الموقف الإيراني من تطورات اليمن: وجهة نظر إيرانية

الموقف الإيراني من تطورات اليمن: وجهة نظر إيرانية

images

ملخص
تعرض هذه الورقة لموقف إيران من الحالة اليمنية، وتفترض الورقة أن الموقف الإيراني تجاه اليمن هو أن اليمن القوي والمستقل -بغضِّ النظر عن من يحکمه- يمثِّل ربحًا استراتيجيًّا لإيران. وهناك فرضية أخرى تقول بأن إيران تركِّز على بقاء القضايا الوطنية داخل الإطار الوطني وعدم أقلمة هذه الصراعات إذ ستؤدي الأقلمة إلى تزايد حدة الصراع وامتداده زمنيًّا وجغرافيًّا. وتناقش الورقة المراحل التي مرَّ بها الموقف السياسي الإيراني من القضية اليمنية، وبموازاة ذلك العلاقة بين إيران والسعودية. وتضع تبعًا لذلك ثلاثة سيناريوهات:

  • أولًا: فشل الرياض في اليمن: فقد بدأت الرياض تتنبه لصعوبة تحقيق أهداف عاصفة الحزم وقبلت بحلٍّ سياسي. في هذه الحالة يمكن أن يكون لمحاولات إيران إقناع أنصار الله بالقبول بالحلول الوسط وقْع إيجابي في الرياض ويؤدي إلي وقف الحرب اليمنية وتقاربٍ أکبر في ملفات أخري ومنها الحرب علي داعش والتوصل لحل وسط في سوريا.
  • ثانيًا: استمرار الحرب دون تغيير کبير: في هذه الحالة ستستمر المواجهات في الملفات الإقليمية.
  • ثالثًا: النجاح السعودي في اليمن: وهو السيناريو الأبعد حدوثًا. في هذه الحالة يمكن توقع ازدياد العدائية السعودية تجاه إيران وحلفائها في سوريا ولبنان. والواضح أنه من دون نصرٍ سعودي في اليمن ستفقد تحرکات الرياض الاستراتيجية ضد خيارات طهران الإقليمية مفعولها.

تمتلك کل دولة حدًّا واضحًا من القوة الحقيقية وإمکانية للصعود من مستوي القوة تلك إلي مستود أعلى من القوة، کما تواجه تحديات قد تؤدي لتراجع قوتها إلي مستوي أدنى. وهناك ثلاثة مستويات للقوة: أولًا: القوة الوطنية التي لا تستطيع أن تقوم بدور خارج حدودها، وکل ما تقوم به الدولة على هذا الصعيد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمنها القومي من منظور داخلي؛ ثانيًا: القوة الإقليمية التي تقوم بدور في محيطها الإقليمي للحفاظ علي أمنها القومي ومصالحها الحيوية؛ وثالثًا: القوة الدولية “حيث تقوم الدولة بأدوار في مناطق متعددة في العالم للحفاظ علي مصالحها والدفاع عن حلفائها ومنظومتها العقدية”. ولا يُعتبر القيام بالدور الوطني أو الإقليمي أو الدولي خيارًا لصُنَّاع قرار دولة معينة؛ فقد يؤدي عدم القيام بالدور الإقليمي للقوة الإقليمية إلي تراجع دورها ووصول المخاطر إلي حدودها. حدث ذلك لإيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979؛ إذ فُرضت عليها عقوبات دولية وواجهت حربًا ضروسًا استمرت لثمانية أعوام.

إضافة إلي ذلك، ستؤدي محاولة القيام بدور أکبر من مستوي قوة الدولة إلي الدمار وتراجع القوة أيضًا. هذا ما حدث للعراق بعد غزوه للکويت وتمدد قوته أکثر من إمکانياته. إذن، يمكن القول بأن حيِّز المناورة بين مستويات القوة الثلاث ضيق جدًّا. ويمکن أن يؤدي اتخاذ القرارات الصائبة من قِبل النخب الحاکمة إلي صعود قوة الدولة والعکس صحيح. من هذا المنظور، يمکن القول بأن إيران دولة بقوة إقليمية واليمن دولة ذات إمکانيات ترشحها لأن تکون قوة إقليمية. نفترض في هذه الورقة أن الموقف الإيراني تجاه اليمن مبني علي أن اليمن القوي والمستقل -بغضِّ النظر عن من يحکمه- يمثِّل ربحًا استراتيجيًّا لإيران. وهناك فرضية أخري تقول بأن إيران ترکِّز علي بقاء القضايا الوطنية داخل الإطار الوطني وعدم أقلمة هذه الصراعات إذ ستؤدي الأقلمة إلي تزايد حدَّة الصراع وامتداده زمنيًّا وجغرافيًّا.

نظرة إيران الاستراتيجية تجاه اليمن

بينما يؤدي التناحر الطائفي إلي استقطاب مذهبي يقسِّم منطقة الشرق الأوسط بناء علي حدود دموية، يعود علي المستوي الاستراتيجي بالمنطقة إلي قطبية القوة (polarization) ، ومن نافل القول: إن القطبية علي أُسس مذهبية تؤدي إلي تزايد الصراع حدةً واتساعًا؛ إذ تصبح خطوط التقسيم واضحة ويجري تخوين من لا يلتزم بهذه الخطوط في داخل أيٍّ من القطبين، وتکون العلاقة بينهما صراعية علي المستويين الخطابي والعملي. هکذا تنظر إيران إلي جعْل الشرق الأوسط مقسمًا إلي قطبين علي أُسس طائفية باعتباره أحد الأدوات المستخدمة لإضعاف دورها الإقليمي. من هذا المنظور، وکإطارٍ تحليلي، يمکن اعتبار محاولة الحدِّ من تقسيم الشرق الأوسط إلي قطبين طائفيين والعمل علي تشييد موازنة تشمل أکثر من قطبين، هي استراتيجية إيران الإقليمية الشاملة التي تغطي اليمن أيضًا.

من هذا المنطلق، تُمثِّل إمکانية تحول اليمن من دولة علي حاشية التطورات الإقليمية إلي دولة تؤثِّر بثقلها الاستراتيجي علي التوازنات الإقليمية، ربحًا استراتيجيًّا لإيران. لذلك وبغضِّ النظر عن من يحکم اليمن، فإن نهوض اليمن المستقل ذي القوة الصاعدة يُريح إيران ولكنه يؤرِّق السعودية. النظرة ذاتها کانت، وما زالت، مطروحة في طهران بالنسبة لمصر، أي: إن صعود مصر يُعدُ ربحًا استراتيجيًّا لإيران إذ يصبُّ في صالح استراتيجيتها الإقليمية الباحثة عن الموازنة التي ستصب، وفق نظرة طهران، في مصلحة الاستقرار الإقليمي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن إيران تحاول جاهدة بناء علاقات وطيدة مع الدول العربية التي تمتلك إمکانيات التحول إلي قوي إقليمية. ولهذا الأمر أسباب من أهمها: أن هذا المنحي سيصب في صالحها عند إعادة رسم وترتيب موازين القوي علي المستوي الإقليمي، کما أنه سيمنع السعودية وإسرائيل من بناء تحالفات وجبهات إقليمية لمواجهة إيران.

وخلافًا لما يُثار حول تطلعات طهران التوسعية في المنطقة، تعلم إيران حدود القوة اليمنية. بعبارة أخري، لا يوجد في اليمن ما يُثير طمع إيران أو أية دولة أخري للاستيلاء عليه. کما أن التجربة التاريخية تلخص لنا واقع أن اليمن عصي علي کل من يُحاول الاستيلاء عليه؛ فقد حاول ذلك العثمانيون والمصريون والسعوديون مرات عدَّة ولم يُفلحوا. وإن افترضنا عقلانية السلوك الاستراتيجي للاعب الإيراني نظرًا لمعارضته حقن الأزمات الوطنية بأجندة إقليمية -کما جري في سوريا والعراق وفي الحرب علي اليمن- فإن أي توجه لبسط السيطرة علي اليمن سيکون غير واقعي وغير عقلاني.

بشکل عام، إن نظرة إيران الاستراتيجية لليمن هي جزء من رؤيتها لمنطقة الشرق الأوسط، والرؤية هذه يمکن تفکيکها إلي أربعة أصول محورية، هي: أولًا: أرجحية الحلول الوطنية علي الحلول المفروضة إقليميًّا أو دوليًّا لحل الأزمات الوطنية في الشرق الأوسط ومنها أزمة اليمن. ثانيًا: معارضة التدخل الأجنبي لصالح أجندة أية قوة إقليمية ومنها الدول الداخلة في رهانات الأزمة اليمنية باعتباره أمرًا يزيد المشاکل تعقيدًا. ثالثًا: محاولة مساعدة اليمنيين للتوصل إلي حل وسط دون فرض أجندة خارجية عليهم. رابعًا: العمل علي إنهاء الصراع باعتباره بابًا لجرِّ المنطقة إلي مواجهات أکبر وأعمق.

موقف إيران من التطورات الثورية في اليمن

تطور موقف إيران من ثورة الشعب اليمني وفقًا لرؤيتها سالفة الذکر وسلوکها الاستراتيجي المبني علي هذه الرؤية. ويمکن تلخيص تطور الموقف الإيراني في أربع مراحل نبعت من تطورات الثورة والتغييرات المحيطة بها من محاولات تغيير مسارها أو احتوائها:

المرحلة الأولي: تمثَّلت بمناصرة إيران السياسية والإعلامية للثورة اليمنية ضد الحکم الفردي لعلي عبد الله صالح، واستمرت هذه المناصرة حتي بلورت السعودية أهدافها اليمنية في إطار “مبادرة مجلس التعاون لحل أزمة اليمن”. في هذه الفترة کانت إيران تنظر إلي ما يجري في اليمن علي أنه امتداد لثورات تونس ومصر، وکانت تري في سقوط صالح المتحالف مع السعودية والتابع للولايات المتحدة، تطورًا استراتيجيًّا باتجاه زيادة استقلال اليمن وابتعاده عن لعب دور التابع.

المرحلة الثانية: بدأت مع المبادرة السعودية في إطار مجلس التعاون؛ فقد تحفظت إيران علي المبادرة باعتبارها محاولة تسويق للمشروع السعودي علي حساب الثورة اليمنية وإخراج الشعب اليمني من المعادلة. أي: إن حديث المبادرة، وفق رؤية طهران، کان لاحتواء الثورة اليمنية. وإذا أخذنا بالتعويل الإيراني علي سقوط حلفاء «دول الاعتدال» المتحالفة مع الغرب طريقًا لرسم الحلول وإدارة الأزمات والقضايا الإقليمية إقليميًّا، لأمکن تفهّم الموقف الإيراني من المبادرة السعودية بدقة أکبر.

المرحلة الثالثة: وبدأت بمحاولة تفتيت قوة الحرکات والقوي الوطنية البعيدة عن النفوذ السعودي والغربي کأنصار الله والقوي ذات الأجندة المستقلة کالحراك الجنوبي. وکان خيار الحرکتين متمثلًا بقيام فيدرالية من إقليمين: أحدهما جنوبي والثاني شمالي، بينما رجَّحت اللجنة المکلَّفة بوضع تعداد وحدود الأقاليم خيار الستة أقاليم (تحت ضغطٍ سعودي وفق الرؤية الإيرانية). کما اغتيل مندوبا أنصار الله في الحوار الوطني وفُرضت حربٌ سابعة علي الجماعة بدأت من دماج وأدَّت -خلافًا لما ارتآه واضعوها- إلي صعود قوة أنصار الله بشکل غير مسبوق. کل ذلك أدَّي إلي دخول موقف إيران إلي مرحلته الثالثة المتمثلة بدعم التحرکات المبنية علي استقلال القرار اليمني من الإرادة السعودية.

ومع ازدياد قوة أنصار الله اتساعًا في أرجاء اليمن، بدأ القلق الاستراتيجي يسبغ التحرکات السعودية التي روَّجت لتبعية أنصار الله لإيران. بينما يعلم المتتبع لتطورات اليمن أن العلاقات بين الطرفين لم تکن يومًا مبنيَّة علي التبعية. وهناك فرق واضح بين التبعية والتقاء المصالح. أدَّي القلق السعودي الذي تزامن مع صعود نُخب جديدة في الرياض، إلي فرض حرب مدمرة علي اليمن بأهداف محددة دون إطار زمني. وقد أدخل العمل العسكري السعودي ضد اليمن الموقف الإيراني مرحلته الرابعة الواضحة في رفضها لهذا “العدوان” والمناصرة للمقاومة اليمنية أمامه؛ فقد شبَّه آية الله خامنئي الحرب السعودية علي اليمن بـ”عمل الصهاينة” في غزة(1)، کما اعتبر رئيس الجمهورية، حسن روحاني، أن الخطوة السعودية “خطأ استراتيجي کبير لحکومة مبتدئة تظن أن بإمکانها التأثير في المنطقة عبر القوة”(2)، وطالب وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، بالوقف الفوري للحرب علي اليمن(3).

مع دخول السعودية الحرب علي اليمن، تصاعد الصدام في اليمن إلي المستوي الإقليمي وفاجأ إيران لسبب بسيط؛ فقد تجاوزت هذه الحرب تقليدًا في التنافس الإيراني-السعودي يقول بعدم الدخول في مواجهات مباشرة بغرض الحدِّ من نفوذ الطرف الآخر. وحتي لو سلَّمنا بمساعدات إيرانية لأنصار الله، وهو التبرير اليتيم لحربٍ دمَّرت اليمن، فالواضح أن إيران لم تدخُل في حربٍ مباشرة لتواجه المدَّ السعودي أو غيره في المنطقة منذ تأسيس المملکة السعودية. لذلك، فسَّرت إيران العدوان السعودي علي اليمن باعتباره تصعيدًا ضد خياراتها الاستراتيجية. ورغم ذلك، لم تشأ طهران الردَّ علي هذا التصعيد لاعتبارات يمنية وإقليمية ودولية.

يمنيًّا، ومنذ اليوم الأول، راهن القرار الاستراتيجي الإيراني علي هزيمة السعودية علي يد المقاومة اليمنية لضعف المملکة العسکري من جهة ولروح الشجاعة والحمِيَّة لدي المقاومة اليمنية من جهة أخري. وعلي المستويين الإقليمي والدولي، لم تکن إيران تبحث عن مواجهات تؤثِّر علي صورتها کدولة تتحرك بمسؤولية وتبحث عن إحلال السلام في اليمن وغيره من الدول المأزومة في الشرق الأوسط في ظرفٍ تتوجه فيه إلي اتفاقٍ مع المجتمع الدولي في إطار الـ 5+1. لذلك کان الدأب الإيراني منصبًّا علي مبادرة بأربعة بنود لتوقف العدوان السعودي وبدء الحوار اليمني-اليمني وتشکيل حکومة ائتلافية(4).

لم تلقَ المبادرة الإيرانية ترحيبًا من قبل السعودية وحلفاء الرهان علي عاصفة الحزم؛ فقد اعتبرتها الأوساط السعودية محاولة لتجميل الصورة بينما تنظر إيران إلي اليمن المأزوم بالحرب المفروضة عليه علي أنه تهديد إقليمي يزداد خطرًا بازدياد قوة القاعدة و”داعش” فيه وتزلزُل موقع “الدولة” بغضِّ النظر عن “الحکومة” ومن يحکم صنعاء. لذلك انصبَّت الجهود الإيرانية علي أولوية الحل السياسي ليس لخوفٍ من هزيمة حلفائها اليمنيين، کما يُطرح في الإعلام السعودي والعربي، بل للحدِّ من الخطر المتصاعد هناك والذي يمکن اعتباره نتيجة لقرار تفتيت القوة اليمنية الصاعدة وضرب محاولة استقلال قرارها من قبل الرياض. من هذا المنظور، يمکن الکلام عن هدف آخر للمبادرة الإيرانية وهو الوقوف أمام الخيار الاستراتيجي السعودي المتمحور حول لجم التوجه الاستقلالي لليمنيين.

وعلي الرغم من مُضي أکثر من ثلاثة أشهر علي بدء “عاصفة الحزم”، ما زالت الطائرات السعودية تقصف المدن اليمنية دون جدوي؛ إذ لم يتحقق حتي الآن أيٌّ من الأهداف المعلنة عند بداية “العاصفة”. والواضح أن الرهان الإيراني علي أن الرياض لن تحصل علي ما تصبوا إليه في اليمن بدأ يؤتي ثماره، إلا أن الإيرانيين سجَّلوا حرصًا علي إيصال الوضع اليمني إلي حلٍ يُرضي الأطراف وينهي الأزمة. ويمکن تعليل ذلك بالأسباب التالية:

أولًا: تأكيدها علي الحل السياسي: تُبدي إيران لمنافسيها الإقليميين وللمجتمع الدولي حرصها علي الحلول السياسية لا العسکرية للأزمات علي الرغم من أن الورطة هناك سعودية وليست إيرانية.

ثانيًا: تنقل إيران رسالة الوقوف إلي جانب حلفائها عبر العمل علي احتواء الأزمة دون تحجيم إنجازاتهم الداخلية والخارجية، وهي رسالة موجَّهة لحلفائها ومنافسيها علي حدٍّ سواء.

ثالثًا: تبحث إيران عن أية فرصة في المنطقة لتُبدي زيف الادعاء بأن إيران لاعب ينشر الفوضي وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط؛ وهو ادِّعاء ازداد تکرارًا مع اقتراب موعد الاتفاق النووي بغرض تقويضه أو تأجيله علي أقل تقدير.

إيران والسعودية بعد حرب اليمن

يمکن اعتبار “التنافس” اللفظ الأنسب لوصف القسط الأکبر من تاريخ العلاقة الإيرانية-السعودية. قَدَر الرياض وطهران أن تتنافسا علي فضاءات النفوذ وحجم القوة؛ فالفضاء الذي تتنافسان عليه کقوتين إقليميتين هو الشرق الأوسط. لذلك، فإن تباين مواقف الدولتين حول قضايا وأزمات الشرق الأوسط، ليس غريبًا. والمنافسة لا تعني بالضرورة الصراع المفتوح؛ ففي تاريخ العلاقة، توجد فترات تعاونت فيها الرياض وطهران. حدث ذلك في أفغانستان مثلًا. وبالرغم من فترات التعاون تلك، دخلت العلاقة بين الدولتين منافسة غير محدودة في الشرق الأوسط منذ 2003، وازدادت حدَّة المنافسة لتصل لصراع نفوذ منذ 2005؛ وهي الفترة التي شهدت بروز المحويان المسميين بـ«محور المقاومة» و«محور الاعتدال». ومع دخول الشرق الأوسط فترة الثورات بعد 2011، ازدادت حدَّة الصراع. لکن ما الذي تضيفه حرب اليمن علي هذه العلاقة المأزومة أصلًا؟

منذ انتخاب روحاني، تغيَّر الخطاب الإيراني تجاه دول الجوار ومنها السعودية؛ فقد أبدت إيران استعدادها لـ “العمل معًا” للإتيان بالأمن والاستقرار للمنطقة، وخاطب وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، المملکة عبر صحيفة الشرق الأوسط معبِّرًا عن أولوية الجمهورية الإسلامية في العمل مع الجيران قائلًا: “برهنت الاضطرابات في المنطقة، على أنه لا يمکن لأي بلد أن يعيش منعزلًا ولا يمکن الوصول إلي الرفاهية علي حساب فقر الآخرين، ولا يمکن تحقيق الأمن علي حساب انعدام أمن الآخرين. إمَّا أن نربح معًا أو نخسر معًا”(5). وأرسل بعدها مساعده أمير عبد اللهيان للرياض دون أن تأتي الزيارة بأي مقابل. وبالرغم من صعوبة التحرك عمليًّا للارتقاء بالتفاهم في ظلِّ تضارب المصالح، إلا أن حکومة روحاني بدت واضحة في تعويلها علي الحوار الاستراتيجي طريقًا لحلحلة الخلافات أو لجم العداوات علي الأقل. وعبَّر ظريف عن هذا التوجه مرات عدة منها عند لقائه ناصر الجودة، وزير الخارجية الأردني، في طهران في مارس/آذار 2015(6).

تاريخيًّا لم تدخل إيران أو السعودية قبل حرب هذه الأخيرة علي اليمن في مواجهات مباشرة، وحتي أثناء الحرب العراقية-الإيرانية، وبالرغم من دعم السعودية للعراق وحدوث مناوشات بين الطائرات السعودية والإيرانية، لم يُطرح سيناريو المواجهة المباشرة کخيار استراتيجي في طهران أو الرياض. لذلك يمکن اعتبار دخول الرياض الحرب المباشرة في اليمن تحت مسمي مجابهة “المدِّ الإيراني” تخطيًا لتقليد عدم المواجهة المباشرة بين الدولتين. من هذا المنظور، يمکن القول بأن السياسة السعودية دخلت منعطفًا تاريخيًّا بترجيحها خيار المواجهة المباشرة؛ فالواضح أن سياسة إيران إزاء اليمن لم تحمل جديدًا؛ فالدعم الإيراني لم يعنِ يومًا مواجهة الرياض مباشرة، بينما الرياض التي جرَّبت دعم الجماعات والأطراف الموالية لها في سوريا والعراق ولبنان واليمن ولم يُکتب لها النجاح في الأغلب، صارت تنظر للمواجهة غير المباشرة مع طهران على أنها سياسة عديمة الجدوي؛ لذلك ارتقت بصراع النفوذ إلي مواجهة إيران بشکل مباشر.

وبالإضافة لدخولها المواجهة المباشرة، فقد أصبحت المملکة السعودية من أکبر الدول الداعية لضرب البرنامج النووي الإيراني. وکجزء من دعايتها لإيقاف التحسن في العلاقات الإيرانية-الغربية إثر التوافق المزمع حول النووي الإيراني، أعلنت المملکة علي لسان سفيرها في المملکة المتحدة أن السعودية يمکن أن تتحرك باتجاه الخيار النووي وأن جميع الخيارات ستکون مطروحة علي الطاولة(7). کما ذكر ترکي الفيصل في کلمة له في کوريا الجنوبية أنه مهما کانت نتيجة المفاوضات (بين إيران و5+1) فإننا نريد المثل. وتوجهت السعودية إلي العلن بعلاقاتها مع إسرائيل وأهدافها المشترکة مع الدولة العِبرية عبر اللواء المتقاعد أنور عشقي. والواضح أن الهدف من بروز هذا اللقاء إلي العلن هو إيصال رسالة لواشنطن حول الخيارات المتاحة أمام حلفائها في حال استمرار نهج الولايات المتحدة تجاه طهران(8). إذن، هناك تفعيل لأدوات حديثة الاستخدام في الدبلوماسية السعودية تجاه طهران.

سيناريوهات المستقبل

سيکون لمخرجات الحرب علي اليمن تأثير مباشر علي الحسابات السعودية والإيرانية، وبناءً علي هذه الحرب يمکن توقُّع ثلاثة سيناريوهات للعلاقة الثنائية:

أولًا: فشل الرياض في اليمن: فقد بدأت الرياض تتنبَّه لصعوبة تحقيق أهداف عاصفة الحزم وکانت قد قبلت بحلٍّ سياسي يحفظ ماء وجهها دون تحقيق أي من أهدافها. في هذه الحالة يمکن أن يکون لمحاولات إيران إقناع أنصار الله بالقبول بالحلول الوسط وقْع إيجابي في الرياض ويؤدي إلي وقف الحرب اليمنية وتقاربٍ أکبر في ملفات أخري ومنها الحرب علي داعش والتوصل لحلٍ وسط في سوريا.

ثانيًا: استمرار الحرب دون تغيير کبير: في هذه الحالة ستستمر المواجهات في الملفات الإقليمية وستزيد الرياض من دعمها للمعارضة السورية بينما ستستمر إيران بدعمها للجيش السوري وحلفائه في القتال هناك. لن يؤدي هذا الخيار إلي وضع حدٍّ للأزمات الإقليمية في المدي القريب بل سيزيد التعقيد وعدم الاستقرار ومن المرجح أن تنتقل عدوي الإرهاب الداعشي إلي الأردن والسعودية نفسها. أمَّا إيران فقد استطاعت حتي الآن تحصين نفسها أمام محاولات داعش لضرب أمنها القومي. ومن خلال دعمها للأکراد والحکومة العراقية، تمکَّنت طهران من إبعاد الخطر عن حدودها، لکن سيولة الوضع من شأنها أن تؤدي إلي تغيير الصورة بسرعة لا يتوقعها أي من اللاعبين ومنهم الرياض وطهران کما حدث في عملية احتلال الرمادي العراقية وتدمر السورية.

ثالثًا: نجاح السعودي في اليمن: وهو السيناريو الأبعد حدوثًا. في هذه الحالة يمکن توقع ازدياد العدائية السعودية تجاه إيران وحلفائها في سوريا ولبنان. والواضح أنه من دون نصرٍ سعودي في اليمن، وهو مستبعد، ستفقد تحرکات الرياض الاستراتيجية ضد خيارات طهران الإقليمية الکثير من مفعولها؛ فالواضح أن الحرب السورية مستمرة والوضع العراقي غير مستقر وليس بمقدور السعودية أن تغيِّر الکثير في الملفين دون أن تحسم ما بدأته في اليمن. والواضح حتي الآن أن اليمن حسم أمر عاصفة حزم الرياض، لکن لو افترضنا انتصار السعودية، فإن مثل هذا الانتصار سيزيد من عدائية الرياض تجاه طهران وحلفائها ويمکن توقع حروب طاحنة في مستقبل الشرق الأوسط.
__________________________________

الهوامش والمصادر
1-  “به سعودي¬ها هشدار مي¬دهم،” (أحذِّر السعوديين)، موقع مرشد الثورة آية الله خامنئي، (9 إبريل/نيسان 2015)، تاريخ الدخول (9 إبريل/نيسان 2015)
http://farsi.khamenei.ir/video-content?id=29428
2-  “روحاني: حمله حکومت تازه¬کار به يمن خطاي استراتژيک است” (روحاني: هجوم الحکومة المبتدئة علي اليمن خطأ استراتيجي)، وکالة أنباء تسنيم،(9 مايو/أيار 2015)، تاريخ الدخول (9 مايو/أيار 2015).
3- http://www.tasnimnews.com/Home/Single/734562
4-  “واکنش ظريف به حمله عربستان به يمن” (ردة فعل ظريف لهجوم السعودية علي اليمن)، صراط نيوز، (26 مارس/آذار 2015)، تاريخ الدخول( 26 مارس/آذار 2015):
5- http://www.seratnews.ir/fa/news/234561/%D9%88%D8%A7%DA%A9%D9%86%D8%B4-%D8%B8%D8%B1%DB%8C%D9%81-%D8%A8%D9%87-%D8%AD%D9%85%D9%84%D9%87-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%87-%DB%8C%D9%85%D9%86
6- “بحران يمن و ديپلماسي فعال ايران” (أزمة اليمن والدبلوماسية الفعالة لإيران)، فارس نيوز، (19 إبريل/نيسان 2015)، تاريخ الدخول (19 إبريل/نيسان 2015):
http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=13940130000343
7- ظريف، محمد جواد، “جيراننا أولويتنا” الشرق الأوسط، (21 نوفمبر/تشرين الثاني 2013)، تاريخ الدخول (19 إبريل/نيسان 2015).
http://archive.aawsat.com/leader.asp?article=750940&issueno=12777#.VYFkkEb4bz4
8-  “ظريف: روابط با همسايگان و مسايل منطقه‌اي اولويت اصلي سياست خارجي ايران است ” (ظريف: العلاقة مع الجيران والقضايا الإقليمية هي أولوية السياسة الخارجية الإيرانية)، صداي إيران، (6 مارس/آذار 2015)، تاريخ الدخول (6 مارس/آذار 2015):
http://sedayiran.com/fa/news/49259/%D8%B8%D8%B1%DB%8C%D9%81-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A8%D8%B7-%D8%A8%D8%A7-%D9%87%D9%85%D8%B3%D8%A7%DB%8C%DA%AF%D8%A7%D9%86-%D9%88-%D9%85%D8%B3%D8%A7%DB%8C%D9%84-%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D9%87%E2%80%8C%D8%A7%DB%8C-%D8%A7%D9%88%D9%84%D9%88%DB%8C%D8%AA-%D8%A7%D8%B5%D9%84%DB%8C-%D8%B3%DB%8C%D8%A7%D8%B3%D8%AA-%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%DB%8C-%D8%A7%DB%8C%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D8%B3%D8%AA
9-  Con Coughlin, “The Saudis are ready to go nuclear,” The Telegraph, June 8, 2015. http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/middleeast/saudiarabia/11658338/The-Saudis-are-ready-to-go-nuclear.html
10- Tamara Cofman Wittes, “How important is Saudi-Israeli track-two diplomacy?” Brookings, June 6, 2015. http://www.brookings.edu/blogs/markaz/posts/2015/06/06-saudi-israel-diplomacy-wittes

د. حسن أحمديان

مركز الجزيرة للدراسات