تبحث هذه المقالة الأسباب التي أدت إلى تراجع شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة في هولندا والدانمارك، وخسارتها لجُلّ مقاعدها في البرلمان، في حين صعدت هذه الأحزاب في بلدان أوروبية أخرى وحققت فوزاً كبيراً.
ويمكن رصد أربعة أسباب لهذا الانحسار، جميعُها يدور في فلك الفشل الذريع الذي لحق بركب اليمين المتطرف في هولندا والدانمارك، والذي حاول من خلاله سحب البساط من تحت أقدام اللاجئين، وتعتيم صورتهم في الوسط المدني الأوروبي.
بين الانتصار والانكسار
وحدها صناديق الانتخابات هي التي تُجبر المهزوم في معركتها على الاعتراف بهزيمته، على أن يحدوه أمل النجاح في الانتخابات المقبلة. وهذا هو حال انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة -وكذلك انتخابات البرلمان الدانماركي- التي كانت عدوة للأحزاب اليمينية المتطرفة في بعض البلدان الأوروبية.
وفي الوقت نفسه؛ لا يمكن إنكار الفوز الكاسح الذي حققته مجموعة من هذه الأحزاب في المجر واليونان وإيطاليا وألمانيا، ولكنّ الأمر كان قد بلغ ذروته في المجر التي حقق فيها حزب فيكتور لوبان فوزاً ثميناً، بعدما حصده غالبية المقاعد.
“في هولندا أيضاً لم يأتِ حزب الحرية الذي يتزعمه خيرت فيلدرز بما يناسب التوقعات خلال خوضه الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، إذ تراجعت شعبيته هو الآخر وخسر مقاعده الأربعة في البرلمان، وذلك رغم كل الدعايات الانتخابية التي استحضرها قُبيل الانتخابات لحشد أنصاره والتحريض على اللاجئين، وقد وصف الحزب خسارته هذه بأنها مخيّبة للآمال”
ورغم أنّ النتائج التي أسفرت عنها انتخابات البرلمان الأوروبي لم تصبّ في صالح اللاجئين المقيمين في أوروبا؛ فإنها شهدت في بعض البلدان الأوروبية عكس ذلك تماماً، إذ تلتها انتخابات البرلمان الدانماركي التي أثلجت صدور اللاجئين بعدما أثبتت تراجع شعبية اليمين المتطرف الدانماركي الذي كان ينادي بطرد اللاجئين، وإرغامهم على العودة إلى ديارهم، وبهذه النتيجة يشعر اللاجئون في الدانمارك بارتياح شديد.
فقد مُنِي حزب الشعب الدانماركي اليميني في هذه الانتخابات بهزيمة مدويّة هي الأقسى له منذ عشرين عاماً، إذ تراجعت شعبيته إلى النصف تقريباً بعد حصوله على 75 مقعداً في البرلمان، بينما حصلت كتلة المعارضة اليسارية والاشتراكيون الديمقراطيون على 91 مقعداً من أصل 179 مقعداً.
وقد أقر زعيم حزب الشعب الدانماركي اليميني كريستيان ثوليسين بهذه الهزيمة، فعلّق قائلاً: “لن أترك السفينة تغرق وحدها في وسط العاصفة، كلي أمل أننا سوف نستعيد عافيتنا في الانتخابات المقبلة”.
وفي هولندا أيضاً لم يأتِ حزب الحرية الذي يتزعمه خيرت فيلدرز بما يناسب التوقعات خلال خوضه الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، إذ تراجعت شعبيته هو الآخر وخسر مقاعده الأربعة في البرلمان، وذلك رغم كل الدعايات الانتخابية التي استحضرها قُبيل الانتخابات لحشد أنصاره والتحريض على اللاجئين، وقد وصف الحزب خسارته هذه بأنها مخيّبة للآمال متعهدا بأنه سيعود إلى الواجهة في الانتخابات المقبلة.
فشل شيطنة اللاجئين
السؤال الذي يطرح نفسه بجدارة هو: لماذا تتراجع شعبية الأحزاب اليمينية في هولندا والدانمارك في الوقت الذي بدأت فيه هذه الأحزاب تنشط وتتقدم في بلدان أوروبية أخرى؟! للإجابة على هذا التساؤل نقدم جملةً من الأسباب لذلك، وفي مقدمتها:
أولاً: فشل هذه الأحزاب في تمرير مشاريعها التي تحرض على العداء والكراهية للاجئين، من خلال تسليط الأضواء على جوانب الفشل في حياة اللاجئين، والادعاء بأنهم مصدر القلق والإرهاب والجريمة في أوروبا. وهذا الترويج قد يكون عبر التصريحات الصحفية، أو تنظيم المظاهرات المعادية للإسلام والمهاجرين، أو ببعض التصرفات البهلوانية التي تهدف إلى استفزاز مشاعر المسلمين.
وقد لجأت حركة “بيغيدا” المعادية للإسلام إلى هذا النوع من الأساليب، من خلال حراكها العنصري في هولندا الذي كثيراً ما تحول إلى صِدام مباشر مع اللاجئين عندما يتم تجاوز الخطوط الحُمْر، وتُعرَف هذه الحركة بجرأتها في الاستفزاز وعدم مبالاتها بالنتائج، وذلك من خلال تنظيم حفلات شواء لحم الخنزير أمام المساجد، أو الإساءة لشعيرة الصيام في شهر رمضان المبارك، أو حمل لافتات مسيئة إلى نبي الرحمة.
وكان آخر أفعالها تلك في العشر الأواخر من رمضان؛ إذ نظمت الحركة فعالية مستفزة في مدينة آيندهوفن الهولندية تحولت إلى مواجهة بين أنصارها ومصلين غاضبين من هذه التصرفات.
“من أسباب تراجع اليمين المتطرف انتخابيا؛ فشل هذه الأحزاب في تمرير مشاريعها التي تحرض على العداء والكراهية للاجئين، من خلال تسليط الأضواء على جوانب الفشل في حياة اللاجئين، والادعاء بأنهم مصدر القلق والإرهاب والجريمة في أوروبا. وهذا الترويج قد يكون عبر التصريحات الصحفية، أو تنظيم المظاهرات المعادية للإسلام والمهاجرين، أو ببعض التصرفات البهلوانية التي تهدف إلى استفزاز مشاعر المسلمين”
إن هذه المحاولات الرامية إلى عزل اللاجئين وجعلِهم فئة منبوذة في أوروبا باءت كلها بالفشل، وقد أثبتت الانتخابات الأخيرة أنّ منهج اليمين المتطرف هو المنبوذ وهو الذي لا ترتضيه شريحة كبيرة من الأوروبيين.
ثانياً: فشلت الأحزاب اليمينية بهولندا والدانمارك في حشد الوسط المدني ضد اللاجئين اقتصادياً؛ إذ طالما ادعت هذه الأحزاب أنّ اللاجئين يتلقون رواتب المساعدات الشهرية من البلديات، على حساب الضرائب التي يدفعها المواطن الأوروبي.
ولأن ساعات العمل في أوروبا جِدّ طويلة وشاقة؛ فقد حاول اليمين اللعب على هذا الوتر، وقدّم للحشود روايته التي تفيد بأنكم أنتم تعملون وتكدّون وتدفعون الضرائب الباهظة للحكومات، التي بدورها تقدم هذه الأموال المقتطعة من أجوركم -على طبقٍ من ذهب- إلى اللاجئين، الذين يتلذذون بهذه الأموال دون أيّ جُهدٍ يُذكَر.
وقد جاؤوا لهم بقميصٍ كذبٍ لعلهم يمرّرون عليهم خرافة ذئب اللاجئين الذي سيفترسهم ويفترس أموالهم وقوت يومهم، لكنّ المكتب المركزي للإحصاء (CBS) في هولندا قدّم تقريره السنوي الذي أبطل كل هذه المزاعم، إذ ذكر في بيانه أنّ هناك تراجعاً كبيراً في أعداد اللاجئين الذين يتلقون رواتب المساعدة الشهرية وخاصةً السوريين الذين اندمجوا في سوق العمل.
ليس هذا فحسب؛ بل إنّ عدد اللاجئين الذين استغنوا عن راتب المساعدة أكبر من عدد المواطنين الهولنديين أيضاً، وهذا الأمر تكرر في عامين متتاليين. وبالتالي فقد تم دحض الرواية التي يتبناها اليمين المتطرف وبالإثباتات والأرقام الرسمية، وهذا ما كان سبباً ربّما في فقدان الثقة بينهم وبين أنصارهم.
احتواء الأنشطة الاستفزازية
ثالثاً: قدرة اللاجئين على ضبط النفس بعد كل محاولة استفزازية يقوم بها أنصار اليمين المتطرف، وعدم انجرارهم إلى ما يتجاوز القانون إلا ما ندر، وهذا الأمر يُحسب للاجئين لا عليهم. ولعلّ من أهم الدوافع التي تقف خلف هذه المحاولات هو محاولة استقدام اللاجئين إلى حلبة المواجهة، ليتم استغلال غضبهم واستنفارهم بهذه الاستفزازات وتسويقه في المجتمع الأوروبي على أنه عملٌ مُدان ووحشي وغير مقبول.
وربما كان الهدف من حرق نسخ القرآن الكريم في الدانمارك مثلا هو جرّ المسلمين إلى ردة فعل لا يرتضيها المجتمع الدانماركي، الذي لا يقدّس القرآن الكريم كما يقدّسه المسلمون.
وإلا فما الغاية من إقدام زعيم حزب النهج الصلب في الدانمارك على تنظيم فعالية وسط حيّ تقطنه الغالبية المسلمة في العاصمة كوبنهاغن، وتلاعبه بالقرآن مع صحبه على أنه كرة تُركَل بالأيادي والأقدام -وهو يعلم أنّ هذا التصرف قد يفتح الباب على مصراعيه أمام مواجهة مفتوحة- سوى أنه يريد جرّ المسلمين إلى تبنّي مواقف غاضبة وتصرفات تخالف القانون بتصديهم لهذه الفعالية؟
ولماذا اعتزمَ رئيس حزب الحرية خيرت فيلدرز تنظيم مسابقة في الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهَمَّ بها ثم تراجع عنها في اللحظات الأخيرة تحت ذريعة أنه يخشى على أنصاره من ردة الفعل؟ ألا يُعتبر ذلك محاولة واضحة من هذه الأحزاب للتصعيد من أجل أن يفقد اللاجئون المسلمون شعبيتهم في الأوساط الأوروبية إذا خالفوا القوانين والأنظمة؟!
“يقع على اللاجئين دور كبير في قلب المعادلة، وتكذيب رواية اليمين المتطرف، وذلك بإعطاء الصورة النضرة عن مجتمع اللاجئين، وحشد أنصارهم وتقديم قضيتهم بما يليق بحجمهم وحجم طموحاتهم كي لا يكونوا وحيدين في الميدان، وحتى يصيروا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم الجديد الذي ولجوه من بوابة القارة الأوروبية”
لكنّ اللاجئين كانوا -في كل مرة- على قدر كبير من الوعي؛ إذ اكتفوا بما يمنحه لهم القانون باستثناء بعض المخالفات هنا وهناك، وكثيراً ما ألغت البلديات أنشطة وفعاليات لأنصار حزب الحرية وأنصار حركة “بيغيدا”، وأجبرتهم على فضّ التجمعات كي لا تخرج الأمور عن السيطرة. وبهذا تمكن اللاجئون من التحلي بالصبر رغم قساوة المشهد ورغم الإساءة إلى أهم مقدس في الإسلام، ألا وهو القرآن الكريم.
رابعاً: ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى انحسار اليمين المتطرف في هولندا والدانمارك الحراكُ الذي يقوم به أبناء الجاليات، وقلبوا به الطاولة على أحزاب اليمين المتطرف. فعندما استشعر اللاجئون الخطر المحدق بهم وبمستقبلهم؛ قاموا بما يلزم لكي يفهم المواطن الأوروبي حقيقة ما يجري، وتصله الحقيقة كما هي لا كما يقدمها اليمين المتطرف.
أضف إلى ذلك أنّ المواطن الأوروبي يجد نفسه مضطراً إلى الاحتكاك باللاجئين في حياته اليومية، في المدرسة والجامعة والعمل وفي الشارع ومواقف الحافلات والقطارات والأسواق، وبالتالي يأخذ هو بنفسه انطباعه الخاص عن اللاجئين دون الحاجة إلى انتظار رواية اليمين المتطرف.
ولا بد في هذا الصدد من الإشارة إلى المبادرة العربية الفلسطينية التي قام بها بعض الأشخاص بالدانمارك في صلاة العيد، عندما شجّعوا الحضور فيها على خوض الانتخابات كي تفوَّت الفرصة على اليمين المتطرف، وذلك من خلال شعار المبادرة الذي انتشر على نطاق واسع: “هيّا بنا إلى التصويت بدل التصويت عنا”.
وقد لاقت هذه المبادرة تفاعلاً شعبياً كبيرا حتى على الصعيد الدانماركي، إذ راهنت عليها وعلى أصوات أصحابها أحزاب دانماركية، فأدلى كل واحدٍ بصوته وكانت النتيجة مثلجة للصدور بعدما أوقف اليمين المتطرف عند حده، لاسيما أنّ بعض هذه الأحزاب في الدانمارك توعد في حملته الانتخابية بإفراغ الدانمارك من المسلمين، وبأنه لن يبقى مسلم واحد في الدانمارك في الليلة التي يصل فيها مرشَّحوه إلى سدة البرلمان.
الجدير بالذكر أنّ اللاجئين يقع عليهم دور كبير في قلب المعادلة، وتكذيب رواية اليمين المتطرف، وذلك بإعطاء الصورة النضرة عن مجتمع اللاجئين، وحشد أنصارهم وتقديم قضيتهم بما يليق بحجمهم وحجم طموحاتهم كي لا يكونوا وحيدين في الميدان، وحتى يصيروا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم الجديد الذي ولجوه من بوابة القارة الأوروبية.