تخفي الضوضاء الكبيرة المحيطة بالنظام والحكام في إيران، على مستوى السياسات الداخلية والخارجية، أزمة داخلية أعمق تضرب جذور الثورة الإسلامية التي أرست قواعد هذا النظام قبل أربعين سنة، وبدعم غربي كبير. إن ما يواجهه النظام الإيراني في الكواليس أخطر من الاحتجاجات التي تهز البلاد منذ أواخر العام 2017، وهو الغضب الشعبي الذي طالب بسقوط المرشد الأعلى، إنه أخطر حتى من العقوبات الأميركية والدولية. أزمة النظام اليوم هي في انقسام أركانه الرئيسية وفي صعود جيل جديد يرى في نفسه الأهلية لتنفيذ وصية المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، بمناسبة ذكرى الثورة، والتي دعا فيها الشباب إلى قيادة المرحلة القادمة من الثورة الإسلامية، وهو جيل الحرس الثوري الإيراني.
طهران – نشر المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، مؤخرا، رسالة بمناسبة مرور أربعين سنة على الثورة الإسلامية، تجاوزت في مضامينها وسياقاتها الزمنية الرسالة الاحتفائية لتكون، أشبه بوصية للجيل الشاب في إيران لتحقيق “المرحلة الثانية” من مسار الثورة الإسلامية، وهي مهمة صعبة تشي التطورات بأن الحرس الثوري يعد نفسه لاستلامها مع تقدم سن “قادة الثورة”، وحالات الوفيات الأخيرة، في صفوفهم، مثل وفاة محمود هاشمي شاهرودي، الذي كان من المرشحين لخلافة المرشد الأعلى.
تحدث خامنئي عن مواضيع التقاليد من قبيل إنجازات الثورة والتطور الاقتصادي والعلمي وأعداء إيران وجرائم الغرب والولايات المتحدة. ولم تخل الرسالة من ديباجة الحديث عن القضية الفلسطينية وتوظيف قضايا المنطقة، في ما يتعلق بالسعي لتحقيق الاستقرار والأمن والتماسك الإقليمي.
وفي حديثه عن ذلك، بدا وكأن المرشد الأعلى، الذي يمر بظرف صحي صعب، نتيجة تقدم السن (حوالي 80 سنة)، وسبق أن أجرى عملية جراحية على البروستاتا، يقدم خارطة طريق للثورة الإسلامية مع دخولها عقدها الخامس.
ويعلق راز زميت، الباحث في مركز الأمن القومي الإسرائيلي، على ذلك بقوله “إلى حد ما، من الممكن أن نعتبر هذه الخارطة وصية سياسية لخامنئي”.
ويضيف زميت “تشير خارطة الطريق هذه إلى تصميمه على الحفاظ على قيم الثورة على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها الجمهورية الإسلامية داخليا وخارجيا”.
يتأكد هذا القلق من جملة التحديات المحيطة، سواء الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها البلاد منذ نهاية 2017، أو ما سبق ذلك من رماد معركة تستعر في كواليس صناعة خليفة المرشد الأعلى، خاصة وأن الظرف مختلف تماما عن الأجواء التي صعد فيها خامنئي إلى أعلى هرم في النظام الإيراني، رغم عدم أهليته.
هناك أيضا قوة صاعدة، كان لخامنئي دور كبير في نموها وهي الحرس الثوري، الذي أصبح اليوم بمثابة دولة داخل الدولة، ولعل القوة التي يملكها اليوم سياسيا وعسكريا واقتصاديا، هي التي تجعله وفق المراقبين المعني الأول في وصية خامئني.
يمكن أن يتوضح ذلك من خلال القضايا التي ركز عليها المرشد الأعلى في رسالته، والتي دعا فيها الشباب الإيرانيين للاستعداد للفصل التالي من الثورة، والدفاع عنها، وجعل البلاد أقرب إلى أهم “مثال على إقامة حضارة إسلامية جديدة تضع الأساس لإعادة ظهور الإمام المنتظر”.
قيم الثورة الأبدية
تحدث علي خامنئي عن “قيم الثورة الأبدية والتي لا تقتصر على جيل واحد أو مجتمع معين، وعن الاستعداد لتصحيح أخطاء الماضي”.
وكان النصيب الأكبر من الحديث لفائدة السياسة الخارجية، حيث برر المرشد الأعلى تدخلات بلاده في دول الشرق الأوسط ودعمه للميليشيات الخارجية، الذي أشعل ضده غضبا شعبيا وصل إلى حد المطالبة بموته وإسقاط نظامه، بأنه جزء من “صحوة إسلامية” تقودها إيران.
ويقول راز زميت “في مجال السياسة الخارجية، يشير خامنئي إلى أن الساحة الدولية تواجه اليوم صحوة إسلامية مبنية على نموذج مقاومة الهيمنة الأميركية، كما يوازن فشل الولايات المتحدة وحلفائها مقارنة بإيران التي وسعت وجودها السياسي في المنطقة”.
ويشدد المرشد الأعلى على استحالة حل المشاكل مع الولايات المتحدة، لكون أن التفاوض معها لن يحمل أي ثمار، باستثناء الأضرار المادية والمعنوية. كما يشكك المرشد الأعلى في إيران في القدرة على الوثوق ببعض الدول الأوروبية.
ولا تبدو هذه التصريحات غريبة أو جديدة على المسؤول الأكبر في إيران أو غيره من المسوؤلين، لكنها تستمد أهميتها من كونها تأتي في سياق داخلي مضطرب، لدرجة ألّا يتوقع أن هناك الكثيرين من الشباب الإيرانيين الذين توجه إليهم خامنئي بالنصيحة سيعملون بها أو ستنطلي عليهم أحاديث التهديدات التي لا تزال إيران تواجهها من الغرب الذي “سعى في الماضي لمنع إيران من امتلاك أسلحة أساسية وبسيطة، أصبح اليوم يحاول منع الأسلحة الإيرانية المتقدمة من الوصول إلى قوات المقاومة”.
وبينما تركز نصائح خامنئي لجيل الشباب على سبعة مجالات: العلوم والأبحاث، الروحانية والأخلاق، الاقتصاد، العدالة ومكافحة الفساد، الاستقلال والحرية، الشرف الوطني، توجه إلى المحافظين للعمل المستمر على إحباط “جهود الغرب لترويج نمط حياة غربي وإفساد جيل الشباب الإيراني من خلال وسائل التواصل الاجتماعي”.
ويشير راز زميت إلى أن كلمات خامنئي، في ما يتعلق بالساحة الداخلية، تتجاهل الفجوة المتنامية بين الجمهور الإيراني، وخاصة جيل الشباب.
ويضيف أن المرشد الأعلى يدرك أهمية الشباب، لكن تؤكد رؤيته لهم على تجاهله لواقع انتشار قيم العلمنة بين العديد منهم، الذين أصبحوا يميلون إلى أسلوب حياة غربي.
اقتصاد المقاومة
في حين أن القضية الاقتصادية هي الأولوية القصوى للمواطنين الإيرانيين، وعوضا عن البدء في العمل على الإصلاحات الهيكلية العميقة التي تتطلب إزالة العقوبات، والاندماج مع الاقتصاد العالمي وتشجيع الشركات الغربية على العودة إلى إيران، يصر خامنئي على أن حل الأزمة يكمن في تبني “اقتصاد المقاومة”، الذي كوّن من خلاله المرشد الأعلى إمبراطورية اقتصادية كما استفاد منه بشكل كبير الحرس الثوري.
هكذا، يواصل خامنئي اتباع سياسات آية الله الخميني، الذي لم يمنح القضية الاقتصادية أهمية كبيرة، حتى أنه قال إن “إن الثورة لم تقم من أجل تخفيض سعر البطيخ”. والمتابع لوصايا الخميني، ثم خامئني، في ما يتعلق بتصدير الثورة، يتأكد من ذلك.
لكن، الوضع مختلف، والعالم الغربي الذي دعم الثورة الإسلامية ضد الشاه قبل أربعين سنة، يقف اليوم ضد كل النظام، وإنه مازال حائرا أمام ما يمكن أن يكون بديلا له.
تعزز مواقف خامنئي المتشددة فكرة استحالة حدوث تغيير مهم في إيران، ما دام لا يزال متمسكا بزمام السلطة. مع تزايد توسع الفجوة بين الشعب ومؤسسات النظام، إذ يعارض العديد من المواطنين المعسكرين السياسيين الرئيسيين (المحافظين والإصلاحيين.) ويعمل الإصلاحيون على إقناع الجمهور بأن التغييرات التطورية التدريجية هي أفضل من تغيير النظام الثوري الشامل.
وهنا، يشير زميت إلى أن رسالة خامنئي تتجاهل الطلب العام المتزايد على الإصلاحات المدنية والسياسية والاقتصادية، حتى ولو كانت هذه الإصلاحات محدودة ومتدرجة، بينما يدعم الرئيس حسن روحاني هذه الأهداف، ونوعا من الحريات الشخصية، وفكرة تقليل مشاركة الحكومة في حياة المواطنين.
لكن، “انفتاح” روحاني لا يكفي وحده لتحقيق هذا الانتقال، وقد ثبت أنه في كل أزمة يحمل الرئيس المحسوب على التيار المعتدل مسؤولية الأزمة الاقتصادية، حيث يصر خامئني على أن سياسات الحكومة هي السبب وليست العقوبات الدولية التي تقصم ظهر اقتصاد البلاد.
وتعتبر سمعة روحاني الخارجية كما علاقات الودية مع رجال الدين المعتدلين والبراغماتيين في صالحه، الأمر الذي يقلق عددا من المتشددين، الذين لا يملكون في الوقت الحالي، مرشحا بارزا، من أن يطرح اسمه اليوم كخليفة للمرشد الأعلى. الأمر الذي يؤشر لتحالف قوي بين المتشددين في مجلس قيادة النظام والحرس الثوري.
وتأتي استقالة وزير الخارجية جواد ظريف لتؤكد مدى ضعف الحكومة الإيرانية وضعف الرئيس حسن روحاني، حيث يعتبر ظريف يده اليمنى خاصة في ما يتعلق بالاتفاق النووي وتعديل كفة السياسات الخارجية مع الغرب، كلما صعد الحرس الثوري في الشرق الأوسط.
تؤكد هذه الاستقالة، ما يذهب إليه زميت بأنه ليس هناك مؤشر على أن النظام الممسك بزمام الأمر سيعمل على تكييف الأيديولوجيا الثورية مع الواقع المتغير، بل إن الدولة الإيرانية بصدد الانتقال إلى ما هو أسوأ، حيث تشير الكواليس إلى أن دولة الحرس الثوري تطمح لخلافة دولة المرشد الأعلى.
وفي مؤشر على حجم الصراع بين أجنحة النظام الإيراني، قال حسن عباسي، القائد السابق في الحرس الثوري، إنه يعتقد أن “الشعب الإيراني سيبصق على ظريف والمسؤولين الذين دعموا الاتفاق النووي”.
ونقلت وسائل إعلام إيرانية عن عباسي قوله “فليذهب روحاني وظريف ورئيس البرلمان علي لاريجاني إلى الجحيم”.
والدليل الآخر على أن الاضطراب الداخلي في إيران وصل مستويات غير مسبوقة، وتنذر بأن هناك تغييرا قادما، وربما من دواليب الدولة العميقة، التسريبات التي تظهر للجلسة الطارئة والسرية التي عقدها مجلس خبراء القيادة سنة 1989، بعد أيام من وفاة الخميني.
تكشف هذه التسريبات كيف أن خامنئي، الذي كان رجل دين ذا رتبة متوسطة، نصّب كمرشد أعلى لفترة عام واحد فقط، وأن اختياره كان غير دستوري.
ويلفت الخبير في الشأن الإيراني فرود بزهان إلى أن التسريب لم يثر تساؤلات حول صعود خامنئي إلى المقعد الأقوى في البلاد فقط، بل وضع نقاط استفهام أمام قيادته الحالية أيضا؛ مثلما يضع نقاط استفهام عن الجهة التي يمكن أن تقف وراء هذه التسريبات في هذه المرحلة الحاسمة.
ويقول أبوالحسن بني صدر، أول رئيس لإيران بعد الثورة (1980 – 1981)، إن الفيديو يظهر أن “النظام فقد تماسكه الداخلي، وهو مليء بالانقسامات”. ويضيف، “يحمل الفيديو أهمية وجودية للنظام. لقد حرسوه لمدة تقارب الـ40 سنة. لماذا سربوه؟ إذا لم يكن النظام مقسما، كيف أمكن تسريب شيء مثل هذا؟”.
العرب