جاء تصريح نائب منسق الحرس الثوري الإيراني ( محمد رضا نقدي) في 23 كانون الأول 2023 بتهديد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بتحمل عواقب وخيمة في حال استمرار الحرب على غزة ومن بينها إغلاق البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، يلقي هذا التصريح الأضواء على توجهات وسياسة النظام الإيراني وسعيه لتحقيق عدة أهداف ميدانية عبر تنفيذ مفهوم العقيدة العسكرية الخارجية والدفاعية لإيران والتي تسعى لتقديم المصالح والغايات الأمنية خدمة لمشروعها السياسي وتنفيذاً لارادتها في التمدد والنفوذ، وبعد أن تحقق لها التأثير والسيطرة على المناطق الساحلية اللبنانية وميناء بانياس السوري والتي تتمتع بأهمية بالغة باطلالتها على البحر الأبيض المتوسط وهيمنتها على ميناء الحديدة اليمني المطل على البحر الأحمر عبر سيطرة الحوثيين أحد أدواتها وحلفائها.
والآن تعتمد مبادئ تحقيق الدوافع الايدي لوجية لتصل إلى مناطق حيوية وممرات مائية دولية تتمثل في التهديد الذي أطلقه محمد رضا بغلق مضيق جبل طارق الذي يعتبر من الممرات البحرية المهمة في العالم حيث يفصل بين قارتي أفريقيا وأوروبا عند نقطة التقاء البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي ويمثل نقطة حيوية وطريق شحن لكل المناطق الجنوبية من أوروبا والشمالية من أفريقيا، ويشرف على المضيق كل من المملكة المغربية وإسبانيا ومنطقة الحكم الذاتي جبل طارق البريطانية.
إن الغايات الإيرانية والأهداف الميدانية التي تسعى إليها بالإشارة إلى غلق ممرات وبحار مهمة تأتي في سياق استهداف المصالح الأمريكية والأوربية واستنزاف طاقتهم في الشرق الأوسط ومنع وصول السفن والناقلات البحرية وتحديداً الحاملة للطاقة من النفط والغاز إلى دولهم أو لإسرائيل وأحكام السيطرة والتأثير على حركة الملاحة والتجارة العالمية وتحقيق الطموح الجيو سياسي وتعزيز نفوذها المتنامي في المنطقة وسعيها للعب دور أكبر اقليمياً وأصبحت الآن تهدد بدور دولي عبر أهداف ومناطق بالغة الأهمية وتبتعد بمسافات طويلة عن موقعها الجغرافي، وهي بذلك تعمل على مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية بامكانياتها بغية الحصول على منافع ومكاسب جديدة تساهم في تعزيز موقف النظام الإيراني في أي مفاوضات قادمة اومتغيرات سياسية إقليمية تشهدها منطقة الشرق الأوسط ورفع مستوى التأثير الإيراني للقضية الفلسطينية وإظهارها بأنها المدافع الحقيقي عن حقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتحرير أرضه وهي ما تدركه الإدارة الأمريكية ولا تمانع فيه ولكن يجب أن لا تتعداه وتصل به للخطوط الحمراء، فمؤسسات النظام من الحرس الثوري وفيلق القدس قد وصلت إلى مستويات من المضايقات في استهداف المصالح الدولية والشروع السيطرة على المنافذ البحرية والممرات المائية بل تعددت الغايات وأصبحت تتقدم بمسافات بعيدة عن طبيعتها الجيو سياسية الإيرانية وهي إجراءات حركية مدعومة من قيادات النظام الإيراني وتسير وفق معطيات السياسة الميدانية والأمن الاستراتيجي الذي تتعامل به القيادات العسكرية والأمنية وصولاً إلى تحقيق مدياتها من التواجد والنفوذ وإثبات قوتها وقدرتها على التأثير ميدانياً وتهديد المصالح الغربية والتي اعتبرتها بعض الدول رسالة واضحة أدت إلى انسحاب أسبانيا وإيطاليا وفرنسا من تحالف الازدهار الذي أعلنته القوات الامريكية في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن قبل أيام، وهذا الانسحاب الأوربي يؤشر حقيقة الخشية التي بدأت بعض الدول تتحسسها وتعمل على حماية مصالحها والابتعاد عن أي مواجهة قد تحصل مع وكلاء وفصائل مسلحة ترتبط بالنظام الإيراني.
تعمل إيران على اختبار مدى صبر وتحمل الولايات المتحدة الأمريكية وقدرتها على ضبط النفس من خلال استمرار فصائلها المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري بتنفيذ العديد من الأنشطة والهجمات العسكرية ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا والتي بلغت العشرات منها بعد أحداث السابع من تشرين الأول 2023 عبر استهداف القواعد الأمريكية لقاعدة الأسد غرب العراق وقاعدة الحرير بمحافظةاربيل وأماكن القوات الامريكية في منطقتي الشدادي والرميلان شرق سوريا والتنف في الجنوب السوري، وتعلم إيران حقيقة الأمر انها عندما تحاول دفع وكلائها من الفصائل المسلحة للقيام بمهاجمة المصالح الإسرائيلية عبر منفذ البحر الأحمر من قبل الحوثيين إنما يعني مهاجمة الولايات المتحدة سياستها في المنطقة، وهي تعمل على محاولة استدراج أمريكا لأزمة إقليمية دولية عبر تنفيذ سياستها المعلنة ودعم العمليات والهجمات العسكرية التي نفوذها الحوثيين.
ان من ثوابت وتوجيهات السياسة الإيرانية الهيمنة على البحار والمضائق المهمة في المنطقة وأهمها الخليج العربي والبحر العربي والبحر والأحمر ومضيق هرمز وخليج عُمان وخليج عدن والتواجد في المحيط الهادي والهندي والاندفاع نحو التواجد والدخول للمحيط الأطلسي وتواصلها مع المياه وفقاً للقوانين الدولية وهو فصل جديد من التواجد في المياه الحرة والبعيدة وهو اسلوب إيراني يدعم السياسة الدبلوماسية في التعاون وتبادل المعلومات والمعرفة مع القوى البحرية وتحقيق أهدافها في تعزيز عمقها الاستراتيجي وتعزيز مكانتها بين دول العالم، وهذا ما حصل في 21 حزيران 2021 بتواجد السفينة اللوجستية (مكران ) والمدمرة الإيرانية ( سهند) في مياه المحيط الأطلسي عبر رحلة وصلت فيها البحرية الإيرانية موانئ فنزويلا في قارة أمريكا الجنوبية مستفيدة من الوضع الدولي الذي يسمح منذ عام 1982 لكل بلد أن يحلق في أجواء مضيق جبل طارق ويعبر مياهه الإقليمية بما فيها الغواصات والسفن البحرية بالمرور دون إبلاغ الدول المجاورة وهي أسبانيا والمغرب، وحققت إيران بهذه الرحلة أداة استراتيجية شاملة اعتمدت مواجهة هيكل الأمن الجماعي الذي تقوده الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبناء تحالف إقليمي وتعزيز قدرتها على الردع وزيادة وجودها في المنطقة، وهذا ما أكده قائد القوة البحرية الإيرانية الادميرال حبيب الله سياري في الثامن من تشرين الأول 2023 بقوله ( أن المحيط الأطلسي يعد من المياه الحرة في العالم وأينما وجدت مياه حرة فمن حقنا التواجد فيها)، وسبق وان تم إجراء دوريات بحرية في المحيط الأطلسي من قبل البحرية الإيرانية في أذار 2023 والتي أتت في استعراض إيران لقدرتها في مجال برنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة والدفاع الجوي من خلال مناورة ( المدافعون عن سماء الولاية).
أمام هذه المعطيات فإن ما جاء في تهديد نائب منسق الحرس الثوري الإيراني لم يكن بحالة جديدة على طبيعة وتوجيهات النظام الإيراني، فهذه التصريحات والإجراءات سبقت ما جاء بحديث المسؤول الإيراني، ومنها ما قاله قائد سلاح البحر الإيراني ( الادميرال شهرام إيراني) بتاريخ 19 تشرين الأول 2023 بإكمال جميع الأجراءات والتنسيق اللازم تمهيداً للتواجد في كافة المحيطات من العالم بسبب إدامة زخم المصالح الاقتصادية، وهذه السياسية الإيرانية تعمل على مواجهة المتغيرات في الملاحة الدولية والتي أتخذت عشرات السفن المرتبطة بإسرائيل من طريق رأس الرجاء الصالح ممرأ لها وغيرت مسار رحلاتها من الشرق للغرب عن هذا الطريق بدلاً من مضيق باب المندب بسبب هجمات الحوثيين والتي أدت إلى ارتفاع أسعار الشحن البحري إلى إسرائيل من مختلف الموانئ الصينية إلى أكثر من 2300 دولار للحاوية 40 قدما بحلول 12 كانون أول الجاري من 1975 دولارا في نهاية تشرين ثاني وفق تحليل من منصة الشحن العالمية Freightos.
وأورد التحليل على لسان زفي شرايبر، الرئيس التنفيذي لشركة فريتوس: “بالنسبة للسفن المتجهة إلى إسرائيل من آسيا، فإن الطريق حول إفريقيا أطول بكثير – حوالي 7000 ميل بحري و10-14 يوما – مقارنة بقناة السويس.. وهذه الطريق تتكبد أيضا تكاليف وقود أعلى”.
وقال شرايبر: “منذ بداية الحرب على قطاع غزة، زادت معدلات رسوم النقل عبر المحيطات من الصين إلى موانئ إسرائيل بنسبة 46 بالمئة”.
ويبقى على الولايات المتحدة الأمريكية مراقبة الكثير والعديد من التصرفات والتفاصيل الإيرانية المجهولة والمعرفة للوقوف على طبيعة وأهداف المشروع الإيراني السياسي.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية