منذ زياراتي الأولى للسودان في التسعينيات، اعتقدت أن ضعف السودانيين يكمن في طيبتهم الفطرية التي استمدوها، كما يبدو لي، من تراث الحياة الريفية والبدوية ما قبل الصناعية والتجارية الحديثة. قد يعني هذا أن من صفات الشعب السوداني، ككثير من الشعوب الأخرى، الصبر والبحث عن الانسجام مع الآخر، والتعاطف مع الآخر، وبالتالي النفور من العنف، ما يزيد من فرص استتباب السلام والاستقرار في البلاد، على الرغم من وجود أسبابٍ لا تُحصى لتفجير أزماتٍ لا تزال تتفاقم منذ نصف قرن. وقد ساعدت روح التسامح السودانية على ترسيخ تقاليد ديمقراطية، أو بالأحرى تعدّدية، لا تزال آثارها ماثلة في تعدّد الأحزاب والنقابات والمنظمات المدنية، لكن هذه الصفة الحميدة التي حفظت للسودان المتنوّع الأعراق والثقافات، والممتد على مساحة قارة كاملة، وحدته واستقراره النسبيين، عقودا طويلة، ليست أبدية، ولا تشكل ضمانةً ضد انفجار العنف، عندما لا يبقى فسحة للأمل، ولا حيز للأريحية والحياة الإنسانية الكريمة.
هذا ما حصل بالضبط منذ أن تسلم عمر حسن البشير وحزبه السلطة، وسيطر على البلاد بالقوة منذ انقلاب 1989، وما تفاقم عبر الانتفاضات التي لم تتوقف منذ نهاية القرن الماضي. وكان أول آثارها الكبرى انفصال الجنوب الذي شكّل ضربة كبرى للسودان، وحرمه مما يقدر ب 60% من موارده السابقة. وأعقب ذلك، منذ بداية القرن، انتفاضات وحروب أهلية رافقتها في إقليم دارفور خصوصا مجازر شنيعة، خرج النظام منها أقوى عسكريا، ولكن أضعف بما لا يقاس سياسيا.
لكن نظاما يستند إلى القوة، ويلغي السياسة، ليس نظاما قويا. بالعكس، إنه نظام ملغوم يقود
“ساعدت روح التسامح السودانية على ترسيخ تقاليد تعدّدية، آثارها ماثلة في تعدّد الأحزاب والنقابات والمنظمات المدنية” نفسه بقدميه إلى حتفه، فبمقدار ما ينفي السياسة، ويحمي النخبة الحاكمة من الضغوط الاجتماعية التي تحثّها على العمل، يلغي فرص إصلاحه الداخلية، فالسيطرة الدائمة على الدولة ومواردها تجعل من هذه النخبة نخبةً مكرّسةً، لا حاجة لها لبذل الجهد، وتنمّي داخلها من وشائج القربى والتعاطف ما يفصلها في مرحلةٍ ثانيةٍ كليا عن المجتمع والنخب الاجتماعية الأخرى، ويولد لديها مشاعر تملك حقيقي تجاه الدولة ومواردها، تجعل من الفساد أمرا عاديا، بل “مشروعا”. لذلك ليس من المصادفة أن يكون كشف حساب النظام السوداني، الحاكم في الخرطوم منذ ما يقرب من 30 عاما، أحد أسوأ كشوف حسابات الدول العربية لحقبة ما قبل الثورات. وهو يقف اليوم حائرا أمام امتحان انتفاضة 19 ديسمبر 2018، التي فجرها جمهور سوداني لم يفقد الأمل بالإصلاح فحسب، وإنما دخل معركة حسم الصراع مع نخبةٍ سياسيةٍ حاكمةٍ تخلى عنها كما تخلت عنه، ولا أحد يشك في إفلاسها.
(2)
منذ الأيام الأولى للاحتجاجات، كان من الواضح أن السودان يعيش تجربة انتفاضةٍ شعبيةٍ مماثلةٍ لما عاشته الشعوب العربية الأخرى، وأن هذه الثورة لن تكون فقاعة، وإنما موجةٌ طويلةٌ ومستمرة، وغايتها الرئيسية لن تكون وقف الغلاء والتضخم الزاحف، وتحسين مستوى المعيشة، وإنما تغيير النظام السياسي ذاته، والذي لا يمثل البشير سوى رمزه. لذلك لم يغيّر، ولن يغير، رفع الأجور شيئا كثيرا من مزاج الجمهور الثائر، فلم تعد هذه التنازلات تعني شيئا أمام القطيعة التي حصلت مع النظام وقادته. وسوف تستمر الحركة والمسيرات الشعبية في التصاعد، ولن يوقفها سوى إجراءات واضحة في اتجاه انتقال سياسي حقيقي، لا يزال البشير يرفض التفكير فيه.
وحتى لا تتجه الأمور نحو تصعيدٍ أكبر، وتدفع بالبلاد نحو الفوضى وانعدام السيطرة، أو نحو الحرب الأهلية، في حال قرّر النظام مواجهة المتظاهرين على طريقة بشار الأسد البربرية، اقترحت على البشير أن يأخذ هو نفسه المبادرة، ويعمل على تنظيم مؤتمرٍ لأركان المجتمع السوداني، المدني والسياسي، يضم قادة الأحزاب والنقابات والمثقفين السودانيين المرموقين، للإعداد لهذا الانتقال، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، ومشاركة جميع القوى المنظمة السودانية المسؤولية في رسم مستقبل السودان، وقطع الطريق على المنازعات والمنافسات السياسية واستغلال الانتفاضة لمصالح خاصة هنا وهناك. وفي اعتقادي أن لدى السودان وحده مثل هذه الفرصة الآن، بعد أن تعلّم من تجارب العرب الأخرى، وفي غياب حساباتٍ معلقةٍ طائفية، أو أقوامية، تشوش على طبيعة المعركة السياسية الواضحة.
مع ذلك، ليس من السهل إقناع نخبةٍ تزوجت الدولة، وجعلت منها قلعتها الحصينة لردع الشعب والحفاظ على امتيازاتها، أن تتخلى عن غطرستها، وجنون العظمة الذي تولّده حيازة القوة المادية، واعتياد احتقار الجمهور الشعبي، وطول التعامل معه كأنه قطيع ماشية، بمبادرةٍ من هذا النوع، لسوء الحظ. الواضح أن الميل لا يزال عندها قويا إلى استعراض عضلاتها السياسية
“نظام كنظام البشير يستند إلى القوة، ويلغي السياسة، ليس قويا. بل هو ملغوم يقود نفسه بقدميه إلى حتفه” بمسيراتٍ مضادّة، كما فعل الأسد من قبل، في المرحلة الاولى من الثورة، قبل أن يقرّر إعلان الحرب المسلحة. لكن ذلك لن يفيد إلا في خسارة مزيد من الوقت، ورفع فاتورة الحساب، فكلما مر وقت أطول، وزاد عدد ضحايا العنف، وتعمّقت روح المجابهة، تفاقم الشرخ، وأصبح من الصعب الوصول إلى تفاهم وتسوية مقبولة من أي طرف، فللثورات الشعبية ديناميكياتها الخاصة التي لا يمكن لأحدٍ أن يتحكم بها، لا معارضة منظمة ولا أجهزة أمن ولا قوات مسلحة. عندما ينزل الشعب إلى الشوارع والساحات، ويتلقى أول رصاصةٍ من أجهزة الأمن، يسقط الخوف، ويصبح مفعول الرصاص كمن يصبّ الزيت على النار. هذا ما أدركه الأسد منذ البداية، لكنه كان يقصده، ويبحث عنه، لاعتقاده أن لديه من القوة العسكرية والأجهزة الأمنية والدعم الخارجي ما يسمح له بربح الحرب، مهما كانت المفاجآت، وتلقين الشعب درسا لن ينساه عشرات السنين، كما فعل والده في حماة 1982. وبالفعل، ربح الحرب العسكرية بمساعدة قوتينٍ لا يُستهان بهما، روسيا وايران، لكنه خسر البلد والشعب نهائيا. لم يعد ملكا على شيء، كما حلم، ولا رئيس جمهورية، حتى جمهورية موز، كما كان، وإنما ورقة توتٍ تغطّي بها الدول “الحليفة” نظام الاحتلال.
وعلى الرغم من أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي هو الدافع الأول لهذه الثورات، إلا أنها سرعان ما تتحوّل إلى ثوراتٍ سياسيةٍ، ذات مطالب أبعد من الخبز بكثير. والسبب أن الثقة قد فقدت تماما بوجود أي إرادة إصلاحٍ لدى الطغم الحاكمة، بعد سنواتٍ من الوعود والتسويفات وخيانة الالتزامات. ولم يعد أحد يصدق أقوال زعماء لا يروْن إفلاس سياساتهم، ولم يحصل أن أحدا منهم حاول أن يحاسب نفسه، ويعترف بأخطائه، ويقبل أن يحل محله شخصٌ آخر. المشكلة هي في أنهم لصقوا بالمنصب إلى الأبد، ولم تعد لديهم صدقية، بينما يعيش ملايين الناس في شروط معيشتهم المأساوية عواقب إفلاسهم، وفشل خياراتهم، ونتائج امتهانهم القضايا القومية والوطنية والإسلامية التي يستخدمونها ليخفوا مصالحهم الشخصية، ويغطوا على سياساتهم البائسة. السبب الثاني أن أوضاع الجزء الأكبر من المجتمعات العربية، والسودان في مقدمها، خسرت معركتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي عاجزةٌ عن تأمين الخبز، أي العيش الكريم، لأبنائها، بمقدار ما فشلت في أن تحقق التراكمات الأولية في أي قطاعٍ من قطاعاتها العلمية والتقنية والصناعية والزراعية، وهي لا تعيش وتستمر إلا بفضل الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ المؤبّدة التي تحتمي بها، وتخوض من ورائها حربَها لإخضاع شعوبٍ مُنهَكة. وهي تستخدمها لمنع الناس من التفكير والتعبير والتواصل والتعاون، كي تحرمهم من تنظيم أي قوة اجتماعية، مهما كانت محدودة، تتحدى إرادتها أو تفكّر في معارضة سياساتها. ويشعر الشعب بالحكم القهري، كما لو كان حكما مؤبدا لا خلاص ممكنا منه.
(3)
يعدنا تراكم الفشل لنصف قرن كامل بظروف صعبة، ومشكلاتٍ وتحديات كبرى، لن يستطيع
“ليس من السهل إقناع نخبةٍ تزوجت الدولة، أن تتخلى عن غطرستها، وجنون العظمة” أي نظام حكمٍ قادمٍ أن يجد حلولا لها بسرعة، حتى لو كان حكما صالحا. وإذا لم نعمل منذ الآن على ترسيخ حكمٍ مرنٍ يمتصّ التوترات، ويتعايش مع التناقضات، ويشجع على الحلول التسووية والتفاهمات البعيدة والمؤقتة معا، فسوف نخرج من حقبة الاستبداد الأسود المؤبد الذي غرقنا فيه نصف قرن، إلى حكم الانقلابات العسكرية والنزاعات المستمرة المناطقية والقبلية. ولا ينبغي أن نفكر لحظةً أن بإمكاننا الاعتماد على دعم الدول الديمقراطية أو الغربية، مهما كان نوعه لحل مشكلاتنا الاقتصادية أو الاجتماعية فما بالك بالسياسية. فليس لديهم الوقت للتفكير معنا، وبالأحرى بنا وبمشكلاتنا. سوف يتركون للنخب العسكرية والأجهزة الأمنية المعزّزة بخبرتهم ومعداتهم مهمة إدارة أزمتنا حتى النهاية، ولن يضيرهم أن تأخذ هذه الإدارة شكل تنظيم حروب الإبادة الجماعية في هذا البلد أو ذاك، على منوال ما حصل في سورية.
يعني هذا أننا في العالم العربي أمام حقبةٍ استثنائيةٍ ليست انتفاضات الربيع العربي الراهنة سوى الرشقة الأولى منها. وما نحتاج إليه ليس إدارة أزمة نظام هنا وهناك، ولكن إدارة حقبة تاريخية سوف تستمر معنا، ما لم ننجح في الخروج من اقتصاد الريع وفرض الإتاوات والسلب والنهب للأفراد والجماعات الذي لا تزال تمارسه النخب السائدة، والانتقال لنظام اقتصادي واجتماعي يقوم على الانتاج والعمل والاستثمار في التأهيل المهني والعلم والبحث والتقنية والاختراع والإبداع حتى نسد حاجات مجتمعاتنا المتزايدة. وكي يتحقق ذلك ينبغي أولا أن نفكّك نظام إنتاج الطبقة العسكرية/ الأوليغارشية التي تعيش على تحصيل الخراج، وإفقار الشعب، وحرمانه من وسائل تطوير إنتاجه وعمله، ونعمل على تربية نخبةٍ اجتماعيةٍ مرتبطةٍ بشعبها، متعدّدة المشارب، ومتنوعة المواهب والإمكانات، قادرةٍ على أن تقود عملية تنميةٍ حقيقيةٍ لتخليص المجتمعات من براثن الجهل والبطالة والكساد والإحباط الدافع إلى العنف والنزاع والتطرّف والانتحار. وهذا يحتاج إلى أسلوبٍ في الإدارة، يقطع مع تقاليد الحكم المملوكي والانكشاري الذي لا تزال تستلهم نموذجه طبقة مارقة، ويؤسّس لإدارةٍ اجتماعيةٍ قائمةٍ على استيعاب الجميع في دائرة القرار والفعل، وعلى مبادئ التشاور والتفاوض والتسويات، ومتمتعةٍ بروح التسامح التي تستطيع وحدها قبول التعدد والتنوع، وتعميم الاحترام المتبادل، والتعايش في مجتمع يزخر بالاختلاف والتنوع والتناقض، وجعل الحياة ممكنة فيه.
من أجل ذلك، ينبغي أن نغير منهج تفكيرنا، وننتقل من التركيز على إشكالية السلطة التي قادتنا أسئلتها مباشرة للحرب، وحسم الصراع عليها، من دون التفكير في وظيفتها وحدودها وغاياتها. فصار هم كل واحد منا أن يؤكّد حقه فيها، بمقدار ما يشعر بهامشيته وتهميشه، وأن ينزع الحق
“ما نحتاج إليه ليس إدارة أزمة نظام هنا وهناك، ولكن إدارة حقبة تاريخية سوف تستمر معنا” عن الآخر، أو يقاتل من أجل تعظيم نصيبه منها على حساب الآخرين، أو إلى التذرّع بأي وسيلةٍ لانتزاعها ملكا خاصا في مواجهة منافسيه وخصومه، أكثريات وأقليات، شيعة وسنة، إسلاميين وعلمانيين. فتحولت من إطار تنظيمي وقانوني لإدارة شؤون المجتمع والجماعة الوطنية إلى غنيمة حربٍ تنتظر من ينتزعها، أو يفوز بها خالصةً له، فصارت ذريعةً للحروب الدائمة، بدل أن تكون وسيلةً لتحقيق المصالح العامة. ما نحتاج إليه هو التركيز على مفهوم الإدارة العامة للدولة والشؤون العامة التي تعنى بطريقة توظيف الموارد والطاقات، وتفجير منابع الابتكار والإبداع في المجتمعات، وتحسين شروط حياة أبنائها، واستدراك ما فاتها من التقدّم والتحضر. لا يهم في هذه الحالة مذهب الفرد ودينه وطائفته، ما دام الأقدر على خدمة مصالح المجتمع، وما دام المجتمع في استشاراته الدورية العامة يزكّي أصحاب الخبرة والكفاءة، ويمنحهم ثقته وتكريمه. هكذا تولد النخب الاجتماعية المرتبطة بشعوبها، والقابلة بمبدأ تداول السلطة والاحتكام للرأي العام والقبول بحكمه ومراقبته وإشرافه. وهذه هي الديمقراطية.
أسباب الثورات والانفجارات دائما اجتماعية يختلط فيها الوضع الاقتصادي المزري مع التوزيع غير العادل للثروة العامة، وعنهما ينتج أيضا التأخر وكساد الإنتاج والتناقص المتزايد لهذه الثروة، لكن مواجهتها لا تكون إلا بالفكر والسياسة، أي بإعادة النظر في منهج الإدارة، وتطبيق مناهج جديدة تزيل العوائق التي تحول دون التقدّم في حل المعضلات القائمة، أو الالتفاف عليها. وفي نظري، ليس هناك منهج أصلح اليوم، على الرغم من جميع النقائص والتراجعات التي تشهدها اليوم في العالم المتحضر نفسه، من منهج الإدارة الديمقراطية في الدولة والمصنع والمدرسة والأسرة. لأنها وحدها التي تضمن جمع أكثر ما يمكن من طاقات المجتمعات وتوحيدها، وتخفيف عوامل المواجهة والصراع والنزاعات داخل صفوفها، وتشجيع الاعتماد على العقل والحكمة والاعتدال في التعامل بين الأفراد والفئات، وتعزيز الشعور بالمسؤولية لدى جميع الأطراف عن المصير العام، وتوسيع دائرة التواصل والتفاهم والتعاون والتضامن بين البشر، بدل تغذية مشاعر الغبن والضغينة والمظلومية المعمّمة، وما تقود إليه من إرادة الإقصاء والانتقام. وفي حقبتنا التاريخية الراهنة، لم يعد العنف، على أي صعيد، أسلوبا مقبولا للتعامل مع شركاء في الوطن أو في القومية أو في الانسانية، ولم يعد الرهان عليه، في سياق العولمة الثقافية والانفتاح الواسع للعالم والمجتمعات، وانتشار مفاهيمنا وقيمنا الاجتماعية وتطورها، وسيطرة مبادئ الحق والقانون والمساواة والكرامة والحرية ووحدة المصائر الإنسانية، منتجا لأي نظام أو سلام.
جميع النظم ذات الطابع الديكتاتوري، العسكرية والأمنية وشبه المدنية، وعلى مختلف أشكالها،
“لم يعد العنف، على أي صعيد، أسلوبا مقبولا للتعامل مع شركاء في الوطن أو في القومية أو في الانسانية” أصبحت ديناصورات من الماضي السحيق، تضغط على المجتمعات وتخنق أنفاسها. وفرضها عليها يشكل عدوانا لم تعد قادرةً على تحمّله، وسوف تثور ضده بكل الوسائل، حتى لو فقدت فيه أرواح قسم كبير من أبنائها. تشكل سورية هنا أيضا مثالا صارخا. هذا يعني أن الديمقراطية لا تساوي الحرية، حتى لو أن الحرية مكوّن رئيسي فيها، ولكنها تشير إلى طريقة إدارة الناس والمجتمعات شؤونهم العامة بأنفسهم، ما يضاعف من تعاطفهم فيما بينهم، وتضامنهم، وقدرتهم على العمل المشترك والتعاون فيما بينهم، ويقلّل من العنف الناجم عن تعارض المصالح وتنوع الأفكار وتعدّد التطلعات. وهي اليوم الإدارة الوحيدة التي تعكس نمو روح الحرية والسيادة والكرامة الشخصية في كل فرد منا، وفي كل المجتمعات، وانحسار الرهان على قاعدة الإكراه والإنكار أو الإقصاء أو الإهمال في بناء إدارةٍ اجتماعيةٍ تملك الحد الأدنى من الشرعية والاستمرار.
بتسامحه، وتعدّديته الإثنية والثقافية، وتنوع موارده الفكرية والدينية، وهويته المتفرّدة على تقاطع أفريقيا والعالم العربي، يقدم السودان فرصةً لا تعوّض لتغيير مسار الانتفاضات العربية، ووضع الخطوة الأولى على طريقٍ جديدٍ يكسر حلقة تعاقب الفوضى والانقلابات العسكرية. وهذا لا يتوقف على جمهور الثورة الذي لا مصلحة له في إطالة أمد المعاناة، ولا في السقوط في الفوضى أو الحرب الأهلية، وإنما على النخبة الحاكمة، وعلى عمر حسن البشير الذي يملك وحده إمكانية وضع حد لانزلاق السودان، أو دحرجته نحو الفوضى. ويستطيع أن يراهن في ذلك على مجتمع سياسي ومدني أظهر، على الرغم من مكامن ضعفه العديدة، حدّا أكبر من التعاون وروح المسؤولية والتسوية السياسية مما شهدته النخب السياسية والمدنية في ثورات الربيع العربي السابقة. لكن هل يملك البشير الشجاعة السياسية والأدبية الكافية، ليفتح طريق الديمقراطية، ويشجع خصومه أيضا على السير في الطريق ذاتها؟ هذا هو السؤال والتحدّي معا.
برهان غليون
العربي الجديد