من المتوقع أن يدشن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير بالانسحاب من سوريا مرحلة جديدة ستضطلع فيها موسكو -وحاكمها القوي فلاديمير بوتين- بدور محوري في إعادة ترتيب أوراق الملف السوري، ميدانيا وسياسيا. ويرجح أن إيران وحزب الله وتركيا سيبقى لهم تأثير مباشر على المشهد لكن الجميع سيحرص على عدم المساس أو الاقتراب من “الخطوط الحمراء” التي ستضعها موسكو.
ولم يخف الكرملين منذ اللحظات الأولى من إعلان الانسحاب الأميركي غبطته من القرار، حيث أشاد به الرئيس بوتين معتبرا أنه الخطوة “الصحيحة”، كما أعلنت الخارجية الروسية أنه انسحاب يخلق “احتمالات جيدة” للحل السياسي.
وقد كشفت بعض المواقف الأميركية في الأيام التي تلت إعلان الرئيس ترامب أن القرار اتخذ دون مشاورات كافية مع البنتاغون أو كبار ضباط القيادة المركزية المسؤولة عن العمليات في سوريا، أو لجان العلاقات الخارجية والأمن والدفاع في الكونغرس.
عاصفة من الاعتراض
ولم يكن غريبا بعد إعلان القرار أن يتقدم وزير الدفاع جيمس ماتيس باستقالته من منصبه، لخلاف في الرأي مع الرئيس، وأن يتعرض قرار ترامب المفاجئ لعاصفة من الاعتراض والشجب من كبار أعضاء الكونغرس، ودوائر الأمن والدفاع في العاصمة الأميركية.
ولعل مبعث الاستياء في دوائر القرار ولدى كبار المسؤولين الأمنيين في واشنطن، يعود -بالإضافة إلى استفراد ترامب بسلطة اتخاذ هذا القرار المهم إستراتيجيا- إلى التخوف من أن تقوض هذه الخطوة المصالح الأميركية بالمنطقة وتفسح المجال أكثر للاعبين إقليميين ودوليين ينظر لهم أميركيا بعين الريبة، تحديدا إيران وروسيا.
وفي ظل تعزيز نظام بشار الأسد تدريجيا لسيطرته العسكرية على البلاد بدعم من حلفائه الروس والإيرانيين، وتركز الاهتمام الدولي أكثر على ضرورة التوصل إلى “حل سياسي” لإنهاء الصراع المستمر منذ سبع سنوات، يتساءل كثيرون عما إذا كان الانسحاب الأميركي سيفسح المجال لتغيير ما في مقاربة الرئيس فلاديمير بوتين من الصراع. وهنا يستحضر مراقبون نموذجه للحل في جمهورية الشيشان.
فقد توجت الحرب الشيشانية الثانية (1999-2009) مسيرة بوتين السياسية، حيث ارتقت به حملته العسكرية التي أعلنها حين كان رئيس للوزراء في العام 1999 بعد سلسلة من الهجمات التي نسبت للمقاتلين الشيشان في الداخل الروسي، من دائرة الظل إلى سدة الرئاسة.
الأرض المحروقة
وبالإستراتيجية نفسها التي تمثلت في توفير غطاء سياسي للرئيس بشار الأسد لاستخدام الأسلحة الكيميائية وتجريف أجزاء كبيرة من حلب وغيرها من مدن وبلدات سوريا، أشرف بوتين على سياسة تدمير ممنهج وأرض محروقة في الشيشان بدك العاصمة غروزني بشتى أنواع الأسلحة.
وبعيد حملة عسكرية شرسة خلفت زهاء 200 ألف قتيل معظمهم مدنيون، انخرط الكرملين في ما يشبه “التمثيلية” للتفاوض مع زعماء شيشان مدعومين من قبل موسكو. كان الهدف بالأساس هو احتواء الضغوط الأوروبية المتصاعدة آنذاك، خاصة من قبل الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا (المشرفة على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان) التي كانت تطالب بإطلاق محادثات سلام تفضي لإنهاء النزاع.
أراد الروس، بقيادة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين ورئيس وزرائه بوتين، منذ البدء إدارة “عملية السلام”، ولم يسمحوا إلا لجانب واحد فقط بالمشاركة، في حين تجاهلوا الشيشانيين الذين صنفوا على أنهم “معتدلين”، مثل الرئيس المنتخب آنذاك أصلان مسخادوف.
وكانت هذه الحرب الثانية خيارا لا محيد عنه بالنسبة لروسيا، حيث لم يقتنع يلتسين قط بالنهاية المذلة للحرب الأولى (1994-1996) التي قدَّر في البدء أنها ستكون خاطفة ومحدودة. كما أنَّ الجيش الروسي شعر بالإهانة وكان يتمنى أن تواتيه فرصة جديدة للانتقام من الشيشانيين الذين تمسكوا على إثر الجولة الأولى من القتال باستقلالهم المعلن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في إطار ما عرف آنذاك بـ “جمهورية الشيشان إشكيريا”.
ورغم قوة روسيا الهائلة في العدد والعتاد، تمكن المقاتلون الشيشان، بفضل تكتيك حرب العصابات، من هزيمة الروس وتكبيدهم خسائر في الأرواح، مما حدا بحكومة بوريس يلتسين إلى إعلان وقف إطلاق النار في 1996 وتوقيع معاهدة سلام بعدها بسنة.
معارضة زائفة
بعد بدء الحرب السورية، اتبعت موسكو إستراتيجية مماثلة لما قامت به في الشيشان، من خلال تهميش وإقصاء أي جماعات معارضة تطالب برحيل الأسد، والقبول بالحوار فقط مع من يلقون رضا ومباركة من روسيا.
في يونيو/حزيران 2012، أي قبل ثلاث سنوات من بدء موسكو حملتها العسكرية في سوريا، حدد بيان جولة مفاوضات جنيف الأولى خريطة طريق الأمم المتحدة لإنهاء العنف وإنشاء هيئة حكم انتقالي. فدشنت بعدها روسيا محادثات مع الجماعات التي لم تكن تشترط مغادرة الأسد للسلطة.
وقد أقحمت موسكو، مع مرور السنوات، شخصيات معارضة “زائفة” في مسار المفاوضات، بحسب الخبيرة بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أنا بورشفيسكايا.
من هؤلاء، جمال القادري المعروف بقربه من دوائر القرار في دمشق، وراندة قسيس رئيسة “حركة المجتمع التعددي” التي دعمت علنا سياسات بوتين في سوريا وشاركت في تأسيس “مركز الشؤون السياسية والخارجية” الموالي للكرملين، وخالد المحاميد عضو المعارضة السورية الذي عبر غير مرة عن دعمه العلني مساعي موسكو لإعادة سيطرة الأسد على كامل التراب السوري.
بالتزامن مع حوار “المعارضة المدجنة”، كما يحلو للبعض تسميتها، سعى بوتين إلى إصباغ التدخل الروسي في سوريا بطابع الشرعية والالتزام بالقانون الدولي.
فبعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي يحدد ملامح عملية الانتقال السياسي في سوريا، في العام 2015، رعى الكرملين العديد من جولات المفاوضات في أستانا وسوتشي، أعادت تأكيد مبادئ القرار دون أن تفرز شيئا يذكر.
كما أقصت هذه الجولات أحيانا كثيرة المجموعات المعارضة المقربة من واشنطن، وكان صارخا حضور شخصيات ورموز لنظام الأسد خلال جلساتها.
وترى الباحثة بورشفيسكايا أنه وبالنظر لكون روح القرار 2254 تنص على أن السوريين هم من يختارون مستقبلهم، فسيكون من السهل على موسكو استخدامه لمحاولة إضفاء الشرعية على أي انتخابات زائفة لإعادة الشرعية إلى الأسد، خصوصا أن القانون الانتخابي الحالي في سوريا لا يسمح للكثيرين في الشتات بالمشاركة في أي انتخابات.
تطرف وتعقيد
خلفت انتهاكات حقوق الإنسان التي اقترفها الروس ومن يمثلونهم في الشيشان قبل وبعد الحرب الثانية، بالإضافة إلى تهميش الأصوات المعتدلة، تصاعدا ملحوظا في حدة التطرف. امتد الأمر إلى أعلى هرم السلطة، حيث نصب بوتين رجله القوي، رمضان قديروف، رئيسا، فأدار دفة الحكم في هذه الجمهورية القوقازية المسلمة بقبضة من حديد.
على النقيض من التجربة الشيشانية، لم يجد بوتين في سوريا بديلا عن الشخص الذي كانت سياساته أصلا السبب في اندلاع الأزمة، أي بشار الأسد.
كما أن النموذج السوري يبدو أكثر تعقيدا، حيث تتداخل العديد من الأطراف لخدمة مصالح مختلفة، وأحيانا متضاربة، مما يجعل فرص نجاح روسيا بوتين في إعادة تطبيق خلاصات النموذج الشيشاني غير مضمونة، كما ترى بورشفيسكايا.
وفي حين يواصل صناع القرار السياسي الغربيون اعتقادهم -بخلاف ما كان عليه الحال في الشيشان- أن هدفهم للوصول إلى حل حقيقي للصراع المتواصل في سوريا يتقاطع مع إرادة موسكو، فسيحاول بوتين استثمار هذا الأمر لخدمة المصالح الروسية في المدى المتوسط والبعيد.
وأصبح الرجل يراهن الآن، بدل محاولاته السابقة منذ أبريل/نيسان 2016 للدفع في اتجاه اعتماد نسخته من الدستور السوري، على وضع أفضل لمحاولة تطبيق مخططه المستلهم من ماضيه الشيشاني. وبدلا من التوصل إلى حل حقيقي، ستسعى روسيا فلاديمير بوتين خلال المرحلة المقبلة إلى إدارة صراع من صنعها يراوح مكانه ويحقق أهدافها الإستراتيجية في المنطقة.
الجزيرة