خسائر أمريكية بالجملة بعد الانسحاب من سوريا

خسائر أمريكية بالجملة بعد الانسحاب من سوريا

حاول الرئيس الأمريكى ترامب أن يعالج طريقته المتخبطة والمتسرعة فى الانسحاب من سوريا فارتكب ما هو أفدح، فقد أمر بنقل القوات إلى العراق وليس سحبها وعودتها إلى الوطن وفق بيانه الأول، ثم توجه سرا إلى قاعدة عسكرية أمريكية فى العراق، فاجأت المسئولين العراقيين، وهناك ارتكب خطيئة لا يمكن غفرانها، وهى أنه أرسل لقادة العراق ما يشبه الاستدعاء ليلتقى بهم فى جناح القوات الأمريكية فى قاعدة عين الأسد العراقية، متذرعا بأن الإجراءات الأمنية تمنعه من اللقاء بهم فى بغداد أو الجناح العراقى فى القاعدة، وهو ما وصفه قادة العراق بالتصرف غير اللائق والمسيء، ولهذا رفض كل من رئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس الجمهورية دعوة ترامب ليلتقى بهم على أرض العراق، وهو ما دفع معظم الكتل البرلمانية إلى المطالبة برحيل القوات الأمريكية من العراق، واعتبرت سلوك ترامب مهينا للعراق، واعتداء على سيادته، وأن الرد السريع هو ضرورة إصدار قرار من البرلمان يلزم الحكومة بوضع برنامج زمنى لخروج القوات الأمريكية التى فقدت مبررات وجودها بهزيمة داعش. كان الرئيس الأمريكى ترامب قد أراد التخفيف من حدة الانتقادات الموجهة إليه بالتسرع فى سحب القوات الأمريكية من سوريا، وعدم التنسيق مع الحلفاء ولا دراسة التداعيات، فأراد أن يقول لهم: لا تقلقوا فلدينا قوات فى العراق قادرة على القيام بنفس المهام فى سوريا، بل أضاف أن القوات الأمريكية فى العراق ستراقب تحركات وسلوك الجارة إيران، وهكذا انطلق الفيل الأمريكى فى قاعات الخزف والزجاج، يحطم كل ما يقابله، فالقوات الأمريكية فى العراق حسب الإتفاق بين البلدين هدفها التدريب على الأسلحة الأمريكية التى اشتراها العراق، إلى جانب مشاركة الطائرات الأمريكية فى ضرب معاقل داعش، وليس بينها أى مهام فى سوريا أو إيران، ليضع ترامب قادة العراق فى مأزق، ويدفعهم دفعا إلى الرد على إساءاته بقوة، فصدرت الأوامر بأن يقصف الطيران العراقى مواقع لداعش فى شرق سوريا، بل ويعلن العراق عن تنسيق عسكرى مع سوريا، يمنح جيش كل دولة القيام بمهام داخل أراضى الدولة الأخرى دون الحاجة إلى موافقة مسبقة، وهو ما يعنى أن مستوى التنسيق العسكرى والسياسى بين بغداد ودمشق بلغ مستوى غير مسبوق، وأن علاقة البلدين بلغت حد التحالف العلني.

إن الانسحاب الأمريكى من سوريا ليس أول ولا آخر الانسحابات الأمريكية، لكنه أشدها تخبطا وارتباكا، ويعكس مدى تردى مستوى صانعى القرار فى أكبر قوة عسكرية واقتصادية فى العالم، فالخسارة الأمريكية لم تعد تقتصر على الإنسحاب من سوريا، ولا العراق من بعد سوريا، وإنما فى فقدان الثقة الواسع، بدءا من أكراد سوريا إلى باقى الحلفاء فى المنطقة والشريكتين فرنسا وبريطانيا، وانتهاء بالجنود والضباط الأمريكيين الذين صدرت لهم الأوامر بالانسحاب والعودة، ليجدوا أنفسهم فى العراق. هكذا أفسد ترامب كل شيء، فقد أراد إرضاء منتقدى خروج القوات الأمريكية من سوريا، فقرر نقلها إلى العراق اعتقادا أنه الأكثر أمانا، وأن ينضم ألفا جندى من سوريا إلى خمسة آلاف فى العراق لتشكيل قوة قادرة على التأثير فى مجريات الأحداث، لكنها ستجد نفسها فى مواجهة الجيش العراقي، ويتربص بها الحشد الشعبي، ومن خلفهم الحرس الثورى الإيرانى، ولن ينصت أكراد العراق لترامب بعد أن خذلهم عقب استفتاء الانفصال، وخسروا بسببه الكثير، ولن يثقوا فى الولايات المتحدة مجددا، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلى بدأ يشعر بالقلق، ويجد نفسه مضطرا إلى المجازفة بشن غارات على سوريا، وهو يعرف تماما أن تلك الغارات ليست إلا صرخة غضب لإثبات الوجود وإبعاد الخوف، فالغارات يتم إبلاغ روسيا بها مسبقا، لتبلغها روسيا إلى الجيش السورى المستعد بصواريخه للتدريب على إسقاط الصواريخ الإسرائيلية، بينما الرياح غير المواتية تهب على إسرائيل، التى كانت تتهيأ للإحتفال بقرب التطبيع العربى الواسع على أنغام صفقة القرن، لكن العرب اندفعوا نحو سوريا وأعادوا فتح سفارات فى دمشق وليس تل أبيب أو القدس كما كان يتمنى نيتانياهو، لأن الثقة تتراجع فى الولايات المتحدة وإسرائيل، ولابد من إعادة النظر فى ذلك المسار الذى لم يوفر لأى من الدول التى راهنت عليه أى أمن أو تنمية ولا ثقة.

الدول العربية التى كانت تعادى سوريا علنا، وتعد الأيام التى سيسقط فيها النظام تندفع الآن نحو التطبيع مع دمشق، ليس لثقتها فى أنها قادرة على تدوير زوايا دمشق بعيدا عن طهران وموسكو، فلا يوجد أى مبرر لمثل هذا الاعتقاد، إنما الأمر متعلق بالمخاوف من تراجع قدرة الولايات المتحدة، وفقدان الثقة فيها، وهو ما يجعل الرهان على الولايات المتحدة مقامرة محفوفة بالمخاطر، فالحقيقة أن بوادر أفول عصر النفوذ الأمريكى أصبحت أكثر وضوحا.

الاهرام