دخل تدخُّل موسكو في سوريا عامه الرّابع. فَقَبْلَ التدخّل الذي بدأ في أيلول/سبتمبر 2015، سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمدة خمسة عشر عاماً على الأقل إلى إعادة روسيا إلى الشرق الأوسط. ومع ذلك، أدّى هذا التدخل إلى إعادة روسيا رسميّاً إلى موقعها كجهة فاعلة أساسية في الشرق الأوسط وجعل بوتين ذا نفوذ إقليمي.
في الواقع، لم تتوقّع إلّا قلّة قليلة في الغرب أن تتدخّل روسيا عسكريّاً في سوريا وتحمي الدكتاتور السوري بشار الأسد من سقوطٍ وشيك، وخاصة بعد تراجع اقتصادها وتورّطها المسبق في حرب في أوكرانيا. ويختلف التدخل نفسه أيضاً عن سلوك الكرملين المعتاد. فقد كان هذا الانخراط العسكري المحدود المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدبلوماسية القسرية والعامل مع الشركاء الإقليميّين، هو حملةَ قصف جوي وقوّةً بحريّة، عوضاً عن معركة تقليدية تدعمها قوات برّيّة. ولذلك، طرح للمحللين وصانعي السياسات الغربيّين أسئلة لا حصر لها، وربما كان أكثرها تواتراً: ما هي المرحلة النهائية [أو نهاية اللعبة] لروسيا في الشرق الأوسط؟
لكن، من منظور الكرملين، لا تزال اللّعبة مستمرّة وليس لها نهاية محددة. ويهتم الكرملين أساساً باستمراريّته الخاصة، التي يعتبرها مرتبطة ارتباطاً جوهرياً بعلاقته مع الغرب – وتخلط موسكو الخط الفاصل بين السياستين الخارجية والمحلية في سعيها إلى تبوّء مركز قوّة عظمى. ولبوتين أهداف عديدة في الشرق الأوسط، لكن أساساً، يتمثل الهدف وراء تدخله في سوريا في قلب النظام العالمي الذي تترأسه الولايات المتحدة. وتتشارك أنشطة الكرملين في جميع أنحاء المنطقة الهدف نفسه وهو: تقويض [مكانة] الولايات المتحدة وتعزيز مركز موسكو في المنطقة من خلال ردع الغرب والحفاظ على صراع منخفض الحدّة. وهذه هي العدسة التي يجب أن يرى من خلالها صانعو السياسات أنشطة موسكو. وعوضاً عن البحث عن مرحلة نهائية للّعبة يتعادل فيها الجميع في اتخاذ القرارات بانفراد، يتعيّن على صانعي السياسات التركيز على مجابهة النفوذ السلبي للكرملين. فعلى الرغم من الصعوبات العديدة التي تواجهها موسكو، إلا أنها تتمتع بسلطة على البقاء في المنطقة ولن يتلاشى نفوذها من تلقاء نفسه في أي وقت قريب.
سبب أهمية الشرق الأوسط بالنسبة لموسكو
لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ذات أهمية بالنسبة للحكام الرّوس. ويوفّر هذا السياق الإطار المناسب للأنشطة الحالية للكرملين. فلقد تمتعت منطقةَ شرق البحر الأبيض المتوسط بأهمية للرّوسُ الكييفيّين، اللذين ادعت الدولة الروسية في بدايتها بأنهم سلفها، إذ تصوّرت الدولة نفسها على أنها وريثة القسطنطينية، أي “روما الثالثة”، وأنها تتولّى مهمّة التبشير الإلهية بالأرثوذكسية الشرقية.
واستمرّت المصالح الدّينية في روسيا الإمبراطورية، التي استخدمت أيضاً الشرق الأوسط كحلبة لمنافسة الغرب وتأمين الوصول البحري إلى البحر الأسود والبحر المتوسط سعياً لتبوّء مركز قوة عظمى. إن تدخّل بوتين في سوريا فريد من نوعه، لكنه ثاني غزو روسي رئيسي في بلاد المشرق منذ عام 1772. واضطلع الاتحاد السوفييتي بدور رئيسي في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة، في محاولته إحباط مصالح الولايات المتحدة في مجالي الطاقة والتجارة في المنطقة. ثمّ تراجعت روسيا لفترة وجيزة من الشرق الأوسط في عهد بوريس يلتسين في تسعينيات القرن الماضي، ولكن حتى في ذلك الوقت لم تغادر بالكامل.
وفي فترة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تلازم السعي وراء تبوّء مركز القوة العظمى مع الرغبة في المعاملة المتساوية من قبل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقد تم توضيح ذلك في الاجتماع الذي انعقد في نيسان/أبريل 1996 بين بيل كلينتون وبوريس يلتسين. فوفقاً لأرشيفات رُفعت عنها السرية مؤخراً، دخل يلتسين الاجتماع غاضباً ظنّاً منه أنّ الولايات المتحدة كانت تحاول تهميش روسيا في المنطقة. واستخدم كلينتون مصطلح “شراكة متكافئة”، التي بدت أنها تهدئ يلتسين، وقال إنّ بإمكان روسيا الاضطلاع بدور مهمّ من خلال نفوذها على سوريا و«حزب الله».
نهج بوتين تجاه المنطقة
ما إن خَلَفَ بوتين الرئيس السابق يلتسين، عمل بصورة ثابتة ومنتظمة لإعادة روسيا إلى الشرق الأوسط. وأصبح نهج بوتين تجاه المنطقة امتداداً لرؤية [رئيس وزرائه] بريماكوف المتمثلة بعالم “متعدّد الأقطاب”. وبالفعل، كان بريماكوف هو الذي قاد يلتسين إلى الاعتقاد، قبل اجتماعه مع بيل كلينتون في نيسان/أبريل عام 1996، بأنّ الولايات المتّحدة كانت تحاول تهميش روسيا في الشرق الأوسط.
لقد كانت مصالح بوتين في المنطقة سياسية في المقام الأول، ولكنّها كانت اقتصادية أيضاً. فقد حدّد “مفهوم السياسة الخارجية” لروسيا في كانون الثاني/يناير عام 2000 أولويات موسكو في الشرق الأوسط على أنّها “استعادة المراكز وتعزيزها، لا سيما تلك الاقتصادية”، وأشار إلى أهمية مواصلة تطوير العلاقات مع إيران. وأبرزت الوثيقة ذاتها “محاولات إنشاء هيكل علاقات دولية يقوم على هيمنة الدول الغربية المتقدمة في المجتمع الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة”. كما أن أحدث نسخة من هذه الوثيقة، من تشرين الثاني/نوفمبر 2016، سلّطت الضوء أيضاً على أهمية الشرق الأوسط في السياسة الخارجية الروسية واعتبرت أنّ “التدخل الخارجي” (وهو تعبير مُلَطَّف للولايات المتحدة) هو سبب رئيسيّ لعدم الاستقرار في المنطقة. وتظهر هاتان الوثيقتان معاً استمرارية في تفكير الكرملين حول دور كل من روسيا والغرب في المنطقة.
وعلى عكس الاتحاد السوفييتي، لا يرتبط نظام بوتين بأيديولوجية ما، بل يعمل بدلاً من ذلك على بناء علاقات مع كل جهة فاعلة رئيسية في المنطقة والمحافظة عليها. ومن خلال جهود بوتين، استعادت روسيا نفوذها السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، مبرهناً أنّ مقاربته البراغماتية تفوّقت على مقاربة الاتحاد السوفييتي التي ركّزت على الأيديولوجيا. وبذلك يوازن بوتين بين علاقاته الجيدة مع القوى السنية والشيعية، وكذلك مع إسرائيل، حتى بينما يفضّل القوى الشيعية المناهضة للولايات المتحدة في المنطقة.
استراتيجية منع الوصول/تحريم الدخول (A2AD)
حتى اليوم، اكتسبت موسكو نفوذاً هامّاً في المنطقة. فمن الناحية السياسية والدبلوماسية والعسكرية، يتعيّن على الولايات المتحدة الآن التعامل مع روسيا في الشرق الأوسط إلى درجة لم تضطر إليها منذ عقود. فمنذ بداية تدخّل موسكو، أشارت العمليات الروسية إلى استراتيجية لردع الغرب وحماية الأسد والأصول الروسية، بدلاً عن محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» باطراد. وبالتالي، قامت موسكو بنشر أسلحة متطورة مثل نظام الدفاع الجوي القصير المدى “بانتسير” ونظام الدفاع الجوي “ألماز آنتي S-400” المجهز بصواريخ أرض-جو (SAM) عالية الارتفاع في قاعدة حميميم الجوية، ثم في مدينة مصياف الشمالية الغربية، إلى جانب نظام “كراسوخا” الأرضي للحرب الإلكترونية (KRET Krasukha-S4). كما نشرت أيضاً نظام الدفاع الساحلي “باستيون K-300P P” ونظام الصواريخ البالستي “إسكندر 9K720”. بالإضافة إلى ذلك، ووفقاً لما كتبه الخبير العسكري الروسي روجر مكدرموت، فإن نشر نظام “كراسوخا S4” كان مهماً أيضاً فيما يتعلق باختبار النظام الميداني في الظروف التشغيلية. وفي الواقع، كتب مكدرموت أنه منذ عام 2009، ظلت موسكو تستثمر باطراد في تحديث قدراتها الإلكترونية في الحرب مع الهدف الشامل المتمثل في تحدي “حلف شمال الأطلسي” («الناتو») بصورة غير متكافئة على حدود روسيا “وزيادة فرص نجاحها في أي عملية ضد الأعضاء الشرقيين في حلف «الناتو»”.
إن عملية النقل الأحدث والأكثر إثارة للجدل التي قامت بها موسكو – لنظام “S300” إلى الجيش العربي السوري، بعد أن أسقط الجيش ذاته بوضوح طائرة استطلاع روسية من طراز “IL-20” والتي ألقت موسكو بلائمة إسقاطها على إسرائيل – تواصل طرح العديد من الأسئلة. لكن، إلى جانب هذه التفاصيل، أرسلت عملية النقل رسالة سياسية، إذ كانت تأكيداً على هيمنة روسيا الإقليمية. كما يتناسب الطراز “S300” مع استراتيجية منع الوصول/تحريم الدخول (A2AD) الشاملة، ومن المحتمل أن يمنح موسكو المزيد من النفوذ على الغرب وحلفائه.
وحتى اليوم، حققت موسكو نجاحاً جزئياً بواسطة مخططها العام الخاص باستراتيجية منع الوصول/تحريم الدخول (A2AD)، حيث لا تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها قادرين على العمل. كما عززت هذه الاستراتيجية مبيعات الأسلحة الروسية باستخدام سوريا كحلبة اختبار وإعلان لأسلحتها. والأهم من ذلك، تُظهِر أنشطة موسكو التزاماً ثابتاً ونية لردع الغرب وبسط نفوذها في البحر الأبيض المتوسط. وفي الوقت نفسه، تلجأ موسكو إلى أساليب غير مباشرة بشكل متزايد، مثل استخدام مقاولين خاصين كالمجموعة الأمنية الخاصة “فاغر”، لكي تتمكّن موسكو من اللجوء إلى سياسة الإنكار بشكلٍ معقول.
البحث عن منفذ وصول بحري
في أعقاب “الربيع العربي”، صعّدت موسكو جهودها البحرية الشاملة. وفي 26 تموز/يوليو 2015، يوم البحرية الروسية، أعلن بوتين العقيدة البحرية الروسية حتى عام 2020. كما حدّد هدف توسيع القدرات البحرية الروسية من المنطقة “الإقليمية” إلى “المياه الزرقاء العالمية”. وبعد عامين، أعلن بوتين العقيدة البحرية الروسية الجديدة التي ردّدت هذه الأفكار. وفي أفضل الأحوال، سيستغرق تحقيق طموحات موسكو في الوصول إلى المياه الزرقاء سنوات عديدة. فقد كان بناء السفن عبر التاريخ من بين أكثر القطاعات فساداً في المجمع الصناعي العسكري الروسي. وعانت البحرية الروسية من مشاكل أخرى متعددة، مثل المرافق التي عفا عليها الزمن، كما فاقمت العقوبات الغربية هذه الصعوبات.
ولكن لا ينبغي استبعاد البحرية الروسية. وتتجلّى إحدى الطرق التي تستطيع موسكو من خلالها التغلب على هذه الصعوبات بتأمين الوصول إلى منفذ بحري يسمح باستخدام السفن الأصغر حجماً – أو على الأقل الوصول إليها. وفي الواقع، تواصل موسكو سعيها المتواصل للوصول إلى منفذ بحري في المنطقة. وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، وقّع بوتين قانوناً لتوسيع قاعدتي طرطوس وحميميم من أجل ترسيخ الوجود “الدائم” لروسيا في سوريا. وإلى جانب موانئ سوريا، تتطلع موسكو إلى مصر وليبيا، وكذلك إلى شمال أفريقيا على نطاق أوسع. إن تأمين الوصول إلى منافذ بحرية – بدلاً من الاستثمار في بنائها – هو نهج عملي وفعّال من حيث التكلفة.
وعلى الرغم من مشاكلها المتعددة، قامت البحرية الروسية بتحسينات منذ عام 2008. إن جهود موسكو للسيطرة على البحر الأسود تؤتي ثمارها، ومن هناك يمكن أن تُظهر نفوذها في الشرق الأوسط والبحر المتوسط وفيما يتخطى ذلك. وفي الواقع، بإمكان موسكو الآن نشر قوة دائمة في شرق البحر الأبيض المتوسط. بالإضافة إلى ذلك، يكون مجرد وجود [أي قوّة] مهمّاً في بعض الأحيان، كما هو الحال مع حاملة الطائرات الروسية “كوزنيتسوف” في سوريا. وتهدف موسكو إلى تحقيق التفوق البحري في البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط، وفي السنوات الأخيرة، تحدث المسؤولون الروس بشكل متزايد عن البحرية الروسية في سياق الردع غير النووي. وربما أكثر من ذلك، تظهر خطوات موسكو تصوّرها المستمرّ عن تهديد حلف «الناتو» والرّغبة في ردع الغرب. وتستمرّ هذه النية في التأثير على أنشطة موسكو في الشرق الأوسط، حيث تعمل بشكل منهجي على منع الوصول إلى البحر الغربي.
حلفاء الولايات المتحدة يتحوّطون في رهاناتهم
لا يزال الأسد في السلطة واثقاً من دعم موسكو وطهران له. وفي هذا الصدد، ضَمَن بوتين الوجود العسكري الروسي الدائم في سوريا في السنوات التسعة والأربعين القادمة على الأقلّ، وعزّز مبيعات الأسلحة الروسية في المنطقة. ولا تُظهر شراكة موسكو مع إيران أي علامات انكماش، إذ إن مصلحتهما المشتركة في معارضة الولايات المتحدة لا تزال تتجاوز ما بينهما من خلافات. وفي الواقع، تقوم استراتيجية موسكو بأكملها في سوريا على شراكة مع الجمهورية الإسلامية التي تتحمل الجزء الأكبر من التكاليف في سوريا.
ولا يزال حلفاء أمريكا في المنطقة يشعرون بعدم اليقين بشأن التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة ويتحوّطون في رهاناتهم. وبالنسبة لبوتين، يحمل إشراك الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة فوائد متعددة. ويشكّل ذلك جزءاً من سياسته الصديقة مع الجميع وسياسة الحَكَم النهائي التي تصبّ في مصلحته السياسية والاقتصادية. وفي هذا السياق، تقرّبت مصر وتركيا من موسكو.
لقد غيّرت تركيا رأيها منذ فترة طويلة واعتمدت موقف بوتين تجاه الأسد، ويرجع ذلك جزئيّاً إلى خوف أردوغان من القومية الكردية، ذلك الخوف الذي تثيره علاقات موسكو الطويلة الأمد مع الأكراد. ومن جهة أخرى، يعود ذلك إلى معاداة أردوغان للغربَ. وليس من قبيل المصادفة أن يفتتح «حزب الاتحاد الديمقراطي» مكتباً في موسكو في شباط/فبراير 2016، خلال فترة الجمود المؤقت التي مرّت بها العلاقات الروسية-التركية، بعد أن أسقطت الحكومة التركية طائرة روسية في أواخر عام 2015. بالإضافة إلى ذلك، يعلم أردوغان أن باستطاعة بوتين إطلاق العنان لتدفق السياح الروس أو منعه، الذي هو مهمّ جدّاً لاقتصاد تركيا. إن نقاش أردوغان المستمر حول شراء نظام الدفاع “S-400” من موسكو، بغض النظر عمّا إذا كان سيؤدي إلى عمليّة نقل فعلية، يدلّ على تحوّل موقف تركيا من بوتين، الذي يمتلك نفوذاً أكثر من أردوغان بدلاً من العكس.
أمّا مصر فقد كانت حجر الزاوية لسياسة الأمن الأمريكية في المنطقة لعقود من الزمن، ولكنّ بوتين نجح في جذب القاهرة إلى مداره من خلال الأسلحة والطاقة النووية، والصفقات الاقتصادية، في حين يساهم السياح الروس بشكل ملحوظ في الاقتصاد المصري. وفي أيلول/سبتمبر 2016، وصف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مصر بأنها أهم شريك لروسيا في شمال أفريقيا، ويجب على صناع القرار السياسي ألا يستبعدوا إمكانية قيام روسيا بقلب مواقف مصر.
وشكّلت الزيارة التاريخية للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لموسكو في تشرين الأوّل/أكتوبر 2017 دليلاً إضافيّاً على تزايد نفوذ بوتين في المنطقة. وتُعد اتفاقيات موسكو الأخيرة مع المغرب، بما فيها في مجال الطاقة النووية، مثالاً آخر على ذلك. كما أنها تسلّط الضوء على النطاق الجغرافي الاستراتيجي الواسع لأهداف بوتين في المنطقة. وخلال فترة رئاسة أوباما، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو برحلات إلى موسكو أكثر من قيامه بزيارات لواشنطن، في حين أضافت دول الخليج حافزاً للتعاون مع موسكو بشأن أسعار النفط العالمية، بعد أن برزت الولايات المتحدة كأكبر منتج للنفط الخام في العالم. وقد ساهم نجاح موسكو في المنطقة في اندفاعها الراهن نحو دول الساحل وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
ماذا بعد في سوريا؟
بعد أن ساعد بوتين في ضمان انتصار الأسد، يتجه الرئيس الروسي نحو تحقيق الاستقرار في سوريا وفقاً لشروطه. وليس لدى روسيا موارد للإسهام في إعادة إعمار سوريا، وهي تعمل بنشاط على الضغط على الجهات المانحة المحتملة الأخرى، وعلى أوروبا بشكل أساسي، في محاولة لاستخدام قضية اللاجئين كوسيلة ضغط. لكن الغرب ككلّ ليس متحمّساً للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، مما يترك خيارات غير غربية لروسيا. وللحصول على الموارد، ستحتاج موسكو إلى وضع جدول أعمال أوسع نطاقاً في المنطقة والعمل على انخراط الشركاء لإثبات التزامها طويل الأجل تجاه المنطقة.
ويبقى الكرملين متمسكاً بالتزاماته تجاه الأسد حيث عمل على تمكينه لسنوات. لكن، مع وجود الأسد في السلطة، وهو مجرم حرب مسؤول عن الغالبية العظمى من وفيات المدنيين في سوريا ونشأة الإرهاب هناك في المقام الأول، فإن احتمال اندلاع أعمال عنف سيلوح دائماً في الأفق. كما أن غالبية اللاجئين السوريين لا يريدون العودة إلى سوريا طالما بقي الأسد في السلطة، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى مخاوف تتعلق بالسلامة. وفي المستقبل القريب، ثمّة احتمال حقيقي لاندلاع حرب بين إسرائيل وإيران في سوريا. وتأرجحت سياسة الولايات المتحدة بين قرار البقاء في سوريا ومواصلة العمل مع «قوات سوريا الديمقراطية» التي تسيطر على الغالبية العظمى من احتياطيات النفط والغاز والبنية التحتية الحيوية في سوريا، وقرار مفاجئ من قبل الرئيس ترامب بالانسحاب من تلك البلاد.
وبالكاد بإمكان موسكو احتواء فرحتها من إعلان ترامب [عن قرار انسحابه]، لكن سرعان ما أعربت عن قلقها من عدم مغادرة الولايات المتحدة في النهاية. ويُظهِر رد الفعل هذا مدى أهمية السياسة الأمريكية في المنطقة وكم تريد موسكو رحيل الولايات المتحدة. ولا يؤدي قرار الانسحاب إلّا إلى الرفع من شأن موقف موسكو كدولة ذات نفوذ حاسم في سوريا. وكما أخبرني أحد كبار المسؤولين المصريّين، بأنّ “سوريا معركة من أجل المصداقية”، ويرى الكثيرون في المنطقة أن روسيا هي الفائزة. وفي هذا السياق، تُعدُّ ليبيا منطقة مهمّة أخرى لنفوذ الكرملين المتنامي، تلك البلاد التي يحتمل أن تظهر كنقطة محورية إذا كسبت موسكو مصداقية كافية في سوريا.
الخاتمة
من المفارقات أن روسيا كانت قوة عظمى ضعيفة نسبياً خلال معظم تاريخها. فالتوسع جلب الفقر لشعبها فضلاً عن انعدام الأمن المستمر للدولة. أما انتصاراتها في الحروب فغالباً ما جاءت بتكاليف أكبر بكثير من تلك التي تكبّدتها بلدان أوروبا الغربية. وحالت السلطوية دون التحرر الاقتصادي والسياسي الذي كان يمكن أن يؤدي إلى تحسينات معينة. لكنّ مساحة روسيا الهائلة وقدرتها على تعبئة قوة عسكرية مثيرة للإعجاب جعلتاها لاعباً سياسياً لا يستهان به. وفي أوقات ضعف الدولة الأكبر، غالباً ما يصبح الكرملين أكثر عدوانية في الخارج ليساعد في دعم الشرعية المحلية، في حين أن البحث عن مكانة القوة العظمى قد أثّر في أنشطة موسكو منذ تأسيس روسيا كدولة. يجب على المحلّلين الذين لا يولون لروسيا اهتماماً باعتبارها مجرد دولة ضعيفة أن يفكّروا مليّاً بهذا المنظور.
وفي الشرق الأوسط، كانت لدى بوتين خطة منذ البداية، لكنّه ظلّ مرناً ومتكيفاً أيضاً مع الظروف. وبشكل عام، حقق العديد من الأهداف الرئيسية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الانخراط المحدود للغرب والتزامه الخاص. إلّا أن مغامرة بوتين في سوريا لم تصل بعد إلى نهايتها. ولكن حتى يومنا هذا، تمكّن بوتين من التفوق على الولايات المتحدة إلى حد كبير.
ويشير الكثيرون إلى أن روسيا في عهد بوتين لا تستطيع توفير التنمية، التي هي علامة على قوة عظمى حقاً، على الأقلّ بالمعنى الغربي للكلمة. لكن من وجهة نظر الكرملين، تتلخّص اللعبة بالدرجة الأولى في البقاء في السلطة والتغلب على الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، فإن وجود حالة دائمة من الصراع ذو المستوى المنخفض، والذي يمكن السيطرة عليه في الشرق الأوسط، يعود بالنفع على موسكو، لأنه يستلزم وجودها، مما يعطي هذه الأخيرة وسيلة لتوليد الاعتماد على الكرملين من خلال إبقاء الصراعات دون حل. وقد استمالت موسكو المصلحة الذاتية لقادة المنطقة، الذين يشعرون بالراحة في التعامل مع بوتين، ويطمحون بالأسلحة الروسية، ويتحوّطون في مواجهة السياسة الأمريكية غير المستقرة. وعلى عكس أسس تعاملهم مع الولايات المتحدة، لا يوجد “قانون للممارسات الأجنبية الفاسدة” لتنظيم تعامل مسؤولي الشرق الأوسط مع موسكو. لذلك، حتى لو لم تنجح جميع خططها، ستستمر موسكو في التأثير في المنطقة، على حساب الاستقرار الإقليمي ومصالح الولايات المتحدة هناك. ويتمثّل المضاد الوحيد لنفوذ بوتين في الشرق الأوسط في التزام الولايات المتحدة القوي والمتسق بالمنطقة، مدعوماً بالاستخدام الموثوق للقوة عند الضرورة. وفي الواقع، عند الحديث عن نهاية اللعبة بالنسبة لموسكو، غالباً ما ينسى المحلّلون أنه كان للولايات المتحدة لسنوات طويلة دور خفي خاص بها. وإلى أن يتغير ذلك، ستظل روسيا برئاسة بوتين ملكة وحيدة العين في وادي المكفوفين.
معهد واشنطن