضاء، في ظنّه، بملايين البشر السمر المتخلفين والمتعصبين والفقراء.
في هذه الأثناء، يتابع نتنياهو وحلفاؤه العنصريون والمتطرفون حملة القمع والتنكيل والتقتيل المتصاعدة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، كما حملة تطبيع العلاقات بين «اسرائيل» وبعض بلدان الخليج.
كل ذلك تمهيدا، كما قيل، لتتويج محمد بن سلمان «رجل السلام في العالم» عشية إطلالة العام الجديد 2019 !
القدس العربي