كان من المفترض أن تؤدى جولة كل من جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكى ومايك بومبيو وزير الخارجية إلى معالجة تداعيات قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا، وهو القرار الذى أثار العشرات من علامات الاستفهام حول ما يريده الرئيس الأمريكى من هذا القرار، ليس فقط خارج الولايات المتحدة وبالذات فى الشرق الأوسط وبالتحديد لدى حلفاء وأعداء واشنطن، كل من منظور مصالحه، بل أثار أيضاً علامات استفهام داخل الولايات المتحدة فى مؤسسات الدولة الأمريكية وبالتحديد فى الكونجرس ووزارة الدفاع «البنتاجون»، لكن على العكس فاقمت هاتان الجولتان من غموض تلك الاستفسارات.
فى مقدمة علامات الاستفهام تلك كان السؤال عن هل قرار الرئيس الأمريكى يعبر عن «مزاجية سياسية»، أو «جنوح سياسي» من الرئيس الذى اعتاد أن يتخذ العشرات من القرارات الجانحة أم أنه وليد فكر إستراتيجى له خلفياته، أو بوضوح أكثر أن هذا القرار تعبير عن مشروع سياسى للرئيس الأمريكى وله من يؤيدونه.
السؤال الثانى الذى لا يقل أهمية كان حول: كيف ستحل واشنطن تناقضات المصالح بين حلفائها التى تفجرت بسبب قرار الانسحاب العسكرى الأمريكى من سوريا؟ الاستفهام الأول وجد من يبرره بالقول إن الرئيس الأمريكى له مشروعه السياسى الذى لا ينسجم مع المؤسسة الأمريكية التقليدية الحاكمة، هذا المشروع يعبر عن كتلة جماهيرية أمريكية واسعة لم تعد ترى أولوية أو ضرورة للتورط فى حروب خارجية دفاعاً عن شعوب أخرى تكلفها مئات المليارات من الدولارات يجب إنفاقها فى الداخل الأمريكى والأهم من الأموال العسكريون الأمريكيون أنفسهم. فهذه الكتلة الشعبية الأمريكية باتت ترفض إرسال أبنائها ليموتوا خارج بلدهم دفاعاً عن شعوب أخرى.
لم يعد مقبولاً أمريكياً إرسال قوات أمريكية تقاتل فى دول عربية أو غير عربية. من هنا كانت دعوة ترامب للدول العربية: «من يريد من أمريكا أن تدافع عنه عليه أن يدفع ثمن حمايته»، ولكن يبدو أنه تراجع عن هذا الشعار ولم يعد مستعداً لإرسال قوات أمريكية لتقاتل فى الخارج حتى ولو كانت مدفوعة الثمن مقدماً. تنفيذ هذا القرار ليس سهلاً فهو يعبر عن انسحاب إستراتيجى أمريكى وانكماش فى السياسة الخارجية وتراجع عن الالتزام وهذا ما يرفضه الكونجرس وترفضه وزارة الدفاع وكبار الجنرالات فهم يعتقدون أن أثمانه فادحة على الأمن القومى والمصالح الأمريكية العليا، وربما يكون الصراع حول هذه السياسة الانكماشية الجديدة هو أبرز معارك ترامب فى معركة تجديد ولايته رئيساً للولايات المتحدة عام 2020، لكن تبقى الورطة الأهم وهم الحلفاء فى الشرق الأوسط، ولذلك جاء بولتون لهدفين: طمأنة إسرائيل من جدية الالتزامات الأمريكية بالدفاع عنها فى ظل قرار الانسحاب العسكرى الأمريكي، وحل أزمة صدام المصالح بين الحليفين التركى والكردى فى شمال سوريا.
أما وزير الخارجية مايك بومبيو فجاء ليؤسس تحالفاً إستراتيجياً إقليمياً تقوده أمريكا تحت اسم «الناتو العربي «يضم الدول التى زارها فى جولته (دول مجلس التعاون الخليجى + مصر والأردن) وربما العراق مستقبلاً التى يبدو أنها ستكون أصعب بؤر المواجهة مع إيران. الهدف المعلن لهذا الملف هو مواجهة إيران. فقد صرح بومبيو أكثر من مرة أن «الولايات المتحدة تضاعف جهودها للضغط على إيران وتسعى لإقناع حلفائها فى المنطقة بأنها ملتزمة بمحاربة (داعش) على الرغم من قرار ترامب سحب قواته من سوريا».
تصريحات بومبيو كانت محاولة لإقناع الدول العربية التى زارها بأن الولايات المتحدة لن تتخلى عنها، ولن تنسحب من المنطقة، ولن تتوقف عن القتال ضد «داعش» والهدف هو إقناع هذه الدول بالدخول فى عضوية الحلف الذى تريده الولايات المتحدة وإسرائيل لمواجهة إيران.
بومبيو جاء إلى المنطقة وهو يدرك أن الانسحاب الأمريكى والقرار الذى يعبر اتخذه الرئيس ترامب قرار لا رجعية فيه، لأنه يعبر عن مشروع سياسي- اقتصادى داخلي، وسيكون على رأس أولويات حملة ترامب الانتخابية القادمة.
وجاء أيضاً وهو يدرك تداعى ثقة الدول العربية الصديقة فى الالتزامات الأمريكية، بالدفاع عنها وتوفير الحماية لها، وبدلاً من أن يقدم مشروعاً سياسياً يرضى الدول العربية سواء من منظور الأمن أو من منظور الحل العادل للقضية الفلسطينية، جاء ليطالب الدول العربية أن تشارك واشنطن فى الدفاع عن إسرائيل ضد إيران.
تصريحات بومبيو خلال جولته فى المنطقة، ووعوده لرئيس الحكومة الإسرائيلية خلال لقائهما فى البرازيل ضمن حفل تنصيب الرئيس البرازيلى الجديد الذى ينوى نقل سفارة بلاده إلى القدس، وأيضاً تصريحات بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية تؤكد أن اقتراح الحلف الجديد يأتى ضمن بنود «مشروع السلام الإسرائيلي»، سواء فى بُعده الإقليمى من خلال تجييش الدول العربية الصديقة لمشاركة إسرائيل فى المواجهة ضد إيران، أى تتولى الدول العربية مهمة الدفاع عن إسرائيل ضد إيران، كما أنه يأتى ضمن التمرير الصامت لمشروع «صفقة القرن» الأمريكية التى هدفها التصفية النهائية للقضية الفلسطينية بقبول عربى ما يعنى أن مقترح الحلف سيكون أيضاً قوة داعمة لـ «خريطة الطريق» التى باتت مفروضة كأمر واقع على الأرض دون إعلان سياسى أو إعلامى من خلال الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، ومن خلال التآمر على «حق عودة اللاجئين» ومن خلال الاعتراف ودعم سياسة التوسع الاستيطانى الإسرائيلي.
بومبيو لم يكمل جولته، ولم يزر الكويت ضمن هذه الجولة، وعاد إلى بلاده تحت زعم «المشاركة فى جنازة».
عاد بومبيو إلى واشنطن وهو يحمل معه الكثير من الخيبة ومؤشرات الفشل فى مهمته التى جاء من أجلها فالتشكك مازال قائماً والأولويات باتت متباعدة.
يحدث هذا فى الوقت الذى ذهب فيه محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيرانى إلى العراق ليؤكد من هناك أن طهران تستعد للمواجهة مع الأمريكيين من خلال الدفاع عن قلاعها الإقليمية الحصينة خاصة العراق، ما يعنى أن المنطقة مقبلة على مواجهات ساخنة، أسوأ ما فيها كل هذا القصور العربى عن البوح بما يجب أن يكون بدليل الإفشال العربى المتعمد للقمة الاقتصادية العربية التى عُقدت فى بيروت أمس الأول الأحد، إفشال غير مقبوض الثمن، فهى وقت يتبارى فيه الآخرون على قبض الأثمان.