قصف بالكاتيوشا يجر العراق لحرب لا ناقة له بها ولا جمل

قصف بالكاتيوشا يجر العراق لحرب لا ناقة له بها ولا جمل

إرهاصات الصراعات الدولية عادة ما تكون متوقعة من حيث أشكالها وأطرافها وملامحها والجهات التي تقودها أو تدعمها أو تؤيدها ، وبنفس الكيفية تتضح جليةً الجهات التي تناوئها وتعارضها مهما بلغت أشكال الحيطة والحذر التي تتخذها هذه الجهات أو تلك ، وتبقى النتيجة النهائية مكشوفة للجميع ، لكن ما يحدث حالياً من إرهاصاتٍ وتداعياتٍ في الساحة العراقية ، والتي هي ولا شك نتاجٌ للصراع الإقليمي الجديد والذي تديره كفتي صراعٍ متناقضتين أيديولوجياً – وإن كانتا متقاربتين من حيث ما تمتلكانه من إمكانياتٍ تدميرية ، بغض النظر عن أيهما أقوى من الأخرى ، خصوصاً عندما تصبح المقاييس السيكومترية غير ذي جدوى في مثل هكذا قياسات ، لأن النتائج أياً كانت تكون كارثية على الطرفين المتصارعين أولاً ، وعلى كل من يقع في محيطهما المكاني – الإقليمي وحتى الدولي – أو الفكري أو العقائدي ، فالجميع في النهاية خاسر.

وإذا ما أسقطنا هذه المقدمة على ما يجري ، وما يتوقع أن تؤول إليه الأمور في العراق ، تزامناً مع ما يجري من صراعٍ إقليميٍ عالمي يحاول إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد وفق متطلباتٍ ربما ستتضح معالمها قبيل انتهاء الصراع أو على الأقل مع نهاياته الأولى ، والذي تقوده أيديولوجيتين متناقضتين كلياً ، إحداهما غربية رأسمالية ممثلة في الولايات المتحدة الأميركية ، والأخرى رجعية مللية ممثلة في جمهورية إيران ، سنجد أن هذا الصراع بين هذين الخصمين اللدودين أخذ أشكالاً غير تقليدية سواء في الأشكال أو المضامين ، والأسباب التي فرضت هذا التنوع في الأشكال والمضامين تكمن في تعدد الأطراف الموالية والمناوئة للطرفين في العراق خاصة وفي المنطقة بصفةٍ أعم .

وهنا يتعمق مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية أكثر في الطرح ، ويغوص لأبعد مدى ممكن في التحليل والتدليل على ما ذكر آنفاً ، وليبدأ من حيث انتهت الأحداث اليوم ضمن الساحة العراقية ، والتي يراد لها إعادة رسم المشهد السياسي والجغرافي ، بل والديموغرافي في العراق ، وفق متطلبات مرحلةٍ ليس للعراق فيها ناقةٌ أو جمل ، بل يراد للعراق أن يكون مجرد ساحة تدار رحى الحرب على أرضه ، إذ ذكرت مصادر موثوقة أن ثلاثة صواريخ كاتيوشا استهدفت مساء اليوم الاثنين الموافق السابع عشر من حزيران 2019م ، قاعدة “التاجي” العراقية ، سبقتها استهدافاتٌ عدة لقواعد ومواقع استراتيجية عراقية سنشير إليها لاحقاً .

وهنا تتبادر تساؤلاتٍ عدة ، أبرزها: لماذا هذا الاستهداف المحدد لقاعدة الـ”تاجي” العراقية بالذات وفي هذه الفترة تحديداً ؟ وما هي الرسائل التي يحملها هذا الاستهداف ؟ ومن المستفيد الأبرز من هذا الاستهداف ؟
ولأن الإجابة عن هكذا تساؤلات تحمل في طياتها الكثير من المخاطر ، سوف نلجأ إلى الإجابة السردية المتضمنة في سياقات الأحداث بتسلسلها التأريخي ، متضمنة أرقاماً صادمة تكشف الحقائق جلية وبما لا يقبل التشكيك ، فقاعدة التاجي العراقية هي أكبر قاعدة عسكرية عراقية ، فضلاً عن كونها أكبر القواعد العسكرية في الشرق الأوسط ، مساحةً وتجهيزاً ، إذ تشتمل على مؤسسات حلف الـ”ناتو” ، وفيها قوات وطائرات مروحية أميركية متنوعة ، وتضم قواعد عراقية متنوعة فيها مختلف أنواع الطائرات المروحية ، وطائرات متنوعة تابعة للجيش العراقي ، وفيها أيضاً قاعدة الدفاع الجوي العراقي ، وتشتمل على مراكز تدريب عسكرية عراقية ، فضلاً عن مؤسسات عسكرية كبيرة ، هذا من جانب ، ومن جانبٍ آخر تقع قاعدة التاجي على مسافة قريبة جداً من بغداد ، الأمر الذي يشكل باستهدافها استهداف لهيبة الدولة العراقية من جهة ، ويبعث برسائل لجهاتٍ عدة ، وتحمل مضامين متنوعة ، أبرزها الإشارة إلى أن أذرع إيران – في العراق خاصة – قادرة على اختراق الدرع الأميركي ، وفرض معادلة جديدة تعيد لإيران هيبتها الدولية من ناحية ، وبما يحقق لإيران الخروج من مأزقها الحالي ولو بأقل الخسائر الممكنة من ناحية ثانية .

وما يؤيد هذا الطرح ، ما سبق من استهدافاتٍ عديدة لمواقع استراتيجية داخل الأراضي العراقية ، والتي تجسدت باستهداف قاعدة “بلد” بأربعة صواريخ كاتيوشا قبل عدة أيام ، القاعدة التي لا تقل في أهميتها الاستراتيجية عن قاعد التاجي في كل ما تتضمنه أو تشتمل عليه ، سبقها استهداف صاروخيٌ للسفارة الأميركية ، وما حدث من قصفٍ صاروخي على الجانب الاستراتيجي المهم من مطار بغداد الدولي ، وما أعقبه من تصريحاتٍ عراقية رسمية تمثلت باكتشاف القوات العراقية العديد من القواعد الصاروخية التي تُشن من خلالها هذه الهجمات ضد القواعد آنفة الذكر ، والتي تحمل في ظاهرها إعادة التوازن في الصراع الأميركي الإيراني ، لكن جوهرها لا يخرج عن محاولة الزج بالعراق في حربٍ يدرك أنه سيكون الخاسر الأكبر فيها ، فضلاً عن أن العراق وجراء هذا الاستهداف المتكرر لقواعده وترسانته العسكرية إنما هو يتكبد خسائر مالية فادحة ، فضلاً عن إبقاءه عرضةً للإرهاب والتطرف وعدم الاستقرار .

وبالعودة إلى ردود الفعل العراقية ، على مستوى التحالفات أو الكتل أو الأحزاب أو الجماعات أو الأفراد ، وبغالبيتها – إلا من ثبت تبعيته لإيران – تؤكد أن ما يجري من استهدافٍ للقواعد والمواقع الاستراتيجية داخل الأراضي العراقية ، وبغض النظر عمن فيها ، إنما هو أولا استهداف للقدرات العسكرية العراقية ، ومحاولات لإحداث ثغراتٍ أمنية سيستغلها الإرهاب ، وسيحقق منها مكاسب ضد الشعب العراقي كما حدث في عام 2014 من اجتياحٍ لتنظيم داعش الإرهابي للموصل ومناطق أخرى تقدر بثلث مساحة العراق ، وثانياً هو نكران وجحود بحق القوات الأميركية ، الشريك الرئيس الذي وقف جنباً إلى جنب مع العراق في حربه ضد الإرهاب ودحره ، وتطهير كافة الأراضي العراقية من دنسه ورجسه ، ولا ينكر إلا جاحد أن القوات الأميركية هي من استطاعت تصفية أعتى الإرهابيين وجبابرتهم ، وهي من كانت الشريك الرئيس للعراق في الحفاظ على أمنه وسيادته ووحدته واستقراره ، مهما نعقت بعض الأصوات الشاذة التي تحاول التقليل من أهمية الشراكة الأميركية العراقية ، وتحاول الزج بالعراق في حربٍ ليست حربه وليست من مصلحته.

الدكتور عبد الله محمد الشيخ
وحدة الدراسات السياسية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية