اجتمع في دمشق يوم 18 مارس الجاري رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية محمد باقري، ورئيس أركان الجيش العراقي عثمان الغانمي، ووزير الدفاع السوري علي أيوب، في اجتماع فريد، ظاهره فيه القوة والتحدي، وباطنه الخوف والترجي، فقد قيل إنه لبحث التعاون العسكري والأمني بين بلدانهم، في وقت تعاني فيه إيران بشدة من العقوبات الأمريكية، باعتراف خامنئي وروحاني وظريف وغيرهم، وفي وقت لم تستطع الرئاسة والحكومة العراقية الجديدة من تحديد موقفها بين محور أمريكا أو محور إيران الطائفي، وفي وقت تدخل فيه سوريا في مرحلة ما بعد «داعش»، وما يترتب عليه من زوال أسباب وجود الجيش الأمريكي والجيش الروسي وجيش إيران وغيرها، بينما يعلن الجيش التركي أن وجوده مؤقت واضطراري لحماية الحدود التركية، ولا أطماع له بالأراضي السورية.
هذا المؤتمر العسكري الثلاثي الذي تقوده إيران المحاصرة، عبّر عن أهدافه الظاهرة من خلال مؤتمر صحافي مشترك عقدوه في دمشق، اعتبر وزير الدفاع أيوب أنه «سيتم التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية بالأسلوبين المعتمدين من الدولة السورية: المصالحات الوطنية أو تحرير الأراضي التي تسيطر عليها بالقوة». أما رئيس الأركان الإيراني فقد حرص على إعلان امتلاك إيران لمئتي ألف مقاتل في سوريا والعراق، وأنه تم تدريبهم وتجهيزهم عسكريا، وتدفع الحكومة العراقية رواتب مئة ألف منهم، وتتولى إيران دفع رواتب الباقين، وهذه رسالة متعددة الأهداف والجهات.
وفي الوقت نفسه بدأت تركيا وروسيا تسيير دوريات في إدلب في المناطق منزوعة السلاح من تاريخ 8 مارس الجاري، وكأن تركيا تعلق الآمال على كسب الموقف الروسي لجانبها، لضمان عدم دخولها في صراع دولي على الأراضي السورية أولاً، ولمساعدة روسيا في تغيير مسار الصراع في سوريا ثانياً، وتعمل روسيا في تعاونها مع تركيا من جهة، ومع إيران من جهة أخرى على ضمان مصالحها في سوريا والمنطقة، فهي تعمل على تبني موقف متوازن إقليمياً من الأزمة السورية، وإن كانت قد عجزت أو فشلت أو رفضت تبني موقف متوازن من أطراف الصراع داخل سوريا، وجعلت موقفها منحازاً مع نظام الأسد، بهدف جعل تحركها العسكري داخل سوريا وأمام الأمم المتحدة والعالم قانونياً، بحكم أن الأمم المتحدة حافظت على اعترافها بنظام سوري لبشار الأسد، بينما أخرجت جامعة الدول العربية نظام بشار من عضويتها منذ عام 2012. والتصريحات المقبلة من أمريكا يوم 21 مارس الجاري تؤكد تمسك إدارة ترامب بنحو (200) جندي أمريكي شمال سوريا، و (200) جندي أمريكي في قاعدة التنف جنوب شرق سوريا، وهذه التصريحات صادرة عن الرئيس الأمريكي ترامب نفسه، إذ تم إقناعه بعدم سحب كل القوات الأمريكية من سوريا، كما كان يريد في نهاية العام الماضي، وهذا مؤشر على أن تركيا لم تتوصل إلى اتفاق مع أمريكا يرضي الطرفين، بعد أن كان الرئيس الأمريكي ترامب يعول على تفاهم مع تركيا لضمان أمن المنطقة الآمنة شمال سوريا.
إن عقد رئاسات أركان الجيوش الإيرانية والعراقية والسورية اجتماعا عسكريا في دمشق هدفه سياسي وإعلامي أكثر منه عسكريا، وقد قيل إنه تركز على بحث مستقبل القوات الكردية المسماة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، كما جاء في بيان لوزير الدفاع لجيش الأسد بتخيير قوات سوريا الديمقراطية بالتفاهم السلمي لدخول القوات السورية الأسدية إلى تلك المناطق، أو الخيار العسكري، أي دخولها بالقوة العسكرية، وهو يعلم أن الخيار بيد أمريكا لا بيد قوات سوريا الديمقراطية إطلاقاً، وهذا يؤكد أن كلامه يحمل رسالة سياسية لأمريكا، إذ لا تملك هذه الدول الثلاث أن توجه رسالة عسكرية جدية لأمريكا. واللافت للنظر أن الاجتماع العسكري الثلاثي، ورغم انعقاده لبحث القضية الكردية في سوريا والمنطقة، حسبما هو معلن، إلا أن تركيا كانت بعيدة عن ذلك الاجتماع، كما أن روسيا لم تحضر مؤتمر الأركان الثلاثي، وفي ذلك رسالة من إيران لروسيا وأمريكا وتركيا، بأن بأيديها أوراقاً يمكن من خلالها عرقلة الجهود الدولية التي تستثني إيران في سوريا، وأنها يمكن أن تسير بحلول عسكرية تحقق لها ولحلفائها السيطرة أكثر، فرئيس الأركان الإيراني يتحدث بكل جرأة بأن لدى إيران قوات مسلحة تحت سيطرتها وأوامرها تقدر بمئة ألف في العراق ومثلها في سوريا، أي أن لإيران مئتي ألف مقاتل في المنطقة، وقادرة على أن تخوض بهم حروبها الاقليمية المقبلة.
إيران تعد نفسها عسكريا لمواجهة المصالح الأمريكية والإسرائيلية خارج حدودها
هذه الرسالة أو التهديد الإيراني يحمل ظاهريا تحديات أمام التواجد العسكري الأمريكي في سوريا وفي العراق معاً، ولكن باطنه الرجاء والترجي ألا تتورط أمريكا بعمل عسكري ضد إيران، وما يؤكد هذه المخاوف الإيرانية تصريح خامنئي يوم 21 مارس الجاري بأن: «إيران تمتلك صواريخ قادرة على ضرب كل القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة»، أي أن إيران تزيد في وتيرة رجائها لأمريكا بعدم الصدام معها، ودرجة التحدي تزداد بشكل ملحوظ، وكأن الصدام الأول سيضرب مصالح أمريكا مع قوات سوريا الديمقراطية شمال سوريا، كما جاء في تصريح وزير دفاع جيش الأسد، والمعلوم أن المقصود هو الاستراتيجية الأمريكية في سوريا، فرسالة التهديد موجهة لأمريكا، فهي الداعم الرئيسي لهذه القوات، وعليها تراهن أمريكا لإبقاء قواتها العسكرية في سوريا، ومن المؤكد أن أمريكا لن تقبل التهديد السوري، كما أنها رفضت العروض التركية بشأن هذه القوات، بل وعدلت من خطة انسحابها من سوريا لحماية مصالحها وحلفائها معاً، فالرسائل المتبادلة بين محور إيران وأمريكا قد تكون هي الخيار الأمريكي الأخير لحماية قوات سوريا الديمقراطية عن طريق بشار الأسد ومحور إيران أولاً، ولإخراجها من التهديد التركي ثانياً، لأن أي تحرك سيكون في مواجهة أمريكا وإيران معاً. لا بد أن تركيا تراقب خطط كلا المشروعين الإيراني والأمريكي واحتمالاتهما المستقبلية، ولن تقبل السكوت على المشروع الأمريكي الذي يسعى لتمكين قوات سوريا الديمقراطية من السيطرة على شريط حدودي أو كيان قابل لأن يتحول في المستقبل إلى كيان انفصالي، سواء باسم حكم ذاتي أو مستقل باسم الأكراد، لأن ذلك تهديد مباشر للأمن القومي التركي، فضلاً عن كونه تهديدا إنسانيا لتهجير مزيد من اللاجئين إلى تركيا، بينما تركيا تعمل لإعادة الملايين السوريين إلى أراضيهم ومدنهم وقراهم في تلك المنطقة. لقد رفضت تركيا العروض الأمريكية السابقة التي تدعو لمشاركة قوات تركية داخل المنطقة الآمنة، مع بقاء سيطرة لقوات سوريا الديمقراطية عليها، لأن تركيا تعرف تكوين وأيديولوجيا هذه التنظيمات ومشاريعها السياسية الانفصالية، ولأنها لا تقبل التعاون مع قوات كردية بقيت الحكومة التركية لسنوات عديدة تعتبرها تنظيمات إرهابية، أي أن تركيا لن تتراجع عن وصف هذه التنظيمات بالإرهاب، مهما كانت الضمانات الأمريكية بمراقبة سلوكها ومنع تحولها إلى تهديد إلى جنوب تركيا، فهذا الخيار والمشروع مرفوض من تركيا. وكذلك لن توافق تركيا على السماح للمشروع الإيراني أن يسيطر على شريط حدودي ممدود من طهران لبغداد وسوريا وللضاحية الجنوبية ببيروت، وإذا لم تعلن رفضها لمثل مشروع كهذا علانية، فإنها تعلم أن أمريكا لن تسمح بهذا الشريط إطلاقاً، كما أن روسيا لن تسمح لمثل هذا المشروع الإيراني أن يتحقق لأسباب أمنية واقتصادية، فالمشروع الإيراني بربط طهران ببيروت مشروع تدميري لأمن المنطقة واقتصادها، وسوف تتولى أمريكا وإسرائيل استهدافه عسكرياً ومنع إقامته، ما يجعل المعارضة التركية والروسية تقف في الصف الثاني من المجابهة مع إيران وحلفائها.
إن اعتراف خامنئي بالأثر القاسي للعقوبات الأمريكية على إيران بعد اعتراف رئيس الجمهورية روحاني بذلك، دليل على أن الخطة الإيرانية هي إشعار الشعب الإيراني بضرورة المواجهة مع أمريكا، وأن تكون هذه المواجهة على الأراضي السورية والعراقية أيضاً، فإيران تعد نفسها عسكريا لمواجهة المصالح الأمريكية والاسرائيلية خارج حدودها، وحجتها انها لا تقبل تجويع شعبها أولاً، وهي لديها قوات عسكرية في سوريا والعراق تعد بمئات الألوف لن تتركها تتفرج على موت إيران من الداخل، ولن تتركها ساكنة وهي تتعرض لأي هجوم عسكري على الأراضي الإيرانية المستبعد في الوقت الراهن.
إن إظهار إيران لجاهزيتها العسكرية واجتماعات رئاسات الأركان العسكرية الثلاث في محورها هو رسالة لأمريكا أولاً، وهو دليل على أن هذه الدول تشعر بالخوف من استهداف إيران وحصارها في المنطقة ثانيا، لأنه سوف ينعكس على بقائها في السلطة أمام شعوبها، فالأنظمة السياسية في الدول الثلاث هي أنظمة طائفية واستبدادية، يمكن أن تنهار من قبل شعوبها بمجرد دخولها في معارك دولية، وهذا ينطبق على حزب الله اللبناني أيضاً، وهو ما سوف يجعلها تتخلى عن ارتباطها بدولة الملالي بإيران لتأمين خروجها من حرب دولية، ولكنها لن تستطيع الخروج من معارك مع شعوبها في الداخل.
القدس العربي