تمتلئ وسائل الإعلام العربية هذه الأيام بطوفان من التحليلات حول مستقبل إيران على ضوء التحشيد الأمريكي العسكري والإعلامي ضد طهران، ولعل أكثر اطروحتين تتصارعان بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي من محللين ومعلقين ومتابعين أن إيران ما زالت ذخراً استراتيجياً بالنسبة لأمريكا وإسرائيل ولا يمكن التضحية بها مطلقاً، فهي البعبع الذي تستغله أمريكا لتخويف دول الخليج وابتزازها سنوياً بصفقات أسلحة مليارية، بينما تجد إسرائيل في إيران أفضل بعبع مذهبي يدق الأسافين بين الشيعة والسنة ويحرف الأنظار عن الصراع العربي الإسرائيلي. لكن فئة أخرى من المحللين تجد أن إيران استنفدت مهمتها الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة وحان وقت التضحية بها.
يقول فائز السعدون الدبلوماسي العراقي السابق: «من خلال خبرتي الشخصية جراء عملي في الملف الإيراني في وزارة الخارجية العراقية على مدى 10 سنوات، أقول بثقة كاملة إنه كلما علا صوت الإيرانيين مهدداً متوعداً الأمريكان والاسرائيليين والخليجيين فأعلموا أن قنوات الاتصال الخلفية تعمل بكامل طاقتها بين إيران وهذه الأطراف. ليس من باب الظرافة أو النكتة ان يخاطب ترامب قادة إيران داعياً إياهم للاتصال به وأنه لا ينوي إيذاء بلادهم. ترامب ومستشاروه يعلمون جيداً أن إدارة بوش الابن كانت أبلغت إيران بقرار الحرب على العراق قبل أن تُبلغ به أقرب حلفائها في الناتو أو الخليج. وبالمناسبة فإن جواد ظريف الإيراني والإسرائيليين هم أصحاب فكرة تفكيك الدولة العراقية وقواتها المسلحة والأمنية، ومقابل ذلك سمحت إيران للطيران الأمريكي باستخدام أجوائها خلال العدوان الأمريكي.
قد يتصاعد الموقف الى ما هو أكثر سخونة وقد تحصل احتكاكات عسكرية في مياه الخليج أو في أي من أرجاء المنطقة، ولكن من يعتقد أن الغرب، والولايات المتحدة بشكل خاص، قد يفرطون بإيران الطائفية المصدرة للفوضى في المنطقة فهو واهم ؛ يريد ترامب اتفاقاً نووياً جديداً وسيمنحه الإيرانيون ذلك، لأن السلاح النووي ليس من بين أهدافهم وسيكون عبئاً أكثر منه قوة، ويريد ترامب سياسة إقليمية لا تشكل تهديداً لحلفاء الولايات المتحدة وسيكون له ذلك، ويريد ترامب تأطير التسلّح الصاروخي وسيكون له ذلك ايضاً، كما سيتقاضى عن هذه المنجزات ما يشاء من الاتاوات من جيوب السعوديين وسواهم.
وستحصل إيران على اعتراف أمريكي بالوضع الراهن الذي فرضته منذ عام 2003 وحتى اليوم أنها هي اللاعب الرئيسي في العراق وفي سوريا ولكن بقدر ما يسمح به الروس وما يُرضي تركيا، وسيظل حزب الله صاحب الصوت المعطل في السياسة اللبنانية وسيعيد طلاء صواريخه لتبدو أزهى وأجمل في عروض عسكرية ستتم في المستقبل تحت أنظار حكومة لبنانية مشلولة، وسيدخل الحوثي تاريخ اليمن من أوسع أوابه طرفاً في تقرير مصير البلاد. وستظل الهتافات بموت أمريكا وإسرائيل تعلو في شوارع طهران وتكتب اللافتات بها لتعلو مقرات الحشد الشعبي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومعه تزداد معدلات غباء الطغاة العرب ذيل الكلب الأمريكي لتزداد شرعية نظام الولي الفقي حامي حمى القدس والمقدسات!»
كلما علا صوت الإيرانيين مهدداً متوعداً الأمريكان والاسرائيليين والخليجيين فأعلموا أن قنوات الاتصال الخلفية تعمل بكامل طاقتها بين إيران وهذه الأطراف
في المقابل يرى باحث عراقي يزعم أنه على اطلاع وثيق على المشاريع الأمريكية أن الإسرائيليين والأمريكيين تركوا إيران تتمدد كي ينقضوا عليها لاحقاً. ويقول مهيب الريشان في هذا الخصوص: «في أول يوم من الاحتلال الأمريكي لبغداد عام 2003 بدأت أعمال السرقة والنهب للمصارف والمؤسسات الحكومية، وقد كانت عفوية يقوم بها الأفراد في البداية ولكنها سرعان ما تحولت إلى عمليات منظمة تقوم بها عصابات تم تشكيلها بأيام قليلة. أذكى عصابة كانت تلك التي تستخدم سيارات حديثة مسروقة ورجال مجهزين بأسلحة خفيفة وقنابل يدوية وقاذفات صواريخ لفتح الأبواب الخارجية للمصارف ويرتدي عناصرها أقنعة ضد الغازات والدخان….ولأن كل ذكي هناك من هو أذكى منه، جاءت عصابة أخرى أكثر ذكاءً ودهاءً منها إلى نفس المصرف ولكن بعدهم بدقائق قليلة وقد يكون الأمر مدبَّراً سلفاً، انتظرت العصابة الثانية لدقائق أخرى حتى تكمل العصابة الأولى سرقتها بالكامل ثم قامت بتصفية عناصرها بعد خروجهم من المصرف وأخذت جميع المسروقات منهم دون عناء أو تعب وبلا تفجير أو اختناق.
تذكرت هذه الحادثة وأنا أرى ما يحدث في المنطقة بين أمريكا وإيران. لا شك أن أمريكا سمحت لإيران بالخوض واللعب في المنطقة كيفما تشاء لتحقيق مآرب لا يعلمها إلا الله ثم القابعون في البيت الأبيض، فقد انتشرت ميليشياتها في العراق واليمن وسوريا ولبنان لتزعزع أمن المنطقة ولتهرع دول الخليج الغنية إلى أمريكا وإسرائيل للخلاص من ذلك، وتم السماح بل وغض الطرف عن تدخل إيران وميليشيا حزب الله في سوريا والذي كان ظاهره حماية المقدسات وباطنه التوسع الفارسي ولكنه في النهاية يصب بالمصلحة الأمريكية الإسرائيلية المتمثلة بمنع سقوط بشار الأسد الذي لا غنى عنه الآن ولا يوجد بديل له كي يحل محله في الوقت الحاضر في مقاتلة التنظيمات المتطرفة وغير المتطرفة ومنعها من الوصول إلى الحد الذي من الممكن أن تؤثر فيه على الأمن القومي الإسرائيلي».
ويضيف الريشان: «أما وقد أدَّت إيران وميليشياتها ما عليها من مهامٍ في المنطقة فقد وجب التخلص منها وجني ثمار ذلك والاستمتاع بتقاسم المكاسب التي حققتها إيران في الشرق الأوسط، فهناك مشروع إيراني في المنطقة ومشروع أمريكي إسرائيلي مضاد له ولكنه يستخدم المشروع الإيراني حتى يصل إلى المرحلة التي لا بد له من القضاء عليه لأنه في النهاية مضاد له، فوقت المسرحيات واستخدام العرب انتهى ولم يعد للعرب وزن في موازين القوى المتناحرة الآن وليس لهم موقع من الإعراب في المنطقة الآن إلا أن يقوموا بالمشاهدة والتصفيق ودفع الفواتير وما كان مطلوباً منهم تم إنجازه وأصبح الكلام بين الكبار الآن والوضع العربي الذي لا يمكن التنبؤ بمستقبله بات تحصيل حاصل بفضل هوان حكامهم..
سبق لأمريكا أن ضربت قرارات مجلس الأمن والفيتو الروسي وتوصيات الأمم المتحدة واعتراضات الاتحاد الأوروبي بعرض الحائط واحتلت العراق، فلنقِس على ذلك ومن هنا ستبدأ مرحلة جديدة في المنطقة تعيد رسم الخارطة السياسية والعسكرية وبناء تحالفات إقليمية تسير وفقاً لما جاء في «صفقة القرن».
بكل الأحوال الأيام كفيلة بإجلاء الحقائق. هل ما زالت إيران الإوزة التي تبيض ذهباً لأمريكا، أم إن الإوزة لم تعد قادرة على البيض ومن الأفضل ذبحها والاستمتاع بلحمها؟
القدس العربي