لا قدسية لمسجد بدون المصلين، ولا قدسية لوطن بدون المواطنين، وقد أثبت الشعب الفلسطيني جدارة استحقاقه لقدسية المسجد الأقصى، الذي هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين عند عموم المسلمين، وبدون أن نسمع صوتا مؤثرا بطول وعرض العالمين العربي والإسلامي، اللهم إلا بيانات باهتة أو ساخنة، لا تحرك حجرا ولا تدفع خطرا، ولا تصد هجمة وحشية مدبرة من الإسرائيليين لاقتحام المسجد الأقصى في يوم عيد الأضحى الأخير، الذي صادف هذا العام ما يسميه الصهاينة بعيد «خراب الهيكل»، فاندفعت جحافل الخراب، ومعها جيش العدو وكامل سلاحه، مع قرابة 1700 متطرف إسرائيلي، ومنع جيش الاحتلال دخول أي فلسطيني من خارج القدس لصلاة العيد، لكن المفاجأة المذهلة كانت في انتظارهم، فقد حشد الفلسطينيون المقدسيون وحدهم مئة ألف مصل، زحفوا إلى المسجد الأقصى، ومنحوا المسجد العتيق قداسة يستحقها، كمسرى للنبي الأمين (ص)، ونقطة انطلاق الرحلة النبوية المقدسة إلى معارج السموات العلا حتى سدرة المنتهى.
وقد لا يجادل أحد في قدسية المسجد الأقصى، اللهم إلا إذا كان مأفونا، أو صهيونيا ظاهرا أو متنكرا، لكن «الأقصى» ليس مجرد مكان للصلاة، وصلاة المسلمين ممكنة على أي حال، وفي أي مكان، وقد جعلت الأرض كلها طهورا ومسجدا للمسلمين، بنص الحديث النبوي الصحيح، وكان بوسع «المقدسيين» أن يؤدوا صلاة العيد في مساجد عديدة متاحة، لكن نداء النفير المقدسي كان محددا في كلماته ووجهته، ودعا المقدسيين أن يتركوا صلاة العيد في المساجد الأخرى، وأن يشدوا الرحال إلى المسجد الأقصى وحده، رغم إجراءات الإرهاب التي فرضها جيش الاحتلال، والتي لم تكتف بحظر قدوم غير المقدسيين، بل حاصرت المقدسيين أنفسهم، وجعلت الذهاب إلى الأقصى صباح العيد، كأنه ذهاب إلى معركة دامية، لم يبال المقدسيون فيها بما نالوه من مطاردة وأذى، ومن عشرات ومئات الإصابات بعنف ورصاص العدو الرابض، ورغم كل الحواجز، نجح المقدسيون في الدفع بحشد المئة ألف إلى داخل المسجد المقدس، وحرموا العدو من نشوة الإحساس بالنصر والاقتحام السهل، وألجأوه إلى الحيلة والخداع، والدفع بالمقتحمين بعد فراغ جموع المقدسيين من الصلاة.
ولم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة، التي ينتصر فيها المقدسيون الفلسطينيون، فقد تكررت مشاهدهم الباسلة عشرات المرات في السنوات الأخيرة، تصاعد فيها الصدام إلى ذراه العالية مرارا، وحاول جيش الاحتلال تقييد دخول المصلين، عبر التحكم في البوابات، أو تركيب كاميرات ومد جسور، أو فرض شروط، تترجم دعوى السيادة الإسرائيلية على القدس ومسجدها الأقصى، خصوصا بعد إعلان ترامب تأييد أمريكا ضم القدس لإسرائيل، وجعلها عاصمة أبدية موحدة لكيان الاحتلال، وهو ما لا يعني شيئا له قيمة عند المقدسيين، فقد اعتبروا القرارات الظالمة مجرد قصاصة ورق، مزقوها ببسالتهم الأسطورية، وصمودهم بصدورهم العارية، وبشبابهم الذي أدرك الحقيقة مجردة، وهي أن الصراع على المسجد الأقصى وأبوابه وصلواته، ليس مجرد دفع للأذى عن المسجد العتيق، ولا مجرد صد لاقتحامات المتطرفين الصهاينة، بل بؤرة للصدام حول مصير فلسطين كلها، والقدس في قلبها، والمسجد الأقصى في قلب القدس، وهذه الرمزية المركبة المكثفة تصنع المعجزات، فقدسية المسجد من قدسية فلسطين، والمقدس الديني هو الوجه الباطن للمقدس الوطني، وكما يتصور الإسرائيليون، أن إعادة بناء الهيكل المزعوم هي تتويج لدوام احتلالهم، فكذا يعتقد الفلسطينيون عن حق، أن الدفاع عن المسجد الأقصى هو واسطة العقد في كفاحهم من أجل الحرية.
يعتقد الفلسطينيون عن حق، أن الدفاع عن المسجد الأقصى هو واسطة العقد في كفاحهم من أجل الحرية
ليس اندفاع ولا حماسة الفلسطينيين في حماية الأقصى مجرد شأن ديني، ولا حصرا للصراع التاريخي في بعد ديني، ولا استثارة لحروب دينية، فلا كراهة عند المسلمين لأي دين سماوي، وهم يؤمنون بالكتب والرسالات والأنبياء جميعا، والحرب الجارية المتصلة على مدى جاوز القرن، التي تتعاقب جولاتها جيلا فجيل، هي في جوهرها حرب تحرير وطني، تتنوع وسائلها، يلجأ فيها المحتل الاستيطاني إلى عنف السلاح الذي لا يملك غيره، ويعتصم فيها الفلسطينيون بالحق الذي يملكونه ويملكهم، وبالثبات الراسخ فوق الأرض المقدسة، وبروح استشهاد وفداء، تجد رمزيتها القصوى في المسجد العتيق، لكنها لا تتوقف عند أسواره وبواباته، بل تثير الروح المقاومة في كل فلسطين، وقبل نحو عشرين سنة من اليوم، كان حدث اقتحام الإسرائيليين للأقصى، وبحضرة شارون وجيشه، كان الحدث المستفز شرارة مباشرة، أشعلت الانتفاضة الفلسطينية المعاصرة الثانية، التى استفادت من درس الانتفاضة المعاصرة الأولى في 1987، وجمعت بين المقاومة الشعبية السلمية والمقاومة المسلحة، وحررت أول قطعة أرض فلسطينية بقوة المقاومة وحدها، وأرغمت الاحتلال الإسرائيلي على الجلاء عن غزة من طرف واحد، وتفكيك المستوطنات اليهودية السبع فيها، والمعنى ظاهر، فقد كان نداء الأقصى هو الذي حررغزة البعيدة جغرافيا، حتى إن كانت محاصرة إلى الآن، تماما كحصار المسجد الأقصى، الذي يحرره المقدسيون من دنس الاقتحامات كل أسبوع، في تأكيد للخيط المرئي الرابط بين قدسية المسجد وقدسية الأرض، وصلة العروة الوثقى، التي لا يكون المسجد مقدسا بدونها، فالأقصى ليس مجرد مكان مفضل للصلاة، بل هو اختصار وتكثيف رمزي للتحرر من العبودية للمحتلين، وعبادة الله وحده تسقط العبودية لمن سواه، وتحفظ كرامة الأوطان وطهارة الأبدان.
وقد لا يفيد البكاء على خذلان العرب والمسلمين لفلسطين والفلسطينيين، ليس فقط الأنظمة الخائنة، بل الشعوب النائمة أو المنومة، فقد أثبت الشعب الفلسطيني مقدرته على مواصلة كفاحه، حتى في أسوأ الظروف، وجرت انتفاضات الفلسطينيين المعاصرة وسط خذلان عربي مبين، لم يدفع الشعب الفلسطيني إلى اليأس، ولا إلى هجران وطنه المقدس، بل داوم الثبات على الأرض في سنوات الخذلان الثلاثين الأخيرة، وتضاعفت معدلات حضوره نسلا فنسل، وصار عدد الفلسطينيين أكبر من عدد اليهود المجلوبين، ما بين النهر والبحر، وأنطقوا الأرض المقدسة بلغة القرآن، فالأرض تنطق بلسان كثرتها الغالبة، والفلسطينيون يتحولون في اطراد، إلى كثرة غالبة فوق الأرض المقدسة، ليس فقط بتفوق التناسل وطيب الأرحام، بل بالتفوق البشري المتزايد ثباتا وتعليما، وبإبداع صيغ كفاح جديدة، أظهرها سلاح المقاومة الشعبية السلمية، من حول المسجد العتيق في قلب القدس المحتلة، وإلى مسيرات العودة على حواف غزة، المتصلة كل يوم جمعة لنحو عام ونصف العام إلى الآن، ومن دون كلل ولا جزع من تكاثر التضحيات وطوابير الشهداء، وهو ما يدل بذاته على الطريق، الذي قد يتحول إليه كفاح الفلسطينيين في قابل الأيام، رغم الآثار السلبية الفادحة لانقسامات الفصائل، وتثبيط أطراف بعينها لهمم الناس، خصوصا في الضفة الغربية، التى تواصل إسرائيل عمليات ابتلاعها بأطواق الاستيطان، وتفرض وقائع إحلالية جديدة، لا سبيل إلى مواجهتها وهزيمتها، بغير استلهام روح المقدسيين الباسلة، ووقف الصراع بين «حماس» والسلطة الفلسطينية، وما دام الرئيس عباس قد قرر، كما قال وقف الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، فلا بد من الانتقال بالمقابل إلى اتفاق جامع للشعب الفلسطيني، صاغته طلائع الفلسطينيين المقدسيين يوم عيد الأضحى الأخير، باحتشادها المقدس دفاعا عن الأقصى، وفي إشارة لا يخفى مغزاها، إلى طريق انتفاضة فلسطينية جامعة هذه المرة، تماما كانتفاضتي 1987 و2000، وبسبيل المقاومة الشعبية السلمية المنتظمة، وإذا كانت القدس وحدها قد دفعت بمئة ألف إلى صلاة العيد، فبوسع ملايين الفلسطينيين في مدن وقرى الضفة الغربية، أن يدفعوا بمليون فلسطيني كل جمعة، يؤدون الصلاة عند جدار الفصل العنصري، وفي حشد سلمي تماما، يرفد حشود القدس وغزة بزاد لا ينضب، يؤكد وحدة ساحات الكفاح الفلسطيني، ويضيف مددا مضاعفا من دعم الفلسطينيين في أراضى 1948 وراء خط الجدار العنصري، ومن دعم الفلسطينيين في الملاجئ وعواصم الشتات باتساع الدنيا كلها، ومع التزام صارم من كل الفصائل، بالامتناع عن أي عمل يضر بالإجماع الشعبي، أو يؤثر على نقاء صورة الاحتشاد السلمي المليوني المعتصم بقوة الحق وحده في وجه سلاح الاحتلال، والمستند لاحتمال التضحيات، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.
هذا هو الطريق الذي رسمته انتفاضات الفلسطينيين المفرقة في السنوات الأخيرة، وأكدت عليه انتفاضة المقدسيين في صلاة العيد الأخيرة، وبما يحفز على تحويله إلى خطة جامعة للفلسطينيين، لا ترهق شعبا عظيما باسلا، ولا تحمله فوق الطاقة في هذه المرحلة، لكنها تنهك الاحتلال الإسرائيلي وحده، وتكشف وحشيته أمام العالم كله، وتوقظ الشعوب النائمة في الأقطار العربية، وتساعدها في كشف وحصار أنظمة التطبيع والخيانة، وربط قضاياها الذاتية بقضية تحرير فلسطين، وهى القضية المركزية، التى صارت غائبة عن جداول ووعي شعوبنا، بعد نفيها من جداول أعمال الحكام المتحالفين عمليا مع إسرائيل.
والمطلوب ببساطة، خلق مركز فوار بالحركة في فلسطين ومن أجل فلسطين، وقد جعل المقدسيون من كفاحهم مركزا لحركة الشعب الفلسطيني، وجمعوا في نفس واحد بين قدسية المسجد العتيق وقدسية فلسطين، وهو الإلهام القابل للامتداد بطول وعرض الأراضى المقدسة، وفي طقس قدسي منتظم، يعيد لفلسطين مكانة القبلة الأولى، وينهي أوضاع الركود، ويسري بروحه القدسية إلى كل بيت عربي، وفلسطين وحدها تستطيع أن تفعل وتلهم.
القدس العربي