شيّد الأمويون مسجد قرطبة في القرن الثامن الميلادي قبل أن يتحول إلى كنيسة بعد طرد المسلمين من إسبانيا عقب سقوط الأندلس. ولكن هل يمكن استرجاع صوت الأذان والكلام وصوت المطر داخل المسجد كما كان في عهد عبد الرحمن الداخل؟
نعلم من خبرتنا أن الصوت يتغير حسب المساحات ومواد البناء، وهذا موضوع مهم لدى المهندسين المعماريين والموسيقيين والملحنين على حد سواء، إذ تحتل العلاقة بين الفضاء والصوت مكانة مهمة في “علم الآثار السمعي” لكن ثمة مشكلة أساسية وهي كيف نعرف أو نسمع الصوت الذي يتشكل في مساحات لم تعد موجودة كما كانت؟
يصعب العودة بالزمن لمسجد قرطبة القديم، لكن باحثين من جامعة إشبيلية في قسم “الهندسة المعمارية والتراث والاستدامة” قاموا بإعادة تكوين محاكاة لأصوات الجامع القديم من خلال الانعكاسات والصدى وتسجيلات الارتداد من الكاتدرائية الحالية، واستخدموا برمجية خاصة لإعادة بناء العمارة الداخلية للمسجد خلال أربع مراحل مختلفة من البناء والتجديد لتكرار ما سمعه المصلون قديماً.
فُقدت العمارة الأصلية لبناء الجامع الذي يعود إلى القرن الثامن، وفُقد بالطبع تصميمه الصوتي الدقيق والمميز، إذ لا تبقى الأصوات محفوظة بين الآثار القديمة مثل النقوش والجدران، ولا يمكن اللجوء للقطع الأثرية لإعادة بناء الأصوات القديمة.
لكن لحسن الحظ فإن التطورات التكنولوجية في محاكاة الصدى وبرامج الصوتيات سمحت للعلماء بإعادة تقريب أصوات الفضاء القديم للجامع التاريخي.
ولسماع ما كان يسمعه الأندلسيون المسلمون في الجامع أواخر القرن الثامن، استخدم الباحثون برمجيات توضح كيف تغير الهندسة المعمارية نفس المقطوعة من الصلاة المسجلة، أو الصلاة اليومية.
وفي التكوين الأول للمسجد يبدو صوت الصلاة جهوريا ورنانا، بينما في النموذج الذي يحاكي التجديد الأخير للمسجد سُمع صدى الصوت كما لو كان يتلى من عمق كهف. بعبارة أخرى، دمرت هذه التجديدات والتعديلات الهندسة الصوتية للمسجد.
وكتب المؤلفون -في بحث نُشِر مؤخرًا في مجلة “علم الصوت التطبيقي”- أن عمليات توسيع الجامع فشلت في الحفاظ على الجانب الوظيفي الصوتي للمسجد، وأعطت الأولوية القصوى للجانب الجمالي المرئي بشكل أساسي.
وفي محاكاة للمسجد كما بدا عند تأسيسه عام 780 ميلادية، كان الصوت واضحا في جميع أنحاء المبنى. لكن توسعات وتجديدات البناء في وقت لاحق صنعت ما يسميه الباحثون “مناطق الظل الصوتية” حيث لا يمكن سماع سوى القليل من الصوت والصدى.
التصميم ونظام الصوت الذي أسسه عبد الرحمن الداخل وفرا احتياجات العبادة الإسلامية، لكن التوسعات اللاحقة أضعفت جودة الصوت والتواصل في أجزاء المسجد البعيدة عن جدار القبلة، وأدى التوسع الجانبي الأخير الذي تم بناؤه في عهد المنصور من أبي عامر إلى تدهور أكبر في جودة الصوت بسبب انفصاله عن بقية بناء المسجد.
وفي العصر المسيحي، أدت التحولات لجعل بناء المسجد مناسبا للاستخدام ككاتدرائية، إذ تم تعديل المساحات والفضاء الداخلي بشكل كبير، وتوفرت مساحات صوتية متعددة مختلفة عن النظام الصوتي الموحد الذي وفره المسجد.
جامع قرطبة
رغم تحوله إلى كنيسة عام 1236 عقب سقوط الأندلس وطرد المسلمين منها، فإن مسجد قرطبة حافظ على طابعه المعماري رغم التوسعات والتجديدات التي لحقت به قبل وبعد تحوله لكاتدرائية مسيحية بالقرن الـ 13، وكانت متسقة مع شكله الأصلي.
واستخدم في البناء أعمدة رومانية بعضها كان موجوداً بالفعل في المكان ذاته وبعضه تم إهداؤه من حكام المقاطعات الإيبيرية، واستخدم العاج والذهب والفضة والنحاس لتصميم الفسيفساء والزخارف، وتم ربط ألواح الأخشاب المعطرة بمسامير من الذهب، وتميز بأعمدة الرخام الأحمر.
تم بناء الجامع خلال قرنين ونصف القرن تقريباً، بدءا من العام 92 الهجري، في قرطبة العاصمة الأموية للأندلس، وتشارك المسلمون والمسيحيون في قرطبة في المكان ذاته الذي كان بعضه جامعا والآخر كنيسة، لكن عبد الرحمن الداخل اشترى جزءا الكنيسة وأضافه للجامع مقابل أن يعيد بناء ما هدم من الكنائس وقت دخول الأندلس.
وعام 340 هجرية شرع عبد الرحمن الناصر في بناء مئذنة كبرى للمسجد الجامع، ولاحقاً أضاف المنصور توسعة واهتم بالبناء. ولما سقطت قرطبة في أيدي القشتاليين سنة 1236 حولوا المسجد إلى كنيسة أسموها “سنتا ماريا الكبرى”. ومنذ ذلك الحين أخذ مظهر الجامع يتحول شيئا فشيئا إلى صورته الحالية، وأضاف إليه القشتاليون بعض الزيادات التي غيرت ملامحه لكنها لم تغير جوهر البناء.
لكن التغيير الأساسي حدث سنة 1523 ميلادية حين هدمت أسقفية قرطبة جزءا كبيرا من توسعة عبد الرحمن الأوسط، وبنت كاتدرائية.
ويحتفظ مسجد قرطبة اليوم بصورته الإسلامية رغم ما أصابه من تغيير بعد العهد المسيحي.
المصدر : الجزيرة