بساحة السكوار المطلة على الساحل في قلب العاصمة الجزائرية، ينتصب باعة العملات على حافة الطرقات، كأنهم يناجون الضفة الشمالية من البحر المتوسط.
وعلى مرأى ومسمع من السلطات ورجال الأمن الذين ينتشرون في كل النقاط المجاورة للمكان، يلوح سماسرة العملات للمارة بالأوراق الخضراء من اليورو والدولار، لأن الحكومة لا تتيح حرية الصرف للمواطنين سوى مرة في السنة، ولمبلغ يعادل 110 يورو فقط (123 دولار) تحت غطاء منحة سياحية، مما جعل السوق الموازية ملجأهم الوحيد في حال المغادرة نحو الخارج.
زلزال 22 فبراير
وبذلك أخذت سوق العملات في الجزائر منحى تصاعديا منذ عقود، بفعل هشاشة الاقتصاد المحلي، حتى ضرب زلزال 22 فبراير بتوقيع الحراك الشعبي، الذي توسعت رقعته من مربع السياسة والسلطة إلى دائرة الاقتصاد والمال.
وهوى على إثرها اليورو بقرابة 25% من أسهمه في السوق الموازية، لينحدر في ظرف أسابيع قليلة من 210 إلى 160 دينارا جزائريا لكل يورو، مقابل 133.71 دينارا في البنوك، وسط توقعات بمزيد من التراجع.
تشغيل الفيديو
ويرى المستشار المالي عبد القادر بريش أن “سوق العملات غير رسمي في الجزائر، وبالتالي تبقى عوامل التحكم فيه غير موضوعية، ولا يمكن تفسير النزول والصعود بصفة دقيقة”.
وأوضح المتحدث في تصريح للجزيرة نت أن “الأصل هو تنامي الطلب في فصل الصيف، بحكم موسم الإجازات والحج، لكن هذا العام حدث العكس، لعوامل غير موثوقة، غير أنها مرتبطة بنتائج الحراك الشعبي”.
بارونات الفساد
وقال المتحدث إن سقوط اليورو مؤخرا يعود إلى تقلص الفارق بين العرض والطلب، ذلك أن سوق الصرف “تتحكم فيه بارونات لها ارتباطات مالية بشخصيات كبيرة هي اليوم رهن الحبس أو المتابعات القضائية”، وفق تفسيره.
وأضاف بريش -وهو أستاذ بالمدرسة العليا للتجارة بالعاصمة- أن هؤلاء الفاسدين كانوا يرفعون الطلب على العملة الصعبة، باستخدامهم شبكات تهريب عن طريق الحقائب اليدوية، لأجل شراء أملاك وعقارات في الخارج.
وأكد المتحدث أن تلك الشبكات تعطلت بتشديد الإجراءات الرقابية في كل المعابر الجوية والبحرية والبرية، مما خلق التوازن بين العرض والطلب.
واعتبر المستشار المالي أن الظاهرة لها علاقة كذلك بحالة الانكماش التجاري في السوق، كنتيجة نفسية لضبابية الوضع السياسي والاجتماعي، مما جعل الطلب على العملات يتناقص بالنسبة لـ”تجار الشنطة”.
وخلص بريش إلى أن سقوط اليورو ليس مرتبطا على الإطلاق بتحسن مؤشرات الاقتصاد الجزائري، فهي نفسها سواء بميزان المدفوعات أو احتياطي الصرف، ولكنه تراجع ناجم عن تداعيات الحرب ضد الفساد ضمن نتائج الحراك.
آليات الديمومة
من جهته، يرى الخبير المالي عبد الرحمن بن خالفة أن “سقوط اليورو ناجم عن سلوكيات ظرفية، وعلينا أن نترك المجال للزمن حتى نعرف مدى ديمومة الظاهرة، أم هي فقط ظرف تضاربي كبير ينتهي بعد حين”.
وقال بن خالفة -وهو وزير سابق للمالية- إنه “من المفروض بعد الحراك أن تستمر السلطات العمومية بأدوات قانونية واقتصادية في تعزيز تلك السلوكيات الظرفية”.
وأوضح الخبير في تصريح للجزيرة نت أن تحقيق ذلك يتطلب تنفيذ آليات جوهرية، أولها الاحتواء المصرفي، بحيث تفتح المصارف الأبواب للأموال المتداولة خارجها، ما من شأنه تقليل حجم الدينار الزائد في شريان الاقتصاد خارج البنوك.
وأضاف المتحدث أنه يتعين إعادة النظر في نظام الصرف، لأن إجراءات تدفقات الاستثمارات أو فتح حسابات بالعملة الصعبة لا تزال ثقيلة، ولا بد من تحديث قانون مراقبة الصرف، حتى يحقق الجاذبية.
وأكد بن خالفة أن الاقتصاد الجزائري لا يتحرك بالطرق السوقية وقواعد الاستثمار، مشددا على إعادة النظر فيها لبلوغ منافسة نقية، تجعل الشفافية لها ربحية أكثر من الطرق الموازية.
ودعا الخبير أيضا إلى الاحتواء الضريبي، من خلال زيادة الوعاء أفقيا لتنزل الضرائب عموديا، لتحقيق راحة أكبر تجعل المستثمر يربح أكثر من المستورد.
وخلص بن خالفة إلى أن تطبيق هذه الآليات ستؤدي حتما إلى تقوية الدينار الجزائري، مما يحول دون اضطرار الجميع للادخار بالعملة الصعبة، ويحفظ في النهاية التوازن في التسعيرة.
وتحفظ المتحدث على فتح مكاتب للصرف قبل الوصول إلى حالة التوازن بين التدفقات الداخلة والخارجة، لأن ذلك سيجعل تمويلها في الوقت الحالي من مدخرات الأمة، على حد تعبيره.
المصدر : الجزيرة