الصين والتغيير الناعم في إفريقيا.. “العولمة البديلة”

الصين والتغيير الناعم في إفريقيا.. “العولمة البديلة”

الصين

مثلما تُعد أشد أنواع الدبلوماسية تأثيراً في العالم هي (الدبلوماسية الناعمة) – لأنها لا تعتمد على القوة المسلحة, وإنما على: الثقافة، والقيم السياسية والعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية التي تُعد جميعها جزءاً مما يصنع قوة عظيمة – تُعد فكرة «التغيير الناعم» التي تتبناها الصين في إفريقيا, منذ تزايد تغلغلها هناك عقب تأسيس «الصين الجديدة» في 1949م، وسيلة ناجحة للغاية في إحداث نوع من التغيير لمصلحة الصين في القارة الإفريقية؛ بهدف إيجاد مناطق نفوذ وتأمين تدفق النفط للصين، فضلاً عن إنشاء أسواق واسعةللمنتجات الصينية هناك.

 . فالصين تعتمد في سياسة «التغيير الناعم» هذه للتغلغل في إفريقيا – ضمن مسلسل «التداعي على إفريقيا» من قبل قوى دولية كثيرة – على حقيقة أنها لم تكن يوماً دولة احتلال لإفريقيا؛ بعكس الغرب الذي ينظر له الافارقة بوصفه محتلاً, ووجوده في إفريقيا يستهدف سلب ثرواتهم.

كما تعتمد الصين على رفض التدخّل في الشؤون الداخلية للأمم الإفريقية، وهو ما يزيد من احترام الزعماء والنخب الإفريقية للنظام الصيني، كما تعتمد على كونها حليفاً لإفريقيا, وعلى تقديم خدمات وقروض ومشاريع صناعية وتنموية، ولا شك أن هذه السياسة تدفع الصين لتحقيق نفوذ اقتصادي وعسكري عالمي أكبر من نفوذها الحالي.

فمصطلح «القوّة الناعمة» وفقاً لـ «جوزيف ناي»(1): يعني قدرة الدولة A على إقناع الأمم الأخرى بتبنّي الأهداف نفسها التي تتبنّاها الدولة A بشكل يسوده الترغيب وليس الترهيب، وهذه القوة الناعمة تتضمن: الثقافة، القيم السياسية، السياسات الخارجية، والجاذبية الاقتصادية، كمكوّنات ضرورية من القوّة الوطنية.

 وقد لعبت الصين على كل جوانب هذه القوة الناعمة في تقديم نفسها كنموذج اقتصادي محبوب يقترب من النمط الإفريقي, حيث تشغيل العمالة البشرية بصورة أكبر من الآلة، والاستناد إلى مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وتشجيع شركائها التجاريين الإفريقيين لتطوير اقتصادهم من خلال التجارة والاستثمار في البناء التحتي والمؤسسات الاجتماعية؛ دون فرض شروط سياسية أو إصلاحات اقتصادية.

وهذه القوة الناعمة– بمعانيها الإيجابية لا السلبية ولا أساليب الإغراء والإغواء غير الأخلاقية – اتبعها المسلمون في بداية الدعوة، حيث الدعوة بالحسنى وعمل الخير ومساعدة الآخر وعدم فرض التغيير بالقوة والاعتماد على الإقناع والقدوة، فهي ليست فكرة حديثة بالرغم من أن الغرب برع في تأصيلها (تماماً كفكرة العلوم المستقبلية التي يُعد المسلمون هم رواد المستقبليات فيها, ولكنه أصبح علماً غربياً حالياً)؛ إذ كان النموذج الإسلامي لهذه القوة الناعمة يقوم على إيجاد نموذج أخلاقي صادق منفتح عقلاني وعاطفي يغريهم بالانخراط في الإسلام, وقد سعت المسيحية أيضاً لاستخدام الفكرة نفسها بوصفها فكرة دينية؛ تدعو إلى الفعل الحسن بواسطة المغريات والجاذبية والقدوة الحسنة.

أما في العلاقات الدولية؛ فإن التعامل الأخلاقي والمصلحة المتبادلة والاستعداد للتعاون وجعل العلاقة علاقة شعبية؛ كان هو أكثر الخطط الناعمة في الفكر الإسلامي.

وفي كتابه الذي يحمل عنوان «صعود القوة الناعمة للصين» يقول جوزيف اس. نيه الذي يعمل أستاذاً للخدمة المتميزة بجامعة هارفارد: إن عصر المعلومات العالمي، والمصادر الناعمة للقوة, مثل الثقافة، والقيم السياسية والدبلوماسية, تُعد جميعها جزءاً مما يصنع قوة عظيمة.

ويضيف: إن «النجاح (بهذه القوة الناعمة) لا يعتمد على من سيفوز جيشه، وإنما أيضاً من ستفوز قصته»، و «أن الصين حريصة على دعم الجهود التي تقودها إفريقيا لتطوير حوكمة سليمة، وتنمية مستدامة في شتى أنحاء القارة»(2).

وهذا الاستخدام لأسلوب التغيير أو التغلغل الناعم الصيني في إفريقيا سوف يستمر, بحسب خبراء سياسيين, كموجّه رئيس لتعزيز العلاقات بين الصين وإفريقيا، فالدكتور موسى كافانجا المدير التنفيذي لمعهد شرق إفريقيا للدراسات السياسية يؤكد أن «الصين التي نجحت في استخدام القوة الناعمة لصالحها؛ من غير الممكن معرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه».

 وقال كافانجا في مقابلة مع وكالة أنباء «شينخوا»: إن هذا النجاح دفع الغرب للسعي لمحاولة اللحاق بالصين في إفريقيا، لأن القوة الناعمة في عرف الصينيين تحترم تنوّع شعوب إفريقيا، وتسعى لإكسابها المزيد من الأصدقاء في إفريقيا.

الصين تنعش التكالب على إفريقيا . والحقيقة أن التكالب الجديد على إفريقيا “The new scramble for Africa” ارتبط أساساً بالدور الصيني تحديداً منذ أعوام التسعينيات, وسعيها الدؤوب للحصول على النفط والمواد الخام وفتح أسواق إفريقية جديدة, فالتحرك الصيني الجديد في إفريقيا أخذ ينحّي جانباً عوامل السياسة والإيديولوجيا, وذلك مقابل هيمنة الاقتصاد والمصالح النفعية البحتة(3).

 فالصين باتت تفكر بمنطق براجماتي مصلحي صرف, فهي تهتم بقضايا التجارة والاستثمار والوصول إلى مصادر النفط والمواد الخام أكثر من اهتمامها الإيديولوجي بقضايا مثل الصين الواحدة أو تضامن العالم الثالث، أو نشر الفكر الشيوعي.. وهكذا.

ولكن هناك فريقاً ثانياً من الخبراء يرفض ذلك تماماً, ويرى أن إفريقيا عرضة دوماً للسلب والنهب من جانب القوى الدولية الطامحة في الثروة والنفوذ على مرّ العصور, خصوصاً القوى الغربية، وأن ما تفعله الصين ليس سوى تكالب من نوع آخر عبر القوة الناعمة بدل أساليب الغزو الغربية القديمة.

وهناك فريق ثالث يرى أن هذا (التكالب الجديد) لا يختلف في حقيقته عن التكالب الاستعماري في القرن التاسع عشر, حيث أنه في كلتا الحالتين توجد مناطق واضحة للسيطرة والنفوذ؛ أي تقسيم النفوذ.

فطبقاً لمناطق النفوذ الراهنة؛ يُلاحَظ أن الولايات المتحدة تهيمن من خلال شركاتها النفطية على منطقة خليج غينيا وساوتومي، في حين أن فرنسا تهيمن على الجابون والكونغو برازفيل، بالإضافة إلى ذلك فإن المصالح النفطية الأنغلو أمريكية تحافظ على وجود قوي في نيجيريا، أما الصين فإنها تثبّت أقدامها في السودان وأنغولا، وذلك محاولات من أطراف جديدة لاقتطاع جزء من كعكة النفط الإفريقية وخطفه, خصوصاً من الدول الآسيوية من القادمين الجدد لإفريقيا, وعلى رأسهم الصين والهند وماليزيا وكوريا.

لكنّ الملاحظ مع هذا أنّ العلاقات الصينية- الإفريقية قامت على أسس سياسية واقتصادية أوسع وأعمق من المفهوم الضيّق للاستحواذ الصيني على الموارد، خصوصاً في ظل تداخل عوامل داخلية وخارجية صينية كان لها دور في تشكيل السياسة المتّبعة تجاه إفريقيا، إذ ساهمت الإيديولوجيا والاقتصاد والسياسة في تشكيل هذه السياسة اعتماداً على الحاجات والمتطلبات التي تقتضيها هذه العلاقة في كل مرحلة من المراحل(4).

وقد ركّز الدور الصيني – الذي استند إلى الاستفادة من كراهية الأفارقة للإرث الاستعماري الغربي؛ بحكم أن الصين لم تكن من الدول التي احتلت إفريقيا كما تحرص على تقديم نفسها للأفارقة – في دول إفريقية تدخل في صدام مع الغرب, مثل السودان الذي دخلته مبكراً بحكم الكراهية السودانية للنفوذ الأمريكي والعداء مع الغرب.

ففي ظل المقاطعة الغربية للسودان؛ قامت الخرطوم بتأسيس «شركة نفط النيل الأعظم»، وهي تضم مؤسسة النفط الوطنية السودانية، وشركة النفط الوطنية الصينية بنسبة 40%، وبتروناس ماليزيا 30%، ومؤسسة النفط والغاز الطبيعي الهندية 25%, وقد تمكنت «شركة نفط النيل الأعظم» بالفعل من إنتاج النفط السوداني وتصديره لأول مرة في عام 1999م.

أما السبب الرئيس لهذا التكالب الصيني على إفريقيا واستغلال القوة الناعمة في مزيد من التغلغل وترسيخ الوجود؛ فيرجع بدرجة كبيرة إلى العطش الصيني للنفط، بسبب تزايد حاجة الصناعة الصينية للنفط, حيث يحقق الاقتصاد الصيني نمواً استثنائياً بمعدل سنوي كبير ما بين 8 – 10%, وهو ما يجعله يعتمد اعتماداً متزايداً على النفط المستورد، حتى أضحت ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة, حيث تستورد بكين أكثر من 25% من واردتها النفطية من إفريقيا، وتسعى إلى المزيد, خصوصاً أن حاجاتها البترولية ستتضاعف عام 2030م، ومن أبرز الدول التي تستورد منها: السودان وتشاد والجزائر وأنجولا والجابون(5).

 ولأن النفط بات أمناً قومياً صينياً؛ فمن الطبيعي أن نشهد حماية صينية لمناطق النفط هذه, سواء عبر توريد أسلحة للدول الإفريقية أو دعم مناطق النفط وحمايتها، فبكين تُعد من أكبر موارد السلاح لإفريقيا.

وقد أرسلت الصين قوات عسكرية لحماية آبار إنتاج البترول والغاز الطبيعي في دول إفريقية مثل السودان(6), واستغلت خروج الولايات المتحدة من السودان عام 1995م لتحظى باستثمارات نفطية, حتى اصبح أكثر من نصف صادرات السودان النفطية يذهب إلى الصين وفقاً لأرقام 2008م، كما قامت شركة «سينوبك» الصينية بإنشاء خط أنابيب بطول ألف وخمسمائة كيلو متر لنقل الإنتاج النفطي إلى ميناء بور سودان على البحر الأحمر, ومنه إلى ناقلات البترول المتجهة إلى الصين.

  وفي تشاد؛ حصلت الشركات الصينية على استثمارات نفطية بالرغم من أن النظام في نجامينا له علاقات دبلوماسية بتايوان، غير أن المصالح الاقتصادية تعلو مبدأ (صين موحدة) الذي تتمسك به الصين وتضعه معياراً حاكماً لعلاقاتها الدولية.

كيف تدير الصين القوة الناعمة؟:

ويلاحظ هنا أن الصين تستخدم كل أدوات هذه القوة الناعمة في إفريقيا لتدعيم نجاحها ووجودها هناك، ومنها على سبيل المثال(7):

– دعم الصين للدول الإفريقية اقتصادياً عبر رعاية الصين لـ «منتدى تعاون الصين وإفريقيا» الذي أنشئ بمبادرة من بكين عام 2000م, وضم ستاً وأربعين دولة إفريقية، ومن أهم إنجازاته إسقاط 1,2 مليار دولار من ديون القارة، حيث تعهّدت الصين بالمساهمة في تنمية الموارد البشرية في إفريقيا بتأسيس صندوق يُدار بإدارة صينية إفريقية مشتركة, ويستخدم من قبل وزارات صينية مختلفة (شؤون خارجية, وتجارة, وتربية, وعلم وتقنية, وزراعة, وصحة) لكي يتم تدريب الموظفين الإفريقيين، ابتداءً من 2003م، وقد تم تدريب أكثر من 6000 إفريقي كجزء من البرنامج.

 – سعي الجامعات الصينية إلى تقوية العلاقات بالمؤسسات الإفريقية، وهذا يؤدي إلى إنشاء الروابط الدائمة بين المؤسسات الصينية والإفريقية والأشخاص.

– ترويج «دبلوماسية الصحة» مع الشركاء الإفريقيين؛ من خلال علاقات بين الأطباء الصينيين وملايين الإفريقيين العاديين، إذ أجرت الصين تعاوناً منتظماً مع الدول الإفريقية في حقل الصحة عبر الزيارات الوزارية العديدة مع الزعماء الإفريقيين؛ لتسهيل التبادل المنتظم للفرق والتدريب الطبي للمحترفين الطبيين الصينيين، إلى جانب ما تقوم به الصين من تزويد العديد من الدول الإفريقية بأجهزة طبية مجّانية، وبرامج مشتركة لمعالجة العديد من الأمراض, مثل الملاريا وفيروس نقص المناعة الإيدز.

 – مجلس الأعمال الصيني – الإفريقي الذي أنشئ في نوفمبر 2004م بغرض دعم استثمارات القطاع الخاص الصيني في كل من: الكاميرون، وغانا، وموزنبيق، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا، وتنزانيا, كما أن التجارة المتبادلة بين الصين وإفريقيا تزيد حالياً على ثلاثين مليار دولار.

أساليب التغيير الناعم:

هذه القوة الصينية الناعمة التي انتهجت أساليب التغيير الناعم؛ اتبعت بدورها أساليب أكثر حنكة في تفاصيل مجالات التأثير الفعلي لتنفيذ هذا التغيير الناعم, وذلك عبر مجالات مختلفة, منها المجال الاقتصادي والثقافي والتجارة، مع الاستفادة من كراهية الأفارقة لأمريكا والغرب, وإظهار الصين كدولة من دول العالم الثالث أو عدم الانحياز التي تقف مع إفريقيا على قدم المساواة.

حيث استفاد الصينيون من العامل التجاري في التغلغل في إفريقيا ومد النفوذ، بسبب تميز الإنتاج الصيني بالوفرة, وانخفاض التكاليف بما يناسب طبيعة الفقر في إفريقيا، وعلى خلفية حاجة الصين المتزايدة للنقد الأجنبي عبر أسواق إفريقيا الأكثر جاذبية لقطاع الصادرات الصيني.

كما استفادوا من تأثير العامل الجيو استراتيجي، حيث تتميز إفريقيا بوجود مناطق استراتيجية مهمة وممرات تتحكم في حركة النقل البحري الدولي، منها ممر قناة السويس وممر باب المندب, فضلاً عن قرب مناطق النفط في إفريقيا من الصين أيضاً، وهذه الممرات تضمن للصين النفاذ والوصول إلى الأسواق العالمية.

أيضاً استفاد الصينيون من كراهية الأفارقة للدور الأمريكي في ضرب الأحلاف العسكرية – الأمنية الأمريكية في المنطقة, والتي كانت تستهدف تطويق الصين.

العولمة الصينية البديلة:

وقد أشار «معهد سياسة الأمن والتنمية» في «استوكهولم» في تقرير أخير حول «الصين وإفريقيا»(8) – كتبه البروفيسور «جورج تي يو»(9) – إلى سياسة صينية بديلة مهمة جداً, تستخدمها الصين ضمن فكرة القوة الناعمة في إفريقيا, وهي ما يسمّيه «عولمة بديلة» تقودها الصين كقوّة «غير غربية», تتحدى العولمة التي تقودها القوى الغربية الولايات المتحدة وأوروبا، وتعمل على نقل المنفعة والفائدة المتبادلة مع الدول الأخرى، وفي حالتنا هذه مع الدول الإفريقية.

هذه «العولمة البديلة» التي تقودها الصين كقوّة «غير غربية» تتحدى العولمة التي تقودها القوى الغربية، فمن واقع نمو الاقتصاد الصيني السريع والمتزايد؛ لم يكن هناك من شك أبداً في حاجة الصين إلى إفريقيا ومواردها ولا سيما النفط والمواد الأوليّة.

 ففي مرحلة الستينيات والسبعينيات شكّلت إفريقيا ساحة معركة بين الصين وتايوان, وذلك حول موضوع السيادة ومن الذي يحق له تمثيل الصين كلها في المحافل الدولية، أمّا في المرحلة اللاحقة, أي في القرن الحادي والعشرين، فقد تحوّل الاقتصاد إلى قضية مركزية بما في ذلك ضمان الوصول إلى مصادر الطاقة في إفريقيا وإلى السلع والمواد الأولية اللازمة لضمان التنمية الاقتصادية الصينية، وقد اتسمت سياسة الصين في تلك المرحلة بدرجة من البراغماتيّة والليونة والمرونة في التعامل.

  وسخّرت الصين دبلوماسيتها باتجاه الدول الإفريقية خلال الفترة الماضية لتحقيق أهداف متنوعة تبعاً للظروف الإقليمية والدولية التي كانت سائدة في كل مرحلة من المراحل.

ففي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات كانت السمة الأساسية لدبلوماسية الصين في إفريقيا تقوم على خدمة الإيديولوجيا، فالصين كانت تسعى في تلك الفترة إلى كسر العزلة الدوليّة في مواجهة عدوّين: الأول استعماري غربي بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكية، والثاني يتمثّل بالاتحاد السوفييتي (السابق) الذي كان قد دخل في نزاع مع الصين في الستينيات من ذلك القرن, وعليه فقد كانت الصين تسعى قدر المستطاع إلى الحصول على الدعم الدولي والاعتراف، ولا شك أنّ إفريقيا والدول الإفريقية المستقلّة آنذاك شكّلت هدفاً مناسباً لتحقيق المسعى الصيني، ولذلك فقد طغى البعد الإيديولوجي على السياسة الخارجية للصين في تلك المرحلة، وخاضت بكيّن في تلك الفترة معركتها في إفريقيا وفق معايير وأدوات إيديولوجية.

  وكانت الصين آنذاك تسعى لأن تبرهن للدول الإفريقية أنّ الاتحاد السوفييتي قوّة تسعى للهيمنة لا أكثر، وأنّ الصين تتبع المبدأ الاشتراكي الحقيقي الذي يقدّم الدعم الفاعل لحركات التحرر الوطنية.

لكنّ الموقف الإيديولوجي الحاد للصين في تلك الفترة أضر بها, وحدّ من فعالية سياستها الخارجية التي كانت تسعى لفك العزلة الدولية، مما أدخلها في تناقض؛ لسعيها لكسب تأييد المزيد من الدول الإفريقية مقابل عدم القدرة على توسيع إطار علاقتها في إفريقيا؛ بسبب التمسّك بالوجه الإيديولوجي في دبلوماسيتها تجاه دول القارة.

وقد تميزّت السياسة الخارجية الصينية في استعمال الدبلوماسية لخدمة الاقتصاد منذ بدء تطبيق سياسة «الإصلاح والانفتاح» في عام 1978م، فبالتوازي مع الإيديولوجيا كانت الصين تسعى أيضاً إلى جعل الدبلوماسية في خدمة السياسة والأهداف السياسية الخاصة بها, وفي هذا الإطار فقد كانت مسائل مثل السيادة ووحدة الأرض الصينية والاعتراف الدولي تحظى بأولوية لدى بكين في علاقتها مع كل الدول, ومن بينها الدول الإفريقية بطبيعة الحال.

وكمثال من القضية التايوانية يلاحظ أنه في الوقت الذي أنشئت فيه جمهورية الصين الشعبية في عام 1949م؛ كانت تايوان تمثّل الصين في المحافل الدولية وفي الأمم المتّحدة أيضاً، واستطاعت تايوان منذ عام 1949م وحتى عام 1970م أن تكسب المعركة مع جمهورية الصين الشعبية, وأن تحظى باعتراف معظم الدول الإفريقية المستقلّة حديثاً، بل استطاعت أن تحافظ على علاقاتها الدبلوماسية مع 22 من أصل 40 دولة إفريقية مستقلّة آنذاك مقابل 15 لجمهورية الصين الشعبية.

 لكن سرعان ما تغيّرت الأمور وانقلبت لمصلحة جمهورية الصين الشعبية، وذلك منذ أن اكتسبت الأخيرة المقعد الدائم في الأمم المتحدة كممثّل شرعي للبلاد بدلاً من تايوان في عام 1971م, وبات الاعتراف بتايوان ينحصر في أربع دول إفريقية فقط في عام 2009م بدلاً من 22 في عام 1970م، وعُدّ ذلك انتصاراً دبلوماسياً للصين في إفريقيا.

فبكين منذ عام 1971م وحتى ما قبل ذلك كانت تصر على مبدأ «اعتراف الآخرين بصين واحدة», وهو ما حصلت عليه في إفريقيا أيضاً, ومنذ تلك الفترة عملت بكيّن على إعطاء العلاقات الثنائية الصينية – الإفريقية بعداً خاصّاً، كما قامت بتطوير علاقات ثنائية قويّة مع بعض الدول الإفريقية, ولا سيما أنغولا التي تعد مزوّداً رئيساً لمصادر الطاقة، إضافة إلى مصر الدولة الإفريقية الأولى التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين في عام 1956م، وزامبيا الدولة التي تتمتع باحتياطيات كبيرة من المواد الأوليّة في القارة الأوليّة.

وفيما يخص الاقتصاد؛ تميزّت السياسة الخارجية الصينية في هذا المجال بالانفتاح منذ بدء تطبيق سياسة «الإصلاح والانفتاح» التي وضعها Deng Xiaoping في العام 1978م, إذ آمن القادة الصينيون منذ ذلك التاريخ بضرورة تسخير كل القدرات لخدمة الاقتصاد الوطني الذي يجب أن يحظى بالأولوية وتأمين مصادر الطاقة والمواد والسلع الأوليّة اللازمة؛ إضافة إلى التكنولوجيا والاستثمارات اللازمة للنهوض به.

ولهذا كانت الدبلوماسية الصينية – كأحد أساليب هذه القوة الناعمة – في خدمة الاقتصاد الوطني, سواء مع الدول النامية أو المتطورة على حد سواء، وشهدت العلاقات الاقتصادية الصينية – الإفريقية نقلة نوعية في التسعينيات والعقد اللاحق أيضاً وصولاً إلى يومنا هذا، وقامت بكيّن باستخدام أدوات مختلفة بشيء من الإبداع والحنكة، ومنهـا الأدوات الاقتصادية الأكثر تأثيراً، واعتمدت في هذا المجال على ثلاثـة أشكال: المساعدات الرسمية، العلاقات التجارية، والاستثمار.

فعلى صعيد المساعدات؛ تطورت أشكال المساعدات الحكومية لتتحول إلى منح وقروض طويلة الأجل, واستخدمت الصين خليطاً من المساعدات الحكومية والروابط التجارية والاستثمارات من أجل النفاذ إلى إفريقيا, ولطالما كانت المساعدات العنصر الاقتصادي الأكثر نجاعة في السياسة الخارجية الصينية تجاه إفريقيا، ففي بداية الستينيات والسبعينيات استخدمت الصين المساعدات الحكومية كأدوات لدعم غايات إيديولوجية وسياسية, ولكسب الأصدقاء والتأثير في الناس, وبلغ حجمها عن تلك الفترة 2,4 مليار دولار تقريباً.

ومع تطبيق سياسة «الإصلاح والانفتاح» في بداية الثمانينيات؛ بدأت دبلوماسية الصين الاقتصادية تأخذ بُعداً آخر، وبعد أن كانت سياسة المساعدات الاقتصادية المقدّمة لإفريقيا تحرم البلاد من أية منافع اقتصادية؛ أصبحت منذ تلك الفترة تحقق المنافع المتبادلة للطرفين، وفتحت هذه المساعدات آفاقاً اقتصادية جديدة في إفريقيا، من الوصول إلى أسواق جديدة للبضائع والسلع الصينية، إلى إيجاد بيئة استثمارية مهمة، إلى تأمين مصادر الطاقة والسلع الأساسية.

  وتم دعم هذا التوجه فيما بعد عبر إنشاء روابط ومؤسسات تشرف على هذا الموضوع، فتم في عام 2007م تأسيس الصندوق الصيني – الإفريقي برأسمال 5 مليارات دولار, كما أصدرت وزارة التجارة الصينية كتيّباً إرشادياً يحث على الاستثمار في إفريقيا.

وعلى صعيد العلاقات التجارية؛ استخدمت الصين موقعها كثالث أكبر دولة تجارية في العالم عام 2008م لممارسة الدبلوماسية التجارية مع إفريقيا، الأمر الذي رفع من الرصيد التجاري مع هذه القارة من 5 مليارات في عام 1995م إلى أكثر من 100 مليار في عام 2008م, لتشكل 5% من حجم التجارة الصينية مع العالم.

وتقوم العلاقات التجارية على اعتماد الزيارات الدبلوماسية الرفيعة المستوى بين الطرفين, ودعم وتيرة هذه الزيارات المستمرة، فزيارات الجانب الصيني للدول الإفريقية تضاهي زياراته لغيرها من الدول، فالرئيس الصيني «هو جنتاو» زار على سبيل المثال القارة الإفريقية في أربع مناسبات كان آخرها في فبراير من العام 2009م، أمّا المسؤولون الصينيون بمستوى وزير أو أعلى فقاموا بأكثر من 160 زيارة إلى 30 دولة إفريقية منذ العام 1960م, مقابل ما يقرب من 700 زيارة لمسؤولين إفريقيين على مستوى وزير أو أعلى إلى الصين في خلال هذه المدّة.

بل ذهبت بكّين أبعد من ذلك؛ حيث قامت بنسج علاقات قوية تتخطّى النخب السياسية للطرفين, وصولاً إلى الدبلوماسية الشعبية التي أعلن عنها الرئيس «هو جنتاو» في العام 2009م, والتي يسعى من خلالها إلى تعزيز الروابط الشعبية من خلال توفير المنح التعليمية, وتبادل زيارات الفنانين والمثقفين والصحافيين والأطباء وغيرهم.

أمّا على صعيد الاستثمارات الصينية في إفريقيا؛ فقد ارتفعت من 75 مليوناً في عام 2003م إلى 520 مليون في عام 2006م, وإلى مليارين في عام 2008م, وذلك بدفع من الاحتياطي النقدي الأجنبي للبلاد, والذي ظلّ يرتفع إلى أن بلغ تريليونين في آذار من العام 2009م.

وكانت المساعدات التقنية ونقل التكنولوجيا جزءاً من العلاقات الصينية – الإفريقية على الدوام, واستطاعت بكين من خلال هذا العامل أن تثبت مدى قدرتها على مساعدة الإفريقيين فعلياً, ودعمهم من خلال تسخير التقنية والتكنولوجيا لمساعدتهم, وتوظيفها في المشاريع التي تتعلق بالبنى التحتية والزراعة والنقل والتدريب التقني والمساعدة الطبيّة.

وفيما يخص العامل الثقافي؛ اعتمدت بكّين عليه لرسم صورة إيجابية وبناءة لها في إفريقيا، وذلك لتسهيل وجودها وتقريب الناس إليها, ولم تتردد بكّين في توظيف العامل الثقافي قدر المستطاع من أجل تعميق علاقاتها مع الإفريقيين، فحرصت على تأمين العديد من المنح التعليمية والتبادل الثقافي والتعليمي لعدد كبير من الطلاب الإفريقيين, إضافة إلى عقد ورش العمل المشتركة والتدريب المشترك، كما حرصت على تأطير تحرّكها بشكل رسمي, عبر تضمين ورقة السياسة الصينية تجاه إفريقيا للعام 2006م بنوداً تتضمن الحث على تعميق العلاقات الثقافية, بما فيها التعليم والصحة والعلوم والتبادل الشعبي.

وأعلنت في العام نفسه خلال الاحتفال الذي أقيم بمناسبة مرور 60 عاماً على العلاقات الصينية – الإفريقية, والذي حضره ممثلون عن 48 دولة إفريقية، برنامجاً لتدريب 15 ألف اختصاصي إفريقي، إضافة إلى رفع المنح التعليمية للطلاب الإفريقيين في الصين من ألفين إلى 4 آلاف في عام 2009م.

وقد ساهم ذلك – إضافة إلى الدبلوماسية الشخصية والمساعدات التقنية – في تطوير العلاقة بين الطرفين إلى مستوى الشراكة العالمية.

البديل الصيني للعولمة الغربية:

وبناء على هذه الحقائق السابقة؛ سعت الصين في القرن الحادي والعشرين، ومع صعود قوى جديدة إلى المسرح العالمي وعودة قوى أخرى تقليدية، إلى تقديم «عولمة بديلة» تعمل على تحدّي السيطرة العالمية للتأثير الغربي وتحد من سطوته, وفي هذا الإطار تبرز الصين, كإحدى الدول غير الغربية التي تنهض بشكل سريع على المسرح العالمي, مقدّمة للعالم أو لمناطق واسعة منه عدداً من السياسات والممارسات البديلة عمّا هو سائد في المنظومة الغربية, خصوصاً في مجال تقديم النماذج التنموية.

هذه «العولمة البديلة» – بحسب البروفيسور «جورج تي يو» – هي «مجموعة قيم تؤسس لبديل عن الممارسات والمؤسسات والسياسات والموارد القائمة حالياً», وهو ما فعلته الصين التي طورت علاقاتها بإفريقيا لتصبح أكثر عمقاً وقوّة, ولتتحوّل إلى شراكة عالمية مع نهاية الثمانينيات, بشكل يعكس قوّة نفوذ الصين وتأثيرها في إفريقيا بشكل تصاعدي، ويقدّمها كبديل محتمل عن تأثير هيكلية السلطة والثقافة الغربية في إفريقيا, وقد ساهم استخدام الصين المرن لأدوات السياسة الخارجية المتعدّدة من السياسة إلى الاقتصاد والثقافة في ترسيخ البصمة الصينية في إفريقيا أمام النفوذ الغربي القديم.

فالدور الصيني في إفريقيا برز كـ «بديل صيني» للعولمة الغربية, وبرهن على أنّه يمتلك القدرات اللازمة للمساهمة في تطوير القارة السمراء، بعكس الطرق أو البدائل الأخرى التي توفّرها بلدان غربية لإفريقيا, وتتطلب دفع أثمان باهظة, في مقابل تطويق حريتها أو حيادها.

 الهوامش:

 (1) جوزيف ناي، صعود القوة الناعمة، ترجمة د. محمد توفيق البجيرمي، السعودية ، العبيكان، 2007م.

(2) نفس المصدر.

(3) د. حمدي عبد الرحمن: إشكاليات العلاقة بين النفط والتنمية في إفريقيا، مركز الجزيرة للدراسات، 25 سبتمبر 2009م.

(4) الصين وإفريقيا، تقرير، معهد سياسة الأمن والتنمية، استوكهولم.

(5) محمد جمال عرفة، نفط المسلمين آليات جديدة لسلاح قديم، سلسلة رؤى معاصرة، المركز العربي للدراسات الإنسانية، 2008م.

(6) عبد العظيم محمود حنفي، المحدد النفطي في السياسة الصينية تجاه القارة الإفريقية، موقع منبر الحرية، بدون تاريخ.

(7) المصطفى عبد الحافظ،القوة الناعمة للصين بإفريقيا: من إجماع بيجين إلى دبلوماسية الصحة، الحوار المتمدن ، العدد 1392 – 7/12/2005م.

 (8) مركز دراسات الصين وإفريقيا، موقع إنترنت:

 http://chinaasia-rc.org/index.php?d=21&id=944

 (9) البروفيسور “جورج تي يو” سبق له أن شغل منصب مدير مركز دراسات آسيا والهادئ في جامعة ألينوي الأمريكية من العام 1992م وحتى العام 2004م، وأصدر العديد من الكتابات التي تضمّنت الحديث عن الصين وإفريقيا بشكل خاص.

   محمد جمال عرفة

http://www.qiraatafrican.com/view/?q=1791