تعاونت روسيا وإيران على نحو وثيق طوال الأعوام الماضية للحفاظ على نظام بشار الأسد ومنع سقوطه، في مواجهة الثورة السورية التي دخلت عامها التاسع خلال شهر مارس/آذار 2019 الماضي.
اعتبرت روسيا الوجود العسكري الإيراني في سورية شرعيًا، وأنه جاء استجابة لطلب النظام السوري، وأن إيران كانت شريكًا مهمًّا لها في الحرب في سورية، ولكن مع تمكّنها من حسم الجزء الأكبر من الصراع العسكري لصالح النظام، تقلصت الحاجة إلى دور إيران وميليشياتها في سورية، كما بدأت تظهر، في الفترة الأخيرة، تناقضاتٌ جدّية بين المصالح الإيرانية والروسية في سورية، وقد يفسر هذا الأمر امتناع طهران عن المشاركة في الهجوم الجاري حاليًا على إدلب، كما حاولت روسيا في الفترة الأخيرة، تعزيز نفوذها في أجهزة النظام السوري على حساب إيران، وخصوصا الجيش السوري والأجهزة الأمنية، تمهيدًا للمرحلة المقبلة التي تستدعي التوصل إلى تسويةٍ في سورية لإعادة إعمارها.
بدأت الخلافات تتسع في الآونة الأخيرة، وتظهر إلى العلن، مع انحسار العمليات العسكرية، وبدء المرحلة المفترضة لـ”جني الثمار”، بعد سنوات من الاستثمار العسكري والمالي والسياسي للبلدين لصالح نظام الأسد، ولعل الزيارتين المتزامنتين تقريباً اللتين قام بهما كل من رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران في الـ25 فبراير/شباط الماضي، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى موسكو بعد يومين، تعكسان إلى حد بعيد هذا التناقض في الموقع والمصالح، خصوصاً إذا ما أضيف إليهما قصف إسرائيل المتكرر الذي يستهدف مواقع ومستودعات إيرانية في سورية بغض طرف -على أقل تقدير- من قبل روسيا، وأحدثه القصف الأخير على حلب .
فضلاً عن الرسالة الواضحة التي نقلها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى الأسد خلال زيارته دمشق في الـ19 مارس الحالي، بالتزامن مع المباحثات الثلاثية الإيرانية العراقية السورية التي كانت تعقد في دمشق، ومفادها بأن ما حققه النظام من تقدم عسكري تم بفضل روسيا، وأنه بفضله أيضاً تم “الحفاظ على الدولة السورية”، كما لا يمكن إغفال الموقف الروسي من الاعتراف الأميركي بـ”سيادة” الاحتلال الإسرائيلي على الجولان السوري المحتل، وبينما اختارت موسكو التنديد اللفظي بالخطوة، امتنعت عن قيادة التحرك في مجلس الأمن الدولي لمواجهة القرار الأميركي.
وإلى الشرق من سوريا، وتحديدا في منطقة دير الزور، بدأ التباين الإيراني الروسي يأخذ شكلا جديدا مختلفا عن الصورة النمطية لتقاطع المصالح بين الطرفين الذين توليا مهمة الدفاع عن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد، صحيح أن المهمة تحققت، وإن لم تكن أسباب الحرب ولا الحرب نفسها قد انتهت، إلا أن التقاطع في المصالح تحولت إلى تضاد، وهو الذي بدأ يتجلى في غير مكان في سوريا، فقد ارتفع منسوب التوتر بين قوات البلدين في منطقة شرقي سوريا إلى حد الاستنفار العسكري، وهو ما كاد يتدحرج إلى اشتباك بينهما.
التوتر مردّه إلى قيام القوات الروسية بمنع فصائل حليفة لإيران بالتمركز في عدد من المناطق، بما في ذلك نقطة حدودية مع العراق، وقد أكد على ذلك غرفة عمليات حلفاء سوريا التي تضم الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني وفصائل عراقية، لكن المثير للاهتمام وقوع هذه التطورات بعد أقل من عشرة أيام على اجتماع مستشاري الأمن القومي الإسرائيلي والروسي والأمريكي في القدس المحتلة، والتي ترافقت مع التوتر الإيراني الأمريكي المتزايد في الخليج العربي، لكن ما الذي يباعد إيران وروسيا عن بعضهما البعض في سوريا، لا سيما وأن مستشار الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف دافع بقوة عن طهران في قمة القدس، مؤكدا أن روسيا ترفض شيطنة إيران، ورافضا الهجمات الإسرائيلية في سوريا بالقول إنها “غير مرحب بها”.
ويرى كُثُرْ من المتابعين، أن العلاقات الروسية – الإيرانية في سورية غير مستقرة، ولا تستند إلى أسس راسخة، بل إن الطرفين يستفيدان من بعضهما البعض، ومن ضعف الموقف العربي والدولي، وتنظر روسيا إلى إيران بوصفها ورقة ضغط في العلاقات مع الغرب والعرب، أكثر من كونها حليفاً.
وبينما تستقوي إيران بروسيا حيال الغرب، فإنها ترى أنّ علاقاتها مع الغرب أهم من علاقاتها مع موسكو والعرب.
ومن خلال تتبع بعض مظاهر الخلاف بين مواقف الطرفين في المسألة السورية، يمكن تسجيل العديد من النقاط، أحدثها ما يتعلق بالموقف من “المنطقة الآمنة” المقترحة في الشمال السوري، إذ ينظر نظام الأسد، ومعه طهران، إلى هذه المنطقة باعتبارها “مؤامرة أميركية لتقسيم البلاد”، بينما أبدت روسيا تفهماً للموقف التركي الراغب في إقامة هذه المنطقة، وعرضت نشر قواتها فيها.
والخلاف الأساس بين الطرفين هو حول استمرار نظام حكم الأسد، إذ يمثل ذلك هدفاً بحد ذاته لإيران بوصفه ضمانة لاستمرار نفوذها، بينما تقول روسيا إنها “تفصل” بين بشار الأسد الشخص والنظام السياسي السوري بمؤسساته المختلفة، وتؤكد أنها تدعم استقرار النظام السياسي.
وثمة تخوف روسي من الميليشيات المسلحة التي شكلتها إيران في سورية، إذ تقترح موسكو ضم تلك الميليشيات إلى القوات المسلحة التابعة للنظام والتي تقيم معها موسكو علاقات قديمة، وهي خطوة تثير امتعاض إيران التي تعتقد أن روسيا تستهدف حرمانها من نفوذها العسكري، وتالياً انفرادها بالسيطرة على القوى العسكرية لنظام الأسد.
وعلى مستوى العلاقات الخارجية والتحالفات الخاصة بكل طرف، تتخوف طهران من احتمال حصول مقايضات أميركية – روسية، لإيجاد تسوية في سورية، تكون على حساب نفوذها في سورية والمنطقة، وينطبق هذا على علاقات روسيا مع إسرائيل، وإمكانية أن تتخلى موسكو عن طهران بسبب مزايا العلاقات مع تل أبيب، والتي قد تكون في حسابات السياسة الدولية أفضل من العلاقة مع إيران، حيث ترى روسيا أن التعاون الإسرائيلي، ومن خلاله الأميركي، ضروري في المرحلة المقبلة، لترجمة مكاسبها الميدانية إلى نصر سياسي، وتحصينها عبر إعادة تأهيل النظام وجذب الاستثمارات اللازمة للبدء بإعادة الإعمار، ولا شك في أنها تأمل في أداء دورٍ في الوساطة السياسية، وليس فقط الأمنية، بين نظام الأسد وإسرائيل.
وتطرح روسيا أيضًا أفكارًا لإقناع واشنطن بالانسحاب من مناطق شرقي الفرات، عبر صيغة تشمل انسحاب جميع القوات الأجنبية، بما فيها الإيرانية، من سورية، وهو الطرح الذي أعلنه بوتين، خلال زيارة رئيس النظام السوري، بشار الأسد، موسكو، في أيار/ مايو 2018، وأعرب ترمب في نيسان/ أبريل 2018 ثم في كانون الأول/ ديسمبر 2018، عن رغبته بهذا الطرح.
ومن جانبها ترى إسرائيل بتعاونها مع روسيا تحدٍ من محاولات إيران إنشاء وجود عسكري دائم ذي أهمية في سورية، من خلال مئات الغارات التي قامت بها ضد الوجود العسكري الإيراني في سورية، على امتداد الأعوام الماضية، ولكن إسرائيل لم تعد تطمح إلى معالجة مسألة الوجود العسكري الإيراني في سورية فحسب، وإنما تطمح أيضًا إلى أداء دور في تحديد مستقبل سورية.
وعلى الرغم من أن إسرائيل سعت إلى إطالة أمد الحرب السورية أطول فترة ممكنة، وإلى استثمارها لانتزاع اعترافٍ أميركي بضم الجولان السوري المحتل إليها في مرحلة حكم ترمب، فقد باتت تتجاوب، في الفترة الأخيرة، مع المساعي الروسية لإيجاد تسوية في سورية، تضمن بقاء الأسد في الحكم تحت النفوذ الروسي، شريطة أن يتم تقليص الوجود العسكري الإيراني وتحجيمه، على أمل إبعاده نهائيًا، بعد التوصل إلى تسويةٍ نهائيةٍ للصراع في سورية، ويرجّح أن تسعى إسرائيل، في مقابل اعترافها بنظام الأسد، والمساعدة في إعادة تأهيله دوليًا، إلى إنشاء قنوات اتصال عسكرية سرّية للتنسيق معه بشأن قضايا الأمن والحدود.
كما تتوجس إيران من علاقات روسيا مع تركيا، وتخشى أن يحصد الطرفان النتائج، بينما هي تتكبد التكاليف والخسائر، وهناك تباين في دعم الأكراد، فروسيا كانت تراهم منذ البداية “مجرد وسيلة غير مكلفة” لتحقيق غاياتها في دحر “داعش” والتنظيمات المتشددة، والضغط على نظام الحكم في دمشق، في حين ترى إيران أن الأكراد يمكن أن يشكلوا عامل ضغط عليها مستقبلاً، في ظل الوجود الكردي في إيران، وبالتالي تتوجس من أن تنتقل إليها “عدوى الانفصال” إن نجحت التجربة في سورية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تعتقد روسيا وإيران أنهما استثمرتا الكثير من الأموال والإمكانات في سورية، وأنه لا بد من حصول كل منهما على التعويض الكافي، وتنفق موسكو، منذ تدخلها العسكري في سورية نهاية سبتمبر/أيلول 2015، نحو مليار دولار سنوياً على العمليات الحربية، وفق تقديرات مجموعة “أي أتش إس جاينز” الاستشارية البريطانية، وسقط لها أكثر من 200 مدني وعسكري بين قتيل وجريح في سورية، وفي موازاة ذلك، حصلت حتى اليوم على اتفاق للتنقيب عن النفط والغاز في مياه سورية الإقليمية، ومشاريع في قطاعات الغاز والمطاحن والأعلاف والكهرباء والقمح، بالإضافة إلى اتفاقيات تخص القواعد العسكرية الروسية في سورية تضمن استمرارها لـ49 سنة مقبلة.
وعلى الرغم من ذلك، تحدث نائب رئيس الوزراء، الروسي ديمتري روغوزين، نهاية 2017، عن “ضرورة التفكير بكيفية جني الأموال لقاء العمل الكبير الذي قامت به روسيا على أراضي سورية، لأن روسيا ليست فاعل خير أو دولة مانحة، وإنما ستحسب كل روبل وضعته في هذه الحرب بدون التساهل في ما يخص مصالحها وأرباحها”، وتريد موسكو تأمين وصول الشركات الروسية إلى الأراضي السورية للاستثمار وإعادة الإعمار، حيث المنافسة مع الشركات الإيرانية والصينية أيضاً، فيما صادق مجلس الشعب السوري في 27 مارس/آذار 2018، على عقد يعطي شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية حق استثمار واستخراج الفوسفات في منطقة مناجم الشرقية جنوب غربي تدمر، ضمن قطاع يبلغ الاحتياطي المثبت فيه 105 ملايين طن.
من جهتها، دعمت إيران النظام السوري مادياً وبشرياً منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة، ويقدر خبراء اقتصاديون إنفاق إيران أكثر من ستة مليارات دولار والمئات من الجنود خلال الحرب في سورية، إضافة إلى قروض ائتمانية بملايين الدولارات، وقد طالب مستشار المرشد الإيراني للشؤون الاستراتيجية رحيم صفوي بتعويض طهران عن “التضحيات والتكاليف التي قدمتها وهي تحارب الإرهاب في سورية، مع إمكانية توقيع معاهدات مع الحكومة السورية مشابهة لما حصلت عليه موسكو من معاهدات استعادت عبرها ما قدمته لسورية”، حسب قوله.
وحصلت إيران بالفعل على عقود اقتصادية في سورية في مجالات الزراعة والنفط والصناعة والثروة الحيوانية والموانئ، ونمت مختلف صادراتها للبلاد بشكل مطرد، خصوصاً بعد إعفائها من الضرائب في العام 2012.
كما تهدف طهران للسيطرة على صناعة الاتصالات السورية، التي تضررت خلال الحرب، لكنها لم تدمر بالكامل.
ويشكل قطاع الاتصالات أهمية خاصة لإيران، ليس فقط بسبب العائدات المالية وإنما للتنصت على المواطنين أيضاً.
كذلك حصلت طهران على اتفاق يسمح لها بتطوير مناجم فوسفات في سورية، على الرغم من أنه ليس من الواضح ما إذا كانت ستحصل على حقوق حصرية لتلك المناجم أم ستتشاركها مع موسكو، ويشمل ذلك عقود انتفاع بين إيران والنظام السوري، لنحو 12 ألف فدان من الأراضي في محافظتي حمص وطرطوس، يمكن استخدامها لبناء محطات للنفط والغاز.
ومن المنافع المالية الأخرى لإيران التي قد تخرج بها من عملية إعادة الإعمار، نقل ملكية الأراضي الزراعية في سورية، التي تركها السوريون الفارون من الحرب على مدار السنوات السبع الماضية، إلى أيدي الإيرانيين، وتحويل بعض تلك الأراضي إلى أعضاء الميليشيات الموالية لطهران، كوسيلة لمساعدتهم على ترسيخ وجودهم في سورية.
وفي الـ25 من فبراير الماضي، أعلن نائب رئيس جمعية المقاولين الإيرانية إيرج رهبر، أن بلاده أبرمت مع نظام الأسد مذكرة تفاهم لبناء 200 ألف وحدة سكنية في سورية، فيما وقّع النظام في يناير/كانون الثاني الماضي مع حليفه الإيراني 11 اتفاقية اقتصادية استراتيجية طويلة الأمد، استكمالاً لاتفاقيات سابقة ترتبط بإعادة الإعمار في سورية، كما بدأت إيران بمشروع فتح طريق من المقرر أن يربطها بسورية مروراً بالعراق، وحصلت على استثمارات سيادية، مثل عقود لبناء مصفاة نفط كبرى قرب مدينة حمص بطاقة تكريرية تبلغ 140 ألف برميل يومياً، وتلقّت مؤسسة الخط الحديدي الحجازي عرضاً من شركة “ميللي ساختمان” الإيرانية لتنفيذ مشروع قطار ضواحي دمشق، على أن يتم تنفيذه بالشراكة مع الصين، وبالتزامن كشفت وسائل إعلام روسية عن اهتمام شركة “أورال فاغون زافود” الروسية المُختصّة بتصنيع العربات بتصدير عربات الشحن لشبكة السكك الحديدية بسورية، وكانت إحدى أهم الاتفاقيات، التي تم التوقيع عليها في العام 2017، إنشاء ميناء تصدير النفط في سورية، بغية تسهيل قيام إيران بتصدير النفط إلى الأسواق الأوروبية.
وعلى الصعيد الثقافي، تحاول روسيا السير على خطى إيران في سورية، عبر اهتمامها بقطاع التعليم والثقافة، فيما يبدو أنه حالة من التنافس الإيديولوجي على أطفال سورية، وقد افتتحت موسكو نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مدرسة ثانوية في الغوطة الشرقية، فيما ذكرت مواقع موالية أن أخصائيين في قسم علم اللغات الروسي في جامعة دمشق يخططون لوضع كتب مدرسية جديدة لتلاميذ المدارس في سورية، تشمل المزيد من الأعمال الأدبية الروسية، كما تقوم جمعيات دينية، مثل جمعية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، باستغلال حاجة السكان في بلدات الغوطة الشرقية الفقيرة عبر تقديم بعض الخدمات والهدايا لطلاب المدارس والأهالي لزرع أفكارها وثقافتها.
وضمت روسيا، في سبتمبر/أيلول الماضي، أول مجموعة من الأطفال السوريين إلى معهد السكك الحديدية والاتصالات العسكرية، التابع للأكاديمية العسكرية للإمداد والنقل في سان بطرسبورغ.
وتحت ضغط من موسكو، أغلقت وزارة الأوقاف التابعة للنظام عدة مدارس تمولها إيران في الساحل السوري بحجة أنها لا تلتزم بالمناهج الرسمية، وتعتبر روسيا الساحل السوري منطقة نفوذ لها، باعتباره يضم قاعدة حميميم العسكرية ومنفذ الوصول الروسي البحري إلى البلاد، في حين تعتبره إيران أيضاً منطقة نفوذ لها.
وفي الوقت الذي اتجهت فيه إيران إلى دعم انتشار اللغة الفارسية في الساحل السوري، بدأت روسيا تقديم منح دراسية لتعلم اللغة الروسية، فيما أعلنت وزارة التربية التابعة للنظام بدء تدريس اللغة الروسية مع العام الدراسي الحالي، وأصبحت لغة اختيارية مقابل الفرنسية، ويبدأ تدريسها من الصف السابع الإعدادي.
وفي المقابل، تركز إيران اهتمامها على دعم المعاهد الشرعية والتعليمية للغة الفارسية، ووفق تقارير محلية، فإن هناك مراكز لتعليم اللغة الفارسية في العديد من المحافظات مثل اللاذقية ودمشق، بدعم مباشر من الملحقية الثقافية الإيرانية في سورية، كما تدعم تعليم اللغة الفارسية جهات أخرى، منها “حوزة الإمام الخميني” في دمشق” و”مجمع الرسول الأعظم”، و”مجمع السيدة رقية” و”مركز الحُجة” في طرطوس، ناهيك عن المنح المقدمة من إيران للطلاب السوريين، وامتد هذا التنافس بين الجانبين إلى المجال الإنساني والخدمي، حيث سجلت مصادر محلية مطلع فبراير الماضي، قيام القوات الروسية بتوزيع مساعدات على مناطق في القطاعين الغربي والشمالي الغربي من ريف حماة، إذ وزعت هدايا للأطفال ومساعدات إنسانية وغذائية، ضمن المناطق القريبة من خطوط التماس مع الفصائل المقاتلة والواقعة ضمن المنطقة منزوعة السلاح، كذلك وزع مركز المصالحة الروسي في سورية دفعة من المساعدات الإنسانية على سكان قرية الدلافات في منطقة منبج شمال شرقي محافظة حلب.
وفي الوقت نفسه، تعمد القوات الإيرانية لاستغلال حاجة السكان في غرب الفرات والجنوب السوري والمنطقة الممتدة بينهما، وتمدهم بالمساعدات الإنسانية والغذائية، وتقدم رواتب للمتطوعين بمبالغ تبدأ من 150 دولارا أميركيا، وتحاول القوات الإيرانية تجنيد مزيد من العناصر ضمن صفوفها، والتقرب من السكان من خلال دفع أموال أو تقديم معونات أو محاولة حل قضايا عالقة، فيما تعمل روسيا على إقصاء الإيرانيين عن مراكز القرار والتحكم بالتفاصيل السورية، من خلال محاولة كف يدهم في الساحل السوري وريفي حمص وحماة، وتحجيم الدور الإيراني في إدلب ومحافظة حلب، لكن الانتشار الإيراني الواسع، على الأصعدة العسكرية والفكرية، يحول دون تمكن الروس من لي ذراع الإيرانيين في الوقت الحالي، على الرغم من التوجه الدولي تحديداً الأميركي والعربي لمحاربة الوجود الإيراني، خصوصاً على الأرض السورية.
قد يصح وصف التنافس الإيراني الروسي في سوريا بأنه صراع داخل الجبهة الواحدة، إذ أن كلا البلدين حتى اللحظة لم ينجح برغم كل التناقضات التي تحيط بهما في إيجاد شريك آخر ومناسب بذات الأهداف، يمكنه استبدال الآخر به، هو ائتلاف أكثر منه تحالف، فرضت الظروف والخصوم المشتركين عليه أن يتطور إلى تعاون استراتيجي بالإكراه، لكنه أمر واقع لا يمكن لكلا الطرفين التخلي عنه، على الأقل حتى تغيّر أسبابه.
كل ما سلف يعزز تضاد المصالح الذي يعكس صراع نفوذ على الساحة السورية الداخلية، فيتجلى التسابق على التأثير داخل النظام، من رأسه إلى القواعد الشعبية، وحرب التأثير عليها من خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، التزاحم يتجلى على مستوى التعيينات داخل الجيش والقوى الأمنية، وفي التسابق على قطع الطرقات أمام الطرف المقابل لتثبيت النفوذ داخل مؤسسات الدولة بشكل خاص، بل وحتى إلى قيام إيران بما يشبه تهريب الأسد إليها بعيدا عن أي تسريب مسبق في زيارة رسمية كي تنجح بالتقاط صور له مع القادة الإيرانيين في طهران دون أن يؤدي تدخل روسي إلى إفشالها.
إن رأس جبل جليد الخلاف يتمحور حاليا حول نقطتين: الأولى، مشروع سكة الحديد الواصل بين إيران وسوريا عبر العراق، والذي يمر في محافظة دير الزور، حيث حصل الاستنفار الأخير، والثانية، استلام إيران لمرفأ اللاذقية الذي سيكون المحطة الأخيرة في مسار السكة الحديدية.
وكان مدير شركة خطوط سكك الحديد الإيرانية سعيد رسولي قد أكد قبل أيام فقط وخلال لقاء مع نظيريه السوري والعراقي، أن خط السكك الحديدية سينطلق من ميناء الإمام الخميني في إيران مرورا بشلمجة على الحدود العراقية ومدينة البصرة العراقية، ليصل إلى ميناء اللاذقية.
ورغم أن إيران حصلت على حق التشغيل التجاري حصراً لمرفأ اللاذقية أواخر العام 2018 ، إلا أن مجرد وجود إيران هناك يشكل قلقا لروسيا التي تملك قاعدة عسكرية قريبة من المرفأ في حميميم، وهو ما قد يعرّض قواتها للخطر في حال حدوث أي توتر كبير بين إيران وإسرائيل، أو بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، فروسيا تفضّل أن يكون مرفأ اللاذقية مع الصين بدلا من إيران.
الوجود الإيراني على البحر المتوسط مصدر قلق بالنسبة لروسيا التي تريد أن تكون صاحبة القوة الرئيسية على الساحل الشرقي للمتوسط، وهو ما يضمنه لها مرفأ طرطوس الذي استأجرته لمدة 49 عاما.
ففي كانون الأول/ديسمبر 2017، وقّع بوتين قانوناً لتوسيع قاعدتي طرطوس وحميميم، من أجل ترسيخ الوجود “الدائم” لروسيا في سوريا، وتهدف موسكو إلى تحقيق التفوق البحري في البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط، وفي السنوات الأخيرة، تحدث المسؤولون الروس بشكل متزايد عن البحرية الروسية في سياق الردع غير النووي، وربما أكثر من ذلك، تظهر خطوات موسكو تصوّرها المستمرّ عن تهديد حلف «الناتو»، والرّغبة في ردع الغرب.
وتستمرّ هذه النية في التأثير على أنشطة موسكو في الشرق الأوسط، حيث تعمل بشكل منهجي على منع الوصول إلى البحر الغربي.
وقد تكون أيضا جزءا من مسببات التوتر مرتبطة بالحضور العسكري العضوي الإيراني، من خلال فصائل سورية دربتها طهران، وهي تعوّل أن تكرر بها تجربة حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، وبحسب المعلومات، فإن عدد هذه القوات يزيد عن 15 ألفا، وجرى تدريبها لتندمج لاحقا في القوات المسلحة السورية، وهذا ما يدق بالنسبة لروسيا ناقوس الخطر لأنه سيعني أن بقاء إيران في سوريا سيكون بلا سقف زمني، حتى ولو سحبت طهران ضباطها وحزب الله وكل الفصائل العراقية والباكستانية والأفغانية التي جاءت بها إلى البلاد في أوقات سابقة.
لكنّ إخراج الميليشيات الإيرانية ليس بالمهمة السهلة على روسيا، لسببين: الأول تغلغلها الاجتماعي والمذهبي في الداخل السوري، ويبدو أن الكفة ترجح لمصلحة إيران من حيث التواجد على الأرض، عبر التمويل، فلإيران قرابة 40 جمعية مدنية تدعمها في سوريا، عدا عن نفوذها في دمشق ومنطقة السيدة زينب، وفي محيط التنف على الحدود العراقية، وفي نبل والزهراء بريف حلب الشمالي، وبدا واضحا في الأيام الأخيرة تصاعد عمليات التجنيد في البوكمال والميادين شرقا، وفي إزرع جنوبا، مستغلة انشغال الروس في الشمال السوري وعجزهم عن التقدم بريا.
ولإيران قواعد عسكرية منتشرة على الأراضي السورية، أبرزها في مطار دمشق الدولي، وفي الكسوة بريف دمشق، وفي جبل عزان بريف حلب الشمالي، ومطار السين العسكري، ومطاري الـ”تي فور” والشعيرات شرقي حمص، وقاعدة إزرع في الجنوب السوري، وهي تريد من سوريا ونظام الأسد معبرا باتجاه البحر المتوسط ولبنان.
أمّا السبب الثاني فهو سياسي، يتعلق بوحدة المصير الوجودي لنظام الأسد وللتواجد الإيراني في سوريا، فالمطروح أميركيا وإسرائيليا هو القبول بالأسد مع مغادرة إيران، وإذا كانت روسيا قبلت بهذا الطرح، فهي لا تعي صعوبته، فأمامها حرب باردة طويلة الأمد لتعزيز سلطتها ضمن جيش النظام، وقد بدأتها بإجراء تغييرات في المراكز الأمنية الحساسة، حتى تتمكن في اللحظة الحاسمة من التخلي عن الأسد، مع بقائها متحكمة بالقرار السوري، ودون المساس بمصالحها وعقود استثماراتها، والأهم قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس.
وعلى الرغم من حالة التنافس بين الحليفين الرئيسيين للنظام، روسيا وإيران، إلا أن الحديث عن صراع مفتوح بينهما في سوريا قد يكون فيه بعض المبالغة، لأن طهران، التي يتعرض وجودها في سورية لضغط سياسي دولي، إضافة إلى الضربات الإسرائيلية المتلاحقة، ليست في موقع تستطيع معه فتح صدام مفتوح مع موسكو، والحقيقة أن الطرفين لا يزالان يعتمدان على بعضهما في سورية، لإيجاد توازن مع أنقرة وواشنطن، وسيؤدي تحولهما إلى خصمين إلى إضعاف موقفهما، لكن احتمالات تصاعد الخلاف بين الجانبين، وظهورها إلى العلن بشكل أوضح، تظل قائمة، بل مرجحة مع اقتراب الحرب في سوريا من نهاياتها، والدخول في مرحلة اقتسام الغنائم، ورسم مستقبل البلاد، حيث الرؤى والمصالح متضاربة إلى حد كبير بين الطرفين.
وبالنسبة لنظام الأسد، فإن من المفهوم أنه يثق بإيران أكثر من ثقته بروسيا التي تعتريه شكوك بأنها قد تفاوض عليه في مرحلة ما، لكن خياره المفضل حتى اليوم هو الموازنة في العلاقة بين الجانبين، لأنه ما زال بحاجة لكليهما فيما بقاؤه مرتبط باستمرار دعمهما.
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية