أخذت جانبا فى الممر الطويل جدا فى المطار الكبير جدا لأفسح الطريق أمام فوج سياحى صينى قدرت عدد أفراده بثمانين. كالعادة أبهرنى العدد والنظام والأناقة. أبهرنى أيضا خفة ما يحملون. أغلبهم لا يشترون. نسيت للحظة أنهم ينتجون كل شىء حتى تماثيل وحلى الأقدمين فى دول عديدة ورأيتها فى كل البلاد تحتل أغلب المعروض فى محال العاديات والتحف.
***
فى صالة انتظار بمطار القاهرة دار حديث قصير مع مسافر خمنت ثم علمت أنه خبير فى السياحة. كان أول من نقل لى التوقع بأن الصين بعد سنوات قليلة، قدرها بعشر سنوات لا أكثر، ستكون فى وضع يسمح لها بأن تصدر إلى العالم ما يقارب الخمسمائة مليون سائح سنويا. سبقنى خيالى إلى أرقام شبه خيالية عن عدد الليالى السياحية التى سوف يشغلها هؤلاء الصينيون خارج الصين وعدد الطائرات التى يجب أن تنتجها الشركات الأوروبية والأمريكية والروسية والصينية لنقل هؤلاء السياح، فضلا عن ضخامة التسهيلات المطلوب توفيرها من الآن وبرامج الترفيه وتطوير الخدمات الفندقية وتدريب العمال والموظفين بما يتناسب وهذه التدفقات الضخمة القادمة من الصين خصيصا لنا أو مرورا بمطاراتنا وانتقالا بطائراتنا وحافلاتنا وقطاراتنا.
سمعت من رفيق الانتظار ما يثبت صدق ما سبق أن سمعت من زوار أوروبيين وخبراء سياحة مصريين عن الحال الراهنة لصناعة السياحة المصرية، وما يؤكد أننى لم أظلم أحدا فى مصر حين نقلت إلى بعض المسئولين والأصدقاء تجارب عن بعض ما عشت وعاش آخرون فى فنادق ومراكب نيلية فى الآونة الأخيرة. يهمنى الآن أن أكرر تحذير هذا الخبير إلى ملاك شركات الفنادق والسياحة إنهم إذا لم يسرعوا بتحسين أحوال موظفيهم برفع مرتباتهم وزيادة مكافآتهم من جميع الرتب والتخصصات، وإذا لم ينشئوا فورا معاهد تدريب عصرية ومتخصصة، كالاستعداد مثلا للطفرة الصينية التى تحدث عنها هذا الخبير، فإن شركاتهم وصناعة السياحة بأسرها سوف تفقد فرصة تنتظرها على قدم وساق دول جنوب أوروبا وإسرائيل وتركيا بالإضافة إلى السوق المعتادة فى أمريكا ودول غرب أوروبا.
***
لم تكن السطور السابقة ضمن مخططى لمقال اليوم الذى خصصته لمناسبة مرور أربعين عاما على بدء الصين مسيرة الإصلاح الاقتصادى. عادة لا أجيد فن الاحتفال بالمناسبات ولكن هناك من المناسبات ما يثير جدلا يهمنى أن أشارك فيه بحكم وجودى طرفا أو مراقبا من الداخل أو كونى فضوليا لم يفلح أحد فى كبت فضوله. قرأت قبل يومين فقرات اجتزأتها وكالات الأنباء من خطاب الرئيس الصينى شى بمناسبة مرور أربعين عاما على بدء تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى، البرنامج الذى نقل الصين من حال دولة نامية فى وضع شديد التخلف إلى دولة باقتصاد هو الثانى بين الأضخم فى عالم اليوم.
أتوقف هنا قليلا لأتمعن فى مغزى اختيارى كلمة برنامج لتسبق عبارة الإصلاح الاقتصادى ولأتمعن أيضا فى العبارات التى اختارها الرئيس شى لشرح معضلة الحزب الشيوعى فى التعامل الأيديولوجى مع أسس التنمية وأهدافها. واضح لى كل الوضوح أن جميع الرؤساء الصينيين بدءا بالرئيس دينج شياو بينج الذى أطلق الإصلاح ومرورا بمن تولوا بعده سكرتارية الحزب ورئاسة الدولة مثل الرئيس جيانج زيمين الذى احتفل بالعيد العشرين والرئيس هو جنتاو وقد احتفل بالعيد الثلاثين، جميعهم كان شغلهم الشاغل سمعة الحزب ومكانته فى المجتمع ودوره فى تحقيق التنمية. جميعهم ركزوا فى خطابات الاحتفال بالذكرى على أن الحزب «هو المهيمن ودائما على حق» وأن الحزب هو الذى «صمم ويحرس رخاء الصين واستقرارها»، وأن الحزب «لا يخطئ». طالبوا جميعا بضرورة «الاستمرار فى دعم قيادة الحزب وتعزيز طاعة الشعب لها ووجوب تقويتها وتحسينها». الحزب لم يخطئ لأنه لا يخطئ. دليلهم، كما يقول الرئيس شى فى الاحتفال بمرور أربعين عاما على انطلاق مسيرة الإصلاح أن» سياسات الحزب الاشتراكية خلال أربعين سنة كانت صحيحة».
***
يعرف كل من تابع صعود وانحدار التجربة الصينية فى التنمية خلال مراحلها المتعددة أن وفاة الرئيس ماو فى عام 1977 مهدت لإطلاق مسيرة الإصلاح فى ديسمبر 1978، أى قبل أربعين عاما. يعرف أيضا أن الرئيس ماو قاد بنفسه مرحلة من تاريخ الصين الحديث اعتبرها كثير من الكتاب الغربيين جزءا لا ينفصل عن المسيرة الكبرى لإصلاح الصين، والتى أطلق إشاراتها الرئيس ماو فى عام 1949 يوم أعلن اكتمال تحرير الصين ودشنها دولة اشتراكية يقودها الحزب الشيوعى الصينى. هذه المسيرة ذاتها قام بتطويرها الإصلاحيون الجدد وفى مقدمتهم الرئيس دينج شياو بينج. لا يزال الحوار دائرا حول سؤال لم يجد حتى الآن جوابا عمليا شافيا وإن وجد أحيانا جوابا أيديولوجيا أو قمعيا أخرس النقاش وكتم الحوار. للسؤال صيغ شتى. إنما يدور فى جوهره حول دور الأيديولوجيا، وتحديدا الماركسية اللينينية واقتصاد السوق، فى تنمية الصين وصعودها السريع إلى القمة.
***
يسألون مثلا إن كان يمكن للإصلاحيين الجدد أن يطلقوا «برنامجهم» لو لم يطلق الرئيس ماو برنامجه فى عام 1949 وقبل هذا التاريخ فى الأقاليم التى سيطر عليها قبل استيلائه على عاصمة الدولة. لو لم يبدأ بالقضاء على زراعة المخدرات وترويجها وعلاج المدمنين وعلى عناصر الفساد وأمراء الحرب والإقطاع لما استطاع الإصلاحيون الجدد تنظيم الزراعة لخدمة هدف تراكم الثروة الرأسمالية وتنمية القطاع الخاص وتشجيع التبادل التجارى. لم تحاول قيادة الحزب فى كلتا المرحلتين اتباع كتاب واحد ومحدد للإرشادات. لم تسمع إلى أحد فى الخارج لمدة طويلة. لم تعتمد على تعاليم شيوعية بشكل مطلق أو اقتصاد السوق بشكل قطعى. التجربة من أساسها برجماتية. أحسن الرئيس دينج شياو بينج التعبير عنها بالمثل الصينى المعروف «لا تسل عن لون القطة، المهم عدد الفئران التى أفلحت فى الإمساك بها».
***
لا برنامج واضح المعالم يعتمد أسسا أيديولوجية بشكل دوجماتى مطلق أو جامد. بكلمات أخرى لا نموذج صينى متفرد. كثيرون ينسبون نجاح الإصلاح الاقتصادى الصينى إلى اعتماد الحزب على السوق والنشاط الفردى. آخرون يعتقدون أن نجاح الصين يؤكد الفائدة الكبرى من إتباع نموذج قيادة الدولة للاقتصاد. فى الوقت نفسه كان هناك دائما بين النقاد من يحمل تدخل الدولة أخطاء الاقتصاد الصينى، ومن حملوا سياسات حرية الاقتصاد مسئولية أخطاء الممارسات الاقتصادية للإصلاحيين الجدد فى الصين. سر النجاح يكمن فى النموذج غير القابل للتكرار وهو الحزب الشيوعى الصينى. وإذا كان النموذج غير قابل للتكرار فهو فى الواقع لا يصلح كنموذج بل وتنتفى عنه هذه الصفة. لذلك ابتكر الصينيون أيام الرئيس ماو عبارة «بصفات أو سمات صينية» كإضافة واجبة لكلمة الاشتراكية ثم لعبارة «اشتراكية السوق» أيام الإصلاحيين الجدد.
***
لا أتخيل التجربة الصينية فى الثورة كما فى الإصلاح الاقتصادى قابلة للتكرار بدون تعديلات أو ابتكارات جوهرية. لقد اعتمدت الصين على خبرة فريدة هى بالفعل لم تتوافر لبلد آخر ألا وهى الحزب الشيوعى الصينى، ولا أظن أن قيادة بحجم وعبقرية القيادة الراهنة أو قيادة الرئيس الذى أطلق شرارة الإصلاح فى عام 1978 أو حتى قيادة الزعيم ماو تسى تونج كانت تستطيع أن تحقق حلم تغيير المجتمع الصينى ونقله من حال تخلف إلى فوضى شبه محكومه أو منظمة إلى حال دولة مستقرة ثم نحو مسيرة صاعدة بحزم وثقة فى دولة بمساحة الصين وحجم سكانها وثقل تراثها السياسى وتعقيدات العلاقة التاريخية بين الشعب والسلطة، لو لم يكن هناك الحزب الشيوعى الصينى. هذا الحزب يؤدى وظيفة الديموقراطية ومؤسساتها من حيث التجنيد للمناصب جميع والرقابة على السلطة التنفيذية. من ناحية ثانية يساهم الحزب من خلال وضعه كمستودع للأفكار والاقتراحات والمعلومات بتقديم المشورة للسلطتين التشريعية والتنفيذية. من ناحية ثالثة يقوم الحزب بتصحيح الأخطاء التى يرتكبها مسئولون أو مؤسسات أو تتسبب فيها سياسات قبل أن تصل إلى الرأى العام ويجرى تصحيحها بعيدا عن عيون رقباء الأمن والإعلام والدول الأجنبية، أى دون الظهور بمظهر الخضوع لجهة أخرى. من ناحية رابعة، نعرف أن من أدوار الحزب أن يعطى الانطباع بوجود درجة من النقد الذاتى بدون خوف من الفلتان السياسى والإعلامى، وبخاصة بين الشباب. كان واضحا فى الآونة الأخيرة صعود هذا الدور بعد أن حققت التكنولوجيا فى الصين تقدما هائلا فى خدمة أجهزة الأمن، مثل إنتاج كاميرات التعرف على الوجوه فى المؤتمرات والتجمعات المليونية. من ناحية خامسة، ازدادت ثقة الحزب فى نفسه وفى وظائفه وأدواره بعد أن أصيبت الممارسات الديموقراطية والليبرالية فى الغرب بل وفى العالم كله لانكسارات شديدة مثل صعود ديماجوجية جديدة فى شكل شعوبيات يمنية ويسارية ومثل الأزمات الاقتصادية الممسكة بخناق أغلب الرأسماليات الغربية ومثل الميل المتصاعد فى العالم النامى لإقامة حكومات سلطوية واستخدام متزايد للقمع.
***
ما إن انتهيت من كتابة مقالى حتى اتصلت بصديق فى الصين أسأله عن صدى خطاب الرئيس شى فى مناسبة العيد الرابع لتدشين «برنامج» الإصلاح الاقتصادى. لم يجب على سؤالى إلا أنه قال بحماسة ملحوظة «يا صديق عمرى ورفيق دربى، الصين تقدمت خلال العام الأخير بأكثر مما تقدمت خلال السنوات الخمس الماضية». تأملت فى حماسته ثم فى كلماته، ولم أعلق.
جميل مطر
الشروق