بعيدا عن دبلوماسية إطفاء الحرائق والدعوات إلى التهدئة للفوضى التي تعم الشرق الأوسط من غزة إلى السودان وسوريا، كانت الحروب أداة لرسم الإستراتيجيات وتغيير ديناميكيات السلطة في المنطقة. ويشير محللون إلى أن حرب غزة من شأنها أن ترسم مستقبل دول أخرى.
غزة – يرى محللون أن الوضع في غزة يمكن أن ينذر بمستقبل دول أخرى في المنطقة مثل الأٍردن والسودان ولبنان وأيضا سوريا ما لم يكن هناك تحول جماعي بعيداً عن نموذج الحرب كوسيلة لهندسة أنظمة جديدة من خلال زعزعة الاستقرار.
وتقول سارة نيومان، المحللة السياسية المتخصصة في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية وسياسة الشرق الأوسط ، في تقرير نشره موقع مودرن بوليسي إنه في 25 يوليو 2006، وفي خضم الخلفية المضطربة للصراع الإسرائيلي – اللبناني، أعربت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، عن رؤية للتحول خلال زيارتها إلى القدس. وافترضت أن الحرب المستمرة كانت نذيراً بـ«شرق أوسط جديد»، حيث ستعيد القوى الديمقراطية والليبرالية تشكيل المشهد الجيوسياسي. وبعد ما يقرب من عقدين من الزمن منذ ذلك الإعلان، كان مسار سعي الولايات المتحدة إلى “التغيير” يتعرج عبر الشرق الأوسط إلى أفغانستان، ثم إلى العراق، ثم امتد نطاقه نحو الصين، وروسيا، وأوروبا الشرقية.
وقد تجلت رحلة التغيير هذه في أشكال مختلفة: من تصعيد الوجود العسكري في أوروبا الشرقية إلى فرض الحظر على روسيا والصين، ومن مكافحة الإرهاب إلى تشكيل تحالفات مع كيانات مثل طالبان.
ويمثل الصراع في أوكرانيا، الذي تقوده روسيا، جنباً إلى جنب مع المناورات الإستراتيجية التي تقوم بها إيران وروسيا في سوريا ولبنان، واحتمال مشاركة الصين في تايوان، موقفاً جماعياً ضد تيار التحولات الجيوسياسية الاستعمارية الجديدة.
الحروب أداة لإثارة التحولات السياسية والإقليمية، وتعزيز ظهور تحالفات وائتلافات جديدة، وإعادة تعريف الحدود
واختارت هذه الدول بديلاً للخيار الثنائي المتمثل في الاستسلام أو الإبادة، رافضة المعايير الراسخة للإصلاح الجيوسياسي.
وقد حفّز هذا التحدي تحولاً في ديناميكيات القوة ودعم حركات المقاومة، مما أدى إلى تقليص الهيمنة الأميركية التقليدية، وخاصة في الشرق الأوسط والعالم، ما يشير إلى أن مثل هذه التطورات ليست فعالة في فرض سياسات تحويلية من خلال الحرب.
وترى نيومان أن التفاعل بين الحرب والأهداف الإستراتيجية أمر معقد، ولكن بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أصبح الشرق الأوسط الكبير بمثابة قماش للتغيير، يتم استخدامه من خلال أدوات الحرب.
وفي هذا الإطار، ليست الحرب نتيجة حتمية، بل هي أداة لإثارة التحولات السياسية والإقليمية، وتعزيز ظهور تحالفات وائتلافات جديدة، وإعادة تعريف الحدود ما يؤدي الى التغيير في ديناميكيات السلطة.
ومن الممكن أن تؤدي الاشتباكات العسكرية إلى إعادة ضبط توازن القوى الإقليمية، مما يؤدي في الوقت نفسه إلى تقويض وتمكين حكومات وفصائل محددة.
حرب غزة من شأنها أن ترسم مستقبل دول أخرى مثل الأٍردن والسودان ولبنان وسوريا
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للصراعات أن تضخم الخطابات الأيديولوجية، مما قد يؤدي إلى تعزيز المبادئ الديمقراطية أو التطرف الديني، ويتوقف ذلك على أصحاب المصلحة المعنيين.
ومن الناحية الاقتصادية، يشكل الصراع من أجل السيطرة على الموارد والهيمنة التجارية دافعاً مركزياً في الحرب، وله آثار عميقة على التضاريس الاقتصادية للعالم.
ويشكل السعي إلى الهيمنة الدولية بعدا آخر، حيث تعمل القوى الخارجية غالبا على إثارة الصراعات لتوسيع نفوذها الإقليمي. ويتم تحفيز هذا الميل إلى صنع الحرب، والذي يتم تسهيله من خلال الانفصال الجغرافي وانخفاض التكاليف المباشرة.
وعلاوة على ذلك، يلعب الإرث الاستعماري في الشرق الأوسط واحتياطيات الطاقة الحيوية دوراً مهماً في إعادة تنظيم السلطة وتقاسم المصالح في مرحلة ما بعد الحرب.
وفي هذا السياق فإن الحروب الدائرة في المنطقة، وخاصة بين إيران وإسرائيل، وإسرائيل وفلسطين، والتنافس الأوسع على الهيمنة بين القوى العالمية مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، تؤثر حتماً على الأمن العالمي، والاستقرار الاقتصادي، ورفاهية الإنسان.
الصراع الدائر في الشرق الأوسط هو استمرار للاتفاقات السرية، التي تذكرنا بـ”صفقة القرن” و”خطة السلام الكبرى للشرق الأوسط”
وفي منطقة حيث رسمت اتفاقية سايكس بيكو سراً حدوداً وطنية، أصبحت العلاقة بين الحرب والإستراتيجية بمثابة محنة مستمرة في الشرق الأوسط.
وأدت بصمة السياسة الخارجية الأميركية إلى تحويل حل النزاعات الإقليمية بعيداً عن السبل الدبلوماسية، وأصبحت بدلاً من ذلك بمثابة تذكير صارخ بالتفويضات المفروضة سراً في العام الماضي. وفي هذا السياق، برزت الحرب كأداة لفرض النتائج من جانب واحد.
ويهدد الصراع الذي بدأته إسرائيل، والذي يتماشى كما يزعم مع أهداف الولايات المتحدة لإعادة تشكيل المشهد في الشرق الأوسط، بالتصعيد إلى ما هو أبعد من حدوده الأولية، وربما يتصاعد إلى مواجهة عالمية.
إن الصراع الدائر في الشرق الأوسط هو استمرار للاتفاقات السرية، التي تذكرنا بـ”صفقة القرن” و”خطة السلام الكبرى للشرق الأوسط”، التي سعت إلى فرض الهيمنة من خلال الإكراه والضغط من أعلى إلى أسفل.
ولقد تجاهلت هذه الجهود حقيقة أن قضايا المنطقة ظلت دون حل لأكثر من سبعين عاما، وأن النهج الأحادي لا جدوى منه.
ويسلط الدمار الأخير في غزة والتهديد الذي يلوح في الأفق بنشوب صراع كبير بين إيران وإسرائيل الضوء على حقيقة صارخة: لم تعد الولايات المتحدة راعية النظام والأمن العالميين كما كانت في السابق، بل أصبحت مشاركًا في نفس الاضطرابات التي تسعى إلى إشعالها.
وقد تمثل هذه اللحظة منعطفًا حاسمًا لدول الشرق الأوسط للتحرر من التبعية الشبيهة بمتلازمة ستوكهولم وإعادة ضبط علاقاتها الخارجية.
العرب