على مدى أكثر من عقد من الزمن، كان التعاون الوثيق بين “الجيش الإسرائيلي” و”قوات أمن السلطة الفلسطينية” [“قوات الأمن الفلسطينية”] أقوى دعامة استقرار في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتقلب، من خلال عملهما معاً للحفاظ على النظام وإبقاء الإرهابيين تحت المراقبة في الضفة الغربية. والآن تبدو هذه القوات الفلسطينية – التي تتلقى تدريباتها وأسلحتها وتمويلها من الولايات المتحدة بشكل رئيسي – وكأنها آخر المتضررين من الإغلاق الحكومي الأمريكي الذي اتخذه ترامب.
إن التشريع الأمريكي الذي أقره الكونغرس في العام الماضي، والذي من المقرر أن يدخل حيز التنفيذ في نهاية هذا الشهر، سينهي فعلياً جميع المساعدات المتبقية لـ “السلطة الفلسطينية”، بما فيها قوات الأمن. كما سيخفض التمويل لبعثة أمريكية صغيرة في القدس، يرأسها جنرال أمريكي بثلاث نجوم، التي تساعد على تنسيق العلاقات بين القوات الفلسطينية و”الجيش الإسرائيلي”.
وقال مصدران على دراية بهذه القضية لصحيفة “ذي ديلي بيست”، إن التعديلات المحتملة على القانون التي من شأنها السماح باستمرار هذه المساعدات، معلّقة بسبب الإغلاق الحكومي الأمريكي. فضلاً عن ذلك، يؤدي جو المجابهة والأزمة في واشنطن إلى تهميش قضايا ملحة مثل إصلاح التشريعات السيئة.
ومما يزيد الطين بلة، أن قانوناً إسرائيلياً مستقلاً يحجز جزءاً كبيراً من الميزانية الفلسطينية سيدخل أيضاً حيز التنفيذ في نهاية الشهر الحالي، الأمر الذي سيزيد من الضغط على حكومة “السلطة الفلسطينية” التي تعاني من ضائقة مالية، وربما يدفع بقطاع غزة إلى أتون الحرب. إن كل خطوة لوحدها سيئة بما فيه الكفاية، وإذا أُخذت مجتمعةً فهي تمثل وصفة محتملة لمستقبل يسوده العنف.
ولم يحظَ “قانون مكافحة الإرهاب” الأمريكي أو “أتكا” (ATCA) إلا بانتباه قليل عندما تم إقراره في تشرين الأول/أكتوبر الماضي ووقّع عليه دونالد ترامب ليصبح قانوناً. وتعزى صياغة هذا القانون إلى دعاوى مدنية رفعتها عائلات ضحايا الإرهاب ضد “السلطة الفلسطينية” و”منظمة التحرير الفلسطينية” في المحاكم الأمريكية، مُدّعيةً أن المسؤولين الفلسطينيين الرسميين سهّلوا وقوع هذه الأحداث ويتحملون المسؤولية عن وقوعها. وفي قضيتين على الأقل، فازت العائلات بأحكام هائلة، وبلغ مجموع التعويضات عن الأضرار 600 مليون دولار، لكن الاستئنافات في تلك القضايا أبطلت القرارات على أساس أن المحاكم الأمريكية تفتقر إلى الاختصاص القضائي. ومن جهة الكونغرس: ينص “قانون مكافحة الإرهاب” بأن “المدّعى عليه يُعتبر قد وافق على الاختصاص الشخصي [الولاية القضائية على الأشخاص]” إذا قبل هذه الاختصاص “أي شكل من أشكال المساعدة، بأي طريقة يتم تقديمها” من الحكومة الأمريكية. بعبارة أخرى، من خلال قبول “السلطة الفلسطينية” أي مساعدات أمريكية، فإنها تُعرِّض نفسها لالتزامات كبيرة في المحاكم الأمريكية، قد تصل إلى الإفلاس المحتمل، وتفوق بكثير قيمة [الإعانات] بالدولار والمنافع من أي مساعدة تلقتها من واشنطن.
وقد تمت الموافقة على “قانون مكافحة الإرهاب” قرب نهاية العام الذي شهد قيام إدارة ترامب بقطع جميع المساعدات الأمريكية للفلسطينيين تقريباً: أي مئات ملايين الدولارات التي قُدمت حتى الآن لتمويل “وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين”، وبرامج التنمية والبنية التحتية التابعة لـ “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، ومستشفيات القدس الشرقية، وبرامج المصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وكانت الدفعة الوحيدة من المساعدات التي بقيت قائمة – 60 مليون دولار – هي تلك المخصصة لـ “قوات الأمن الفلسطينية” وبعثة “المنسق الأمني الأمريكي” في القدس، مما يسلط الضوء على قيمتها حتى في وجهة النظر المستهجنة للإدارة الأمريكية الحالية. وكما ذكرت صحيفة “ذي ديلي بيست” سابقاً، تعمل “قوات الأمن الفلسطينية” المؤلفة من 30 ألف شخص بشكل وثيق مع “الجيش الإسرائيلي” للحفاظ على القانون والنظام في المدن الفلسطينية، ومكافحة الإرهاب، ومنع المظاهرات من التفاقم، وإعادة المئات من الإسرائيليين الذين يدخلون الأراضي التي تسيطر عليها “السلطة الفلسطينية” بأمان إلى إسرائيل.
ومنذ عام 2005، عمل “المنسق الأمني الأمريكي” على تدريب “قوات الأمن الفلسطينية” وتجهيزها وتقديم المشورة لها، مما ساعد على تحويل مجموعة غير عملية من الخدمات التي حطمتها إسرائيل خلال الانتفاضة الثانية (2000-2005) إلى قوة متماسكة ومحترفة. وكما يتضح من اسمها، “تنسق” البعثة أيضاً بين إسرائيل و”السلطة الفلسطينية”، وتعمل كوسيط لبناء الثقة بين الطرفين. وقد أجمع العشرات من مسؤولي الأمن الإسرائيليين الذين أُجرِى معهم كاتب هذه السطور لقاءات في السنوات الأخيرة على دعم إعادة تشكيل “قوات الأمن الفلسطينية”، ومساندة التنسيق الأمني المستمر، وتأييد الجهود الأمريكية والدولية في هذا الصدد. وكان الجنرال غادي آيزنكوت، الذي اختتم فترة ولايته كرئيس أركان “جيش الدفاع الإسرائيلي” في الأسبوع الماضي، قد نصح الحكومة الإسرائيلية وفقاً لبعض التقارير بـ “تعزيز” «قوات الأمن الفلسطينية» خلال الكلمة التي ألقاها في ملاحظات وداعه لرئاسة الأركان.
وفي هذا الصدد، ذكر المسؤول السابق بوزارة الخارجية الأمريكية، سكوت أندرسون، أن الكونغرس وإدارة ترامب بدتا غير مدركتين للضرر الذي يمكن أن يلحقه “قانون مكافحة الإرهاب” بالمكاسب المذكورة أعلاه، والتي يمكن القول إنها أكثر الجوانب إيجابية في “عملية السلام” برمتها بقيادة الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد، كتب أندرسون: “لا يبدو أن أحداً قد توقع هذه النتيجة”، مشيراً إلى احتمال قطع المساعدات الأمنية الفلسطينية، “أو إذا كان أي شخص في العملية التشريعية قد قطعها [بالفعل]، فهو لم يذكر ذلك”. وقد تم إيفاد “المنسق الأمني الأمريكي” نفسه، اللفتنانت جنرال إريك فندت، إلى واشنطن في كانون الأول/ديسمبر للضغط من أجل تعديل مشروع القانون أو كما قال أحد المصادر بصراحة، لإنقاذ البعثة. ويبدو أن هذه الجهود كانت تكتسب إذناً مُستقبِلة، وفقاً لمصدر آخر، إلى أن تمت عملية إغلاق الحكومة التي استحثها ترامب. إن واشنطن هي الآن في سباق مع الزمن إلى حين دخول التشريع حيز التنفيذ في 1 شباط/فبراير.
ومن جانبهم، أوضح الفلسطينيون ما الذي يعتزمون فعله إذا لم يتم تعديل مشروع القانون. وفي هذا السياق، أبلغ رئيس وزراء “السلطة الفلسطينية”، رامي حمد الله، وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في رسالة سُربت إلى الإذاعة الوطنية العامة، بأن «السلطة الفلسطينية» “تُخلي مسؤوليتها كلياً ولم تعد ترغب في قبول أي شكل من أشكال المساعدة المشار إليها في «قانون مكافحة الإرهاب». وأن حكومة فلسطين تختار بشكل لا لبس فيه عدم قبول هذه المساعدة”.
ومن الصعب قياس التأثير المحتمل على أرض الواقع في الوقت الحالي. فعلى المدى القصير، من المرجح أن يبقى التنسيق الأمني الإسرائيلي -الفلسطيني المباشر على ما هو عليه حتى في غياب الدور الأمريكي. ووفقاً للكولونيل آلون إيفياتار، وهو ضابط استخبارات إسرائيلي متقاعد لديه خبرة طويلة في الشؤون الفلسطينية، لصحيفة “ذي ديلي بيست”: “للتنسيق الأمني ‘أهمية مقدسة’ بالنسبة لـ [الرئيس الفلسطيني محمود] عباس، وسيستمر هذا التنسيق من الناحية العملية”. ومع ذلك، حذر إيفياتار من أن الرد الفلسطيني يمكن أن يكون “توضيحياً”، كالعادة، مما يخلق أزمة تهدف إلى “جذب إسرائيل إلى جانب «السلطة الفلسطينية» [في مواجهة الولايات المتحدة]، حتى يفهم الجميع الآثار والعواقب”. وأمّا على المدى الطويل، فإن إنهاء عمل بعثة “المنسق الأمني الأمريكي”، في مجالات مثل التدريب واللوجستيات والموارد البشرية وتوفير المعدات، سيكون له بلا شك تأثير سلبي على القدرات والمهنية الشاملة لـ “قوات الأمن الفلسطينية” بشكل عام.
وخلافاً لاسمها، فإن بعثة “المنسق الأمني الأمريكي” هي في الواقع متعددة الجنسيات، حيث يخدم فيها أيضاً ضباط عسكريون من كندا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا في القدس ورام الله. لذا فإن السؤال المثير للاهتمام هو ما إذا كانت أوروبا ستزيد من دعمها لـ “قوات الأمن الفلسطينية” في حال انسحاب الولايات المتحدة.
ومن الناحية التاريخية، لم تُبدِ الدول الأوروبية البارزة، مثل فرنسا وألمانيا، أي رغبة في التدخل أكثر من تقديم الدعم الصوري. كما لا يزال السؤال مطروحاً حول ما إذا كانت إسرائيل ستسمح لغير الأمريكيين بأداء دور حساس كهذا.
ولكن في مثال آخر على التزامن الغريب بين السياسة الإسرائيلية والأمريكية، أقر الكنيست الإسرائيلي تشريعاً مستقلاً لمكافحة الإرهاب في الصيف الماضي يمكن أن يكون له أيضاً عواقب بعيدة المدى. إذ سيشترط القانون أن تحجب إسرائيل أكثر من 300 مليون دولار سنوياً من المبلغ الذي تحوّله من الضرائب إلى “السلطة الفلسطينية”، وهو المبلغ الذي تقول إنه يُدفع سنوياً إلى نحو 35 ألف فلسطيني سواء كانوا معتقلين في السجون الإسرائيلية بتهم الإرهاب أو ينتمون إلى عائلات الإرهابيين المقتولين.
وكجزء من اتفاقيات السلام السابقة، يرتبط كل من إسرائيل والفلسطينيون اقتصادياً من خلال اتحاد جمركي مشترك. فكل شهر تحوّل إسرائيل إلى “السلطة الفلسطينية” عائدات الضرائب التي تجمعها نيابة عنها. وتُعتبر هذه التحويلات إلى حد بعيد، أكبر مصدر دخل لـ “السلطة الفلسطينية”، ويُقصد بالقانون الجديد خصم ما بين 7% و10% من كامل الميزانية السنوية لـ “السلطة الفلسطينية”.
وفي هذا السياق، قال عضو الكنيست آفي ديختر، أحد المشاركين في تقديم مشروع القانون من حزب الليكود: “لقد حوَّلَت «السلطة الفلسطينية» نفسها إلى مصنع يوظف القتلة”، ملخصاً بذلك وجهة النظر الإسرائيلية القائلة بأن هذه المرتبات الرسمية تحفز الإرهاب الفلسطيني. وبصرف النظر عن أنّ ديختر، وهو مسؤول سابق في جهاز الأمن الداخلي “شين بيت”، قد يكون على دراية أكثر من غيره بأن “قوات الأمن الفلسطينية” تعمل بشكل وثيق مع جهاز أمنه السابق لإحباط تلك الهجمات الإرهابية ذاتها. وقد تم تمرير مشروع القانون بأغلبية ساحقة في تموز/يوليو الماضي، مدفوعاً بقانون أمريكي مشابه في وقت سابق من ذلك العام يسعى إلى إنهاء ما يسمى بممارسات “الدفع مقابل القتل”.
وليس من المستغرب أن يختلف الإسرائيليون والفلسطينيون بشكل كبير حول هذه القضية. إذ ينص النص الفعلي للقانون على أن جميع القابعين في السجون الإسرائيلية تقريباً بسبب جرائم “متعلقة بالأمن”، وليس فقط أولئك الملطخة أيديهم بالدماء، سيشهدون انخفاضاً في رواتبهم من التحويلات الضريبية. وحيث ينظر الإسرائيليون إلى البرنامج كداعم لـ “الإرهاب”، يراه الفلسطينيون، كما قال عباس: “مسؤولية اجتماعية لرعاية أناس أبرياء عانوا جرَّاء اعتقال أو قتل أحبائهم” منذ الستينيات. وكما نشرت صحيفة “واشنطن بوست” بتفصيل شديد، فحتى المبلغ الفعلي الذي تم الاستشهاد به من قبل المسؤولين الإسرائيليين قد يكون مبالغاً فيه.
ومع ذلك، فإن مزايا القانون وتعريف كلمة “إرهابي” قد تكون خارج الموضوع. إذ لن توقف “السلطة الفلسطينية” هذه الممارسة أبداً، حيث سيكون إيقافها خطوة قال عنها أحد المسؤولين الفلسطينيين بأنها “بمثابة انتحار سياسي”. وقال عباس بعد إقرار القانون “حتى لو لم يتبق سوى فلس واحد، سنقدمه للشهداء والسجناء وعائلاتهم”.
وكما هو الحال في “قانون مكافحة الإرهاب”، من المقرر أن يبدأ سريان مفعول القانون الإسرائيلي في نهاية الشهر الحالي، مع عدم وجود أي إجراءات احتياطية في مجلس الوزراء الإسرائيلي لتأخير تنفيذ القانون لأسباب تتعلق بالأمن القومي. وقال أحد المقربين من عضو الكنيست ديختر لصحيفة “ذي ديلي بيست”: “تم تمرير هذا القانون في دولة إسرائيل، فمن الطبيعي أن يحدث ذلك”. كما أن الانتخابات الإسرائيلية التي تلوح في الأفق في نيسان/أبريل ستجعل أي تحرك للتخفيف من هذا الإجراء أمراً مستحيلاً من الناحية السياسية. ويعني كل ذلك أنه في غضون أيام قليلة، ستبدأ “السلطة الفلسطينية” – التي تعاني بالفعل من عجز كبير في الميزانية – بخسارة جزء كبير من إيراداتها شهرياً.
وشهدت الأسابيع الأخيرة الآلاف من عمال القطاع الخاص يخرجون إلى شوارع المدن الفلسطينية، احتجاجاً على قانون جديد للضمان الاجتماعي مثير للجدل. ويمكن الآن أن يؤثر العجز الحالي في الإنفاق الحكومي على القطاع العام، الذي هو الأكبر للتشغيل في الضفة الغربية.
ومن المرجح أن يردّ عباس بخفض النفقات الحكومية غير الأساسية، وأبرزها الدعم المستمر الذي تضخه “السلطة الفلسطينية” إلى قطاع غزة المنفصل – الذي تحكمه «حماس» الإرهابية منذ عام 2007. ووفقاً لأغلب الحسابات، تصل هذه الإعانات إلى ما يقرب من 100 مليون دولار شهرياً. ومنذ العام الماضي، هدد عباس مراراً وتكراراً بقطع جميع هذه المساعدات. أما غزة، التي هي على شفا الهاوية من الناحية الاقتصادية والإنسانية، فيمكن دفعها إلى الهاوية، مما يؤدي إلى رد «حماس» بالطريقة الوحيدة التي تعرفها، وهي: تصعيد العنف ضد إسرائيل.
وقال إيفياتار، ضابط المخابرات الإسرائيلي السابق: “إن غزة هي الهدف الأكثر احتمالاً لقطع [الإعانات]، وهي تخدم منطق [عباس]. وليس لديه مشكلة من احتمال قيام إسرائيل بحل مشكلته مع «حماس».”
وقال مسؤول فلسطيني بارز لصحيفة “ذي ديلي بيست”، إن الجهود الأخيرة لإيجاد طريق للمضي قدماً في كلا القانونين المقبلين، في حوار مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لم تسفر عن نتائج. وقال إنه على الرغم من الخلافات السياسية مع الإدارة الأمريكية، “حافظ الفلسطينيون والأمريكيون على علاقة قوية في مجال الأمن”، وهم “فخورون جداً بهذا المجال كشركاء في السلام”، ولكنهم يشعرون أيضاً أنه “خط أحمر”، ولا مساس به.
لقد أغلق الرئيس ترامب الحكومة الأمريكية من أجل بناء جدار الذي غالباً ما يبرره بنجاح الحواجز التي تقيمها إسرائيل. ويمكن أن تؤدي الأزمتان الأمنيتان المندلعتان في الضفة الغربية وقطاع غزة بسبب السياسات المتخذة في واشنطن والقدس، إلى وضع تلك الجدران في موضع اختبار، وهي مفارقة قد تكون مهمة إن لم تكن شديدة الخطورة.