لا هدنة رمضانية في اليمن، ولم تخطئ التوقعات بشأن محاولات الأمم المتحدة للبدء ببناء حل سياسي وعسكري في جنيف. فلا الاتصالات التمهيدية توصلت إلى التزامات أولية من الطرف الحوثي- «الصالحي»، ولا الظروف الإقليمية نضجت بما يكفي للبحث في تفاصيل تسوية. لكن الصراع يبقى في أساسه يمنياً محضاً، ويفترض في الطرفين عندما يذهبان إلى تشاور أو حتى تفاوض أن يتوافقا أولاً على تشخيص أقرب ما يكون من الموضوعية لطبيعة الخلاف وحقيقته، لأنه يتعلّق ببلدهما وليس ببلد آخر، وبمستقبل التعايش بينهما. وللأسف، كما هي الحال دائماً، يكون التفاوض والاتفاق أكثر صعوبة بين «شقيقين» مما لو كان الخلاف بين أصحاب الأرض وعدو خارجي محتلّ.
ليس معروفاً أن الحكومة اليمنية الشرعية ارتكبت انتهاكات ضد الحوثيين، فحروبهم الستة كانت ضد حكم حليفهم الحالي وخصمهم السابق علي عبدالله صالح، وليس معروفاً أنها افترت على صالح وزمرته. كانت هذه حكومة انتقالية، أي مؤقتة، وقد بادرها الحوثيون منذ 2012 باعتداءات على الجيش وإهانات لضباطه وجنوده في عمران وأماكن أخرى، فيما كانوا يقومون بزحفهم المنظّم على العاصمة. أما صالح، الذي تنحّى عن الحكم، أو خُلع منه، فلم يتقبّل كونه لم يعد الحاكم، وأن وحدات الجيش هي لليمن ولا تخصّه شخصياً أو تخصّ فرعه القبلي، بل لم يقدّر أن بلده وشعبه ضحوا بحقوقهم عليه ومنحوه عفواً على جرائمه وفساده، وإذ وجد أن هناك فرصة لـ «انقلاب» مدّ يده إلى الحوثي الذي وجد بالمقابل أنها فرصة لقيادة «جيش صالح»، والتقى الاثنان عند هدف واحد: إبقاء «الدولة» كما كانت دائماً، أي شمالية سلطوياً، و «زيدية» مذهبياً.
لم يأخذ الحوثي ولا صالح في الحسبان أن الأمر يتعلق ببلد وشعب ودولة، وأن الشعب تعامل دائماً بإنصاف مع الحوثي الذي لم يبادله بالمثل، ولم ينسق أبداً إلى التصنيفات الطائفية رغم أنه استشعرها في نهج صالح الذي ذهب في شروره أبعد مما تصوّر أشدّ الخصوم عداء له. ومع ذلك كان يمكن لحكم مبني على عصبية ضيقة أن يسود لو استطاع أن يكون وطنياً، وأن يعمّم النفع العام لا الفساد، وأن يُشعر عموم الشعب بمردود التنمية لا أن يعمّق الفقر والبؤس والتخلّف.
في أي حال، لم يقم هذا الحلف، الحوثي- «الصالحي»، على أي مبادئ ليمنٍ حرّ ومزدهر، بل كان ولا يزال بمثابة «عقد مصالح»، وأشبه بـ «زواج عرفي» تحتفظ طهران بوثيقته، وهي التي تقرر اللحظة المناسبة لتمزيقها وتحرير حليفها الحوثي من أي التزامات فيها تجاه صالح. ولعل أهم ما كشفه الصراع الحالي أن الفئوية القبلية المذهبية للحكم، هي التي جعلت «جيش صالح» في الجنوب أقرب إلى جيش احتلال، وإذا بالحوثي يسعى بدوره إلى وراثة هذا الاحتلال، وإلا فما الذي يفسّر إصراره على توسيع اجتياحاته؟
لم يكن لدى الحكومة الشرعية مشروع إقليمي، فلا هي تضمر الشر للسعودية لأنها تحتاج إلى دعمها، ولم تكن تستعدّ لمحاربة إيران لأن لديها من المشاكل والصراعات الداخلية ما يشغلها ويزيد، ولم يطلب رئيسها عبدربه منصور هادي العون الخارجي إلا بعدما أصبح الخطر عليه مباشراً ووشيكاً، وأي مسؤول في وضعه كان سيفعل ما فعله. والرئيس هادي كان أصلاً خيار سلفه صالح الذي لم يكن صالحاً أبداً في التعامل معه منذ لحظة انتخابه، بل استضعفه لأنه «جنوبي»، أو لأنه كان نائبه المغيّب عن الأنظار، أو لأنه اعتقد بإمكان ترهيبه ليبقي الجيش والأمن على حالهما كي يتمكّن من تحريكهما بـ «الريموت كونترول» من منزله.
إلى جنيف ذهب وفدا الحوثي وصالح مسلّحين بالانتشار الميداني لأتباعهما. فهما لا يستطيعان التحدّث إلا باسم انقلاب يبحث عن شرعية وباسم غزو للمناطق بلا أي مسوّغ وطني. وبناء على ذلك فإنهما غير معنيين بحكومة شرعية يعتبران أنهما قضيا على وجودها الفعلي على الأرض وقوّضا مقوّماتها، وبالتالي فأي جلوس إلى الطاولة مع وفدها يعني معاودة الاعتراف بها بصفتها المعروفة والمعترف بها دولياً، وهذا يقود في حد ذاته إلى القبول بالتفاوض وفقاً لشروط «حكومة» مقابل مطالب «حركة تمرّد». وطالما أن التفاوض هو بإشراف من الأمم المتحدة، وأن الحكومة تطالب بتنفيذ قرارات مجلس الأمن لاسيَّما القرار 2216، فهذه صيغة غير مريحة لطرف «الحوثي- صالح» الذي يرفض القرارات الدولية ويدعو إلى تفاوض من الصفر على أساس المعادلة الميدانية. لكنه يدرك أن حصوله على شيء من «الشرعية» يرتبط أيضاً بهذا التفاوض.
لذلك لم يكن أمام الوسيط الأممي سوى أن يبدأ بالبحث في وقف لإطلاق النار علّه يخلق أجواء مختلفة للشروع في النقاش السياسي، لكن وقف النار بات جوهر المسألة، لأنه يتطلّب إجراءات تقلل من فرص تجدّد القتال في أي لحظة، ولا يقتصر على تجميد للقوات في مواقعها، بل ينبغي تنفيذ انسحابات للقوات الحوثية بعيداً عن المدن التي تحاول السيطرة عليها. وحتى لو وضعت القرارات الدولية جانباً فإن ترتيبات وقف النار لا بد أن تأخذ مضمونها في الاعتبار. كل ذلك يُظهِر للحوثيين أن مسألة التفاوض برمّتها لا تناسب مشاريعهم لأنها تدعوهم إلى تنازلات لا ترى إيران أن لحظتها حانت بعد. أما الأميركيون الذين سبق أن أبدوا قبولاً بدور سياسي وأمني بارز للحوثيين في أي صيغة مستقبلية، وجدّدوا ذلك في محادثات مسقط، إلا أن الأميركيين أو سواهم لا يستطيعون إعطاءهم أكثر من حجمهم الحقيقي في البلد، خصوصاً أنهم فشلوا سياسياً عندما كانت الحكومة الشرعية متعاونة معهم بل تحت رحمتهم.
عبدالوهاب بدرخان
صحيفة العرب القطرية