في عمله الذي حمل عنوان سيكولوجية الجماهير، (1895)، كتب عالم الاجتماع وأخصائي علم النفس الاجتماعي غوستاف لوبون: “إن الاضطرابات الكبيرة التي تسبق تغيير الحضارات… تبدو للوهلة الأولى وكأن التحولات السياسية هي من حدّد معالمها بشكل خاص”. غير أنه يقول أيضًا: “تُظهر دراسة أكثر تيقظًا لهذه الأحداث أنه وراء أسبابها الظاهرة، يكون السبب الفعلي عمومًا تغييرًا عميقًا في أفكار الشعوب”.
ويكشف تعقّب منهجي للتوجهات الكامنة في المجتمع الفلسطيني بعيدًا عن الانشغال الشائع بمسائل السياسة والأمن، أن المجتمع الفلسطيني يشهد تغيرًا كبيرًا من النوع الذي وصفه لوبون.
ويبرز في قلب هذا التغيير الجيل الأصغر من الفلسطينيين الراشدين. فقد أصبح أبناء هذه الفئة أكثر نشاطًا بشكل علني خلال السنوات القليلة الماضية، لكن ما زال يتحتّم عليهم ترك بصمتهم الكاملة في الساحة الفلسطينية، التي سيقودونها مستقبلًا في نهاية المطاف. ونظرًا إلى هذا الانتقال المحتّم، من المهم إلقاء الضوء على الصورة المعقّدة للجيل الفلسطيني الشاب الذي يعيش في المناطق “المحلية” – أي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وكيف من المرجح أن ترسم مشاعر الإحباط التي يشعر بها معالم خطواته المستقبلية.
ويتطلب مثل هذا التعهّد مزيجًا من البحث الأكاديمي والنظري والتواصل المباشر مع الفلسطينيين الأصغر سنًا أنفسهم، إضافةً إلى انخراط مع القطاع العام الفلسطيني وإلمام بالعوامل التي تحدّد معالم عالمه الثقافي.
تاريخيًا، لعبت الأجيال الأصغر سنًا دورًا أساسيًا في السياسة والمجتمع الفلسطيني الحديث. وغالبًا ما ركّزت الثقافة الفلسطينية على قيم الثورة والشباب وأظهرت لها التقدير، وتُعتبر هذه القيم مصدرًا رئيسيًا للإنقاذ الوطني. وعلى خلفية صراع وطني طويل، وعلى ضوء خيبة الأمل المستمرة في القيادة التقليدية، يتّسم الشباب بالبراعة والنشاط ويمتلكون حسًا من الرسالة والتضحية.
في هذا السياق، لا يُعتبر أفراد “الجيل الشاب” الحالي خلفاء جيل الثورة فحسب – الذي عرّف عن نفسه بعد عام 1948 على أنه نقيض جيل النكبة الذي أُلقي عليه اللوم بسب وقوع النكبة نفسها – بل أيضًا خلفاء القادة الشباب للانتفاضتين الأولى والثانية (في عامَي 1987 و2000). وبالفعل، وعلى مرّ السنين، تطوّرت حركات الاحتجاج الفلسطينية وقيادتها بطريقة شبه مطابقة لأسلافها: فقد تطوّر المراهقون “المتمردون” ليصبحوا قادة متمرسين ومن ثم تعرضوا للانتقاد من الشباب المعاصر، حيث سيكرر الجيل المقبل الدورة نفسها.
لكن باعتبارهم أفراد “الجيل زد” العالمي، يختلف الشباب الفلسطيني اليوم تمامًا وبطرق عديدة عن الشباب الفلسطيني من الحقبة الماضية. فهؤلاء الشباب يستمدون إلهامهم من مصادر عدة متناقضة أحيانًا، ما يولّد حسًا من الارتباك والتشرد وعدم اليقين حيال المستقبل. فجيل “ما بعد أوسلو” هذا، الذي وُلد اعتبارًا من تسعينيات القرن الماضي، يعيش في ظل ظروف هجينة هي عبارة عن مزيج من الحكم الذاتي الفلسطيني والسيطرة الإسرائيلية المتواصلة.
كما أثّرت ثلاثة مفاهيم أخرى أوسع نطاقًا على هذا الجيل، ألا وهي “الربيع العربي” والمجال الرقمي الجديد والخطاب العالمي الحديث بين الشباب. فقد شجع “الربيع العربي”، الذي لا يزال صدى تداعياته يتردد في أرجاء المنطقة، على التمرد على الشخصيات التي تمثل السلطة، بمن فيها الأهل والوجهاء وأعضاء القيادة الوطنية. وفي الموازاة، يوفّر المجال الرقمي رضا آنيًا من خلال سحر ثقافة المستهلك الغربية من جهة، والانكشاف السهل على إيديولوجيا الجماعات المتطرفة على غرار تنظيم “الدولة الإسلامية” من جهة أخرى. أخيرًا، وإلى جانب مسألة الحقوق الوطنية التي لطالما كانت محطّ أنظار الفلسطينيين، يسلّط الخطاب العالمي الحديث بين الشباب الضوء على أهمية الحقوق المدنية والفردية أيضًا بشكل متزايد.
وإلى جانب هذه التأثيرات الجديدة، يرزح الشباب الفلسطيني تحت وطأة ضغوطات اجتماعية واقتصادية هائلة، ما يولّد تنافرًا معرفيًا شخصيًا وجماعيًا في أوساطهم. وصحيح أنهم مهتمون بالتطور الفردي وتحقيق الذات، لكن القيادة الفلسطينية ترشدهم نحو مواصلة القتال والتضحية من أجل المصلحة العامة. وفي حين أنهم يتطلعون إلى إيجاد وظيفة ومتابعة الدراسة، تقوّضهم البطالة والفقر. ورغم انكشافهم على ثقافة حديثة متساهلة من خلال الإنترنت، لا يزالون يعيشون في مجتمع تقليدي تقيّده مدونات سلوك صارمة.
وعليه، بالكاد يشكّل تعبير جزء كبير من الشباب الفلسطيني عن شعور باختناق جماعي وعن مشاكل تواصل مع الأهل ونفور عميق من القيادة السياسية مفاجأةً. وعلى غرار عدد كبير من المواطنين الفلسطينيين، يبدو أن الجيل الأصغر سنًا قد تخلى أساسًا عن الإدارة الوطنية لـ”السلطة الفلسطينية” ويعبّر عن استيائه ونفاد صبره من “حقبة الشعارات الثورية” للجيل الأكبر سنًا. وتؤدي هذه المشاعر إلى منحى من اللاسياسة يتجلى بوضوح في تراجع نسبة الانتساب إلى المنظمات السياسية وتدني المشاركة في الأنشطة التي تروّج لها.
وتسلّط دراسة للبيانات السكانية الأساسية الضوء بشكل إضافي على المشكلة المستعصية التي يواجهها الجيل الأصغر سنًا. ففي عام 1997، كان عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة 2.8 مليون نسمة. وفي عام 2007، ارتفع هذا العدد إلى 3.7 مليون نسمة، لتشير التقديرات اليوم إلى أن هذا العدد يبلغ 4.9 مليون.
ومن أصل هؤلاء السكان الذي يبلغ عددهم 4.9 مليون نسمة، تتراوح أعمار 47 في المئة منهم بين 17 أو أصغر و71 في المئة هم في الـ 29 من العمر أو أقلّ. ويناهز عدد الفلسطينيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا – وهي فئة عمرية غالبًا ما تتّسم من الناحية الديموغرافية بالنشاط والاندفاع – المليون ونصف المليون: وهناك ما يزيد قليلا عن مليون شخص من أصل 2.9 مليون يعيشون في الضفة الغربية (36 في المئة)، ونحو 580 آلف من أصل 1.9 مليون يعيشون في قطاع غزة (30 في المئة). وعلى ضوء معدل النمو السريع للشعب الفلسطيني، تزداد أهمية الجيل الأصغر سنًا كجزء من العامة.
وتواجه هذه الشريحة الكبيرة من الفلسطينيين آفاقًا اقتصادية سيئة. ويشكّل التعليم على وجه الخصوص مصدر إحباط مركزيًا للشباب الفلسطيني بسبب الفجوة التي تتسّع بشكل متسارع بين عدد الأشخاص الذين يحملون شهادات جامعية وأولئك الذين سيتمكنون بعد ذلك من ضمان الحصول على وظائف تتناسب وشهاداتهم. وبالفعل، ارتفعت نسبة سكان الضفة الغربية ممن حصلوا على شهادة البكالوريوس من 5.3 في 1997 إلى 11.8 في المئة عام 2015، في حين ازدادت نسبة الغزاويين الذين يمتلكون هذه المؤهلات من 5.9 إلى 15.1 خلال الفترة نفسها. غير أن معدل البطالة لدى الشباب ممن يحملون شهادات، والذي يبلغ 55.8 في المئة، يسبّب أزمةً حادة نتيجة التفاوت بين التوقعات الخاصة بالحياة ما بعد الحصول على شهادة وواقع البطالة لدى عدد كبير من حاملي الشهادات.
ولا تشكّل البطالة مشكلةً للمتعلمين فحسب؛ بل هي تحدٍ يواجه جيل الشباب بكامله. ففي أوساط الشريحة السكانية التي تتراوح أعمار أفرادها بين 20 و24 عامًا، يبلغ معدل البطالة الإجمالي 43.7 في المئة (31 في المئة في الضفة الغربية و63.2 في غزة)، ويساوي 37.2 في المئة في أوساط من تتراوح أعمارهم بين 25 و29 سنة (26.3 في المئة في الضفة الغربية و53.1 في المئة في غزة). وتتعارض هذه الأرقام بشكل صارخ مع معدل البطالة العام للفلسطينيين البالغ 27.4 في المئة (18 في المئة في الضفة الغربية و43.6 في المئة في غزة). وعلى خلفية هذه الأزمة المدنية المستمرة في غزة، تبرز تحديات الجيل الأصغر سنًا بشكل صارخ، وخصوصًا في قطاع غزة. وعليه، تزداد ظواهر الجريمة والانتحار والدعارة والإدمان على المخدرات وصعوبة إنشاء عائلة والطلاق والهجرة، من بين أمور أخرى، في أوساط الشباب الغزاويين، وتؤثر على وجه التحديد على الأفراد المتعلمين.
هذا وشكّلت موجة الهجمات الإرهابية التي بدأت أواخر عام 2015، التي أطلق عليها الفلسطينيون تسمية “هبّة” والإسرائيليون “انتفاضة الأفراد”، تعبيرًا رئيسيًا عن الإحباط الذي يشعر به جيل الفلسطينيين الأصغر سنًا. ورغم أن الشباب الفلسطيني كان المحرّك الحتمي لهذه الفترة، افتقر إلى قيادة منظمة أو إطار عمل تنظيمي أو أجندة واضحة. وبدلًا من ذلك، كان معظم منفذي الهجمات أفرادًا شباب – من المدن وعازبين ومتعلمين.
وبالفعل، من أصل المنفذين البالغ عددهم 250 شخصًا الذين كانوا وراء الاعتداءات التي حصلت خلال الفترة الممتدة بين تشرين الأول/أكتوبر 2015 وآذار/مارس 2016 – وهي الفترة الأكثر احتدامًا لهجمات “هبّة” – 170 كانوا سكان مدن وبلدات في الضفة الغربية، في حين يعيش العدد المتبقي في قرى محلية. ويبلغ متوسط عمر المنفذين 21.5 عامًا؛ وكان 112 من بينهم تحت سنّ العشرين في حين تجاوز 24 منهم فقط عمر الثلاثين. كما أن عددًا كبيرًا منهم لم يكن يحمل علامات تقليدية واضحة عن الاغتراب الاجتماعي – فهم لم يتأتوا من عائلات مهدمة ولم يتركوا المدرسة.
لكن ما تشاطرته هذه المجموعة كميزة بارزة كان غيابًا شبه كامل للألفة مع إسرائيل، وهو عامل لعب دورًا بارزًا في قدرتهم على التشهير بـ “الآخر”. وفي حين تراجعت موجة الإرهاب تدريجيًا، يجب فهمها على أنها تعكس غضب الشباب الفلسطيني وإحباطه المستمر من الظروف التي يعيشها، ما قد يتفجّر على نحو أتمّ كنتيجة للتغيير السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
تجدر الإشارة إلى أن الشباب الفلسطيني في يومنا هذا ليس مجرّد تجسّد آخر للتوتر بين الأجيال الذي يُعتبر ميزة رئيسية للحياة الفلسطينية الشاملة. ويبدو أن التوترات بين الجيل الأصغر سنًا بذاته وبين الشباب وجيل الأهل تزداد سوءًا.
وتُعتبر هذه الظروف مقدّمةً لثورة مستقبلية، يمكن توجيهها ضدّ إسرائيل و”السلطة الفلسطينية” وحتى ضدّ حكومة “حماس”. وفي الحالتين الأخيرتين، يمكن لمغادرة عباس منصبه أن تؤجّج حالة استياء سياسي متزايد، في وقت قد تثبت فيه مساعي “حماس” لإعادة توجيه استياء شباب غزة باتجاه إسرائيل – كما أظهرت الحملة على مقربة من الحدود بين إسرائيل وغزة خلال العام الفائت – أنها أقلّ نجاحًا من آمال “حماس” في الحؤول دون توجيه الغضب نحو المنظمة أيضًا.
وفي مقال صدر في كانون الأول/ديسمبر 2015 بعنوان “عذرًا يا جيل الشباب … لقد كنت خارج الحدود”، عبّر المحلل الفلسطيني ماجد العوري عن هذه المشكلة وعن أسفه حيال فشل الجيل الفلسطيني الأكبر سنًا في النظام الفلسطيني في اتباع الجيل الأصغر سنًا. وختم العوري مقاله بالتصريح التالي: “لقد عشتم خارج الحدود ولم نتلقَ ما قمتم ببثّه، نحن نعيش حقبتين مختلفتين، عصر الإنترنت والعصر الحجري”.
وبعد مرور عدة سنوات، لا يمكن أن يبقى اعتراف العوري بالذنب قطعة منسية في عالم الصحافة. ولا بدّ من أن تشكّل المؤشرات الواضحة على البؤس الذي يستمر الشباب الفلسطيني في التعبير عنه جرس إنذار للقيادة الفلسطينية وإسرائيل والمجتمع الدولي على السواء. وفي حين كان التعبير عن هذا البؤس محدودًا لغاية الآن، من المرجح أن يزداد مع مرّ السنين، والآن هو الوقت المناسب للحؤول دون تفاقم وضعهم.
وتتطلب الحالة الراهنة استثمار الأموال الأجنبية التي تمّ ضخها أساسًا في النظام الفلسطيني في مبادرات تستهدف الشباب. ويتعين استخدام هذه الاستثمارات بشكل خاص من أجل تحديد فرص التوظيف ومنح الأفضلية إلى الشباب من حيث طلبات تأشيرات العمل في إسرائيل والعالم العربي، ولا سيما في حالة الأفراد الذين يحملون شهادات جامعية. كما يجب تخصيص الأموال لبرامج تدريبية محترفة، بخاصةٍ في حقل التكنولوجيا المتقدمة ولمبادرات تعزّز ريادة الأعمال.
فضلًا عن ذلك، يجب أن تتطلع إسرائيل والفلسطينيون على حدّ سواء إلى زيادة الألفة بين الشباب من الطرفيْن استنادًا إلى نموذج “بين الشعوب”، الذي يؤيّد فكرة التقريب بين الأطراف وتعميق معرفتهم ببعضهم. في المقابل، يمكن أن تترتب تداعيات مدمّرة على كلّ من إسرائيل والفلسطينيين نتيجة الغياب المتبادل للألفة بين الجماعتين اللتين ستقودان الطرفيْن خلال العقود المقبلة.
وفي النهاية، يجب ترجمة إقرار ماجد العوري بإحباط الشباب الفلسطيني، إضافةً إلى ما يعبّر عنه الجيل الشاب بنفسه، إلى مساعي عملية أوسع نطاقًا في أقرب وقت ممكن من قبل جميع الأطراف التي تقرّ بأهمية استقرار النظام الفلسطيني. ولا يجب أن يشمل هذا الأمر الفلسطينيين فحسب، بل أيضًا إسرائيل والعالم العربي والمجتمع الدولي.