علي الرغم من الأزمات المتكررة والدورية التي تتعرض لها الرأسمالية، فإنها لا تزال قادرة علي إحكام قبضتها علي العالم الحديث ونظمه السياسية. ومن أبرز دلائل هذه الهيمنة ازدياد تأثير الأثرياء في النظم السياسية، سواء كانت متأصلة الديمقراطية، أو حديثة العهد بها، أو حتي سلطوية. فبدلا من التأثير في مؤسسات صنع القرار، من خلال مراكز الضغط وغيرها، أخذ الأثرياء في ممارسة الدور السياسي مباشرة علي نحو أزال الفوارق بين عالمي السياسة والمال بشكل أكثر وضوحا.
يحاول هذا الكتاب أن يرصد ظاهرة الأثرياء من أصحاب البلايين في مختلف دول العالم، وتأثير صعودهم في معايير وقيم الديمقراطية، والحكم الرشيد، والشفافية، والرقابة، والمحاسبية، وأن يجيب علي أسئلة من قبيل دوافع هؤلاء الفئة نحو ممارسة السياسة مباشرة.
ثرونة السياسة:
في العام السابق علي إصدار هذا الكتاب، صدر في فرنسا كتاب للاقتصادي الفرنسي، توماس بيكتي، تحت عنوان “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”، وهو كتاب مهم جدا يري بعض الباحثين أنه ربما سيحدث أثرا معادلا لرأس المال لكارل ماركس. في كتابه، يستند ويست في تحليله لصعود الأثرياء الجدد إلي مقولات بيكتي، خاصة تلك المتعلقة بعملية تدوير الثروة في المجتمعات المعاصرة، والفجوات الشديدة الناتجة عن التدوير المختل بين طبقة الأثرياء المحدودة للغاية التي يطلق عليها ويست “القشرة” لصغرها المتناهي وبقية المجتمع.
ويهتم ويست بالأساس في هذا الكتاب بالآثار السياسية المترتبة علي صعود الأثرياء علي حساب بقية المجتمع، فيما يطلق عليه “ثرونة السياسة”، وفيها يكون للطبقة الثرية الصغيرة قدرة علي النفوذ إلي العملية السياسية.
يقول ويست إنه في تناوله هذا الموضوع، وجد أنها ظاهرة لا تقتصر علي الولايات المتحدة بمفردها، بحسبانها موطن الرأسمالية النيوليبرالية، فقد ترشح الأثرياء للمناصب السياسية في النمسا، واستراليا، وجورجيا، وتايلاند، وأوكرانيا، وبريطانيا، ولبنان، وغيرها من البلدان التي أصبحت الأوليجاركية تسيطر عليها. وفي روسيا، أفسحت سياسات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السبيل أمام هيمنة رجال الأعمال، حتي الصين الشيوعية يوجد فيها طبقة جديدة يطلق عليها “الأمراء”.
وعلي الرغم من تفشي الظاهرة في دول العالم، فإن ويست يري أنها تكون مستفحلة الأثر في الدول التي يغيب عنها حكم القانون، والمحاسبية، والشفافية، في الوقت الذي تؤدي فيه إلي الإضرار بهذه الجوانب في الدول الديمقراطية، علي الرغم من أن الرواد من رجال الأعمال الأثرياء قد أسهموا في تنمية مناطق عديدة في الولايات المتحدة، وقدموا نماذج تحتذي في الصعود الطبقي الذي يمثله “الحلم الأمريكي”.
تركز الثروات:
يشير الكتاب إلي أن ثروات وممتلكات البليونيرات الأمريكيين ازدادت الضعف عبر عقد واحد. ومنذ عشر سنوات، كان الأثرياء يسيطرون علي نحو تريليون دولار لترتفع إلي تريليوني دولار. وعلي مدي خمسين عاما، سجل الأثرياء نسبة مرتفعة في السيطرة علي الدخول. ففي عام 1976، كانت النسبة 8.3 ٪، ووصلت في عام 2012 إلي 19.6 ٪ بعد تعافي الأثرياء في الركود الاقتصادي الذي أعقب الأزمة المالية الأخيرة. وطبقا لمقياس جيني المعد لقياس التفاوت في الدخول في مجتمع ما، بلغت نسبة التفاوت في الولايات المتحدة في السبعينيات نحو0.35، وارتفعت هذه النسبة في عام 2010 لتصل إلي 0.45، في دلالة علي استفحال اللامساواة في النظام الاقتصادي. وقد سجلت العديد من الدول الغربية المتقدمة مثل هذه التفاوتات في معدلات الدخول بالنسبة لتضاعف الثروات.
أما الصين، فقد أوضحت دراسات في العديد من الأقاليم الكبري، أجريت علي آلاف من الأسر الصينية، أن نحو 5٪ من مجموع السكان يحصلون علي 23٪ من الدخول، وهو ما جعل الصين تسجل 0.49 علي مقياس جيني. أي أن تفاوت الدخول في الصين الشيوعية يزداد بدرجة أكبر من مثيله في الولايات المتحدة الرأسمالية.
يؤكد الكتاب أن ظاهرة تفاوت الدخول ظاهرة عالمية. فطبقا للبنك الدولي ودراساته، ازداد معدلات التفاوت علي مستوي عالمي في عام 1960 من 0.64 لتصبح 71.0 في عام 2002، علي نحو يجعل الأمر أسوأ علي مستوي النظام الدولي.
النشاط السياسي للأثرياء:
يقول ويست إن الأثرياء أصبحوا علي يقين بأن الانخراط في الحياة السياسية يؤثر في الحفاظ علي مصالحهم، علي العكس من الجمهور العام الذي أصبح مصابا بالسلبية السياسية، في الحالة الديمقراطية، أو مستبعدا منها في الحالة السلطوية. ففي دراسات تم إجراؤها لقياس المشاركة السياسية علي طبقات الأثرياء، وجد أن 99٪ من الأثرياء الأمريكيين يصوتون في الانتخابات الرئاسية، وهو ضعف مشاركة الجماهير المتوسطة والفقيرة في هذه الانتخابات، كما أن نحو الثلثين من الأثرياء 68٪ قاموا بتبرعات انتخابية لحملات السياسيين، مقابل 14٪ من الطبقات الأخري.
ويري ويست أنه من المهم جدا أن يتم تحليل توجهات الطبقات الثرية السياسية في الدول الديمقراطية، حيث تؤثر وتسيطر علي بنية السياسات العامة، حيث تختلف توجهات تصويتهم جذريا عن توجهات الأشخاص العاديين. وتوضح الدراسات أن هناك فجوة كبيرة بين توجهات 1٪ من الأمريكيين الذين يمثلون “القشرة الثرية” عن أغلب الأمريكيين فيما يتعلق بسياسات الضرائب، والصحة، والرفاهة، والتعليم، وغيرها من قضايا متعلقة بالسياسات العامة، فيؤيد 58٪ من الأثرياء سياسات خفض الإنفاق علي دعم التعليم والتأمين الصحي، ويري 71٪ منهم أن علي الدولة ألا تتدخل لتنظيم شئون الاقتصاد.
بعد تنامي الأزمة الاقتصادية الأخيرة، أوضح الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيجلتز أن الأثرياء، الذين كانوا جزءا من الأزمة، قد حازوا نفوذا ضخما، وبالتالي حصلوا علي قوة سياسية كبيرة علي نحو رسخ من أزمة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة. وعلي الرغم من موافقة ويست علي هذه المقولة، فإنه يري أن القوة السياسية للأثرياء الأمريكيين ليست مطلقة، إذ إنها محدودة بعدد من العوامل، وعلي رأسها الصراعات والانقسامات داخل هذه النخبة. وطبقا لهذا الرأي، فإن قوة الأثرياء المحافظين توازنها قوة الأثرياء الليبراليين. وهناك عوامل أخري مؤثرة في توجهات التصويت، واتخاذ القرارات.
فالإعلام مثلا قادر علي تغيير دفة التصويت، أو زيادة وعي الجماهير بمصالحهم المهددة، جراء سيطرة الأثرياء علي العمل السياسي، وهي اتجاهات يؤيدها بعض الساسة الذين يريدون الحفاظ علي علاقة توازن بين السلطة السياسية والمال. لذا، يقدم ويست في كتابه طرحا أكثر تركيبا من النظريات التقليدية التي تتحدث عن هيمنة مطلقة للأثرياء علي السياسة.