ليس التوتر المتواصل مع إيران في الخليج الفارسي، أو التقلبات في العالم العربي، وكذا ليست الحملة الانتخابية في إسرائيل، ما تقف على رأس سلم أولويات الأشخاص المسؤولين عن السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، أو الخبراء الذين يعد مصدر رزقهم هو تحليل التوجهات التي خلفها وتأثيراتها. ، يعتبر الشرق الأوسط بنظر واشنطن نقطة بحجم متوسط، في خارطة عالمية أساسها منافسة اقتصادية وتكنولوجية مع قوة عالمية رئيسية واحدة، وهي الصين. الاهتمام الأمريكي تحول منذ زمن إلى شرق آسيا وإلى ميزان التجارة السلبي مع الصين. الشرق الأوسط مهم، لكن بدرجة معينة. وينبع جزء من الاهتمام به من سؤال إذا ما كانت هذه الساحة ستخضع للخطوات العالمية التي تقودها بكين، مثلما حدث في مناطق أخرى.
عندما تحولت العناوين في نشرات الأخبار والصحف، هذا الأسبوع، إلى لحظة عن المناوشات الحزبية الطويلة التي أساسها الرئيس دونالد ترامب، فقد ذُكرت فيها مسألتان أساسيتيان: المظاهرات الجماهيرية في هونغ كونغ (والرد الضعيف للإدارة الأمريكية على اليد القاسية التي تستخدمها السلطات الصينية ضد المتظاهرين) والأحداث في روسيا، من القمع العنيف لمظاهرات المعارضة في موسكو وحتى الانفجار الغريب في موقع التجارب النووية.
المكوث لبضعة أسابيع في أمريكا كزميل أبحاث في معهد راند، قد يمكّن من تشخيص أجندة السياسة الخارجية الأمريكية. وهاكم عدداً من الأمور الأولية باختصار:
•المنافسة التكنولوجية هي اسم اللعبة. واشنطن قلقة من الميزان التجاري مع بكين، لكنها قلقة أيضاً من نوايا الصين حول رغبتها في الوصول في العقد القادم إلى هيمنة عالمية في عدد من المجالات التكنولوجية، منها الذكاء الصناعي، والروبوتات، وأنظمة البيانات وشبكات خلوية من الجيل الخامس. الأمريكيون يعتبرون خطوات الصين في هذه المجالات، التي تعتمد في جزء منها على التجسس الصناعي والسرقة الممنهجة، تحدي أمن قومي بالنسبة لهم. شركة الهواتف الخلوية “هواوي” بشكل خاص تعتبر خطراً ملموساً وفورياً من خلال الفهم أنه في اللحظة التي ستمنحها الدولة موطئ قدم في بناها التحتية، فهذا يعني “إبقاء أبواب خلفية”، وثغرات تخدم الصين في جمع معلومات مفيدة مستقبلاً. من هنا جاء التوجه إلى الشركاء الأربعة المقربين من الولايات المتحدة (بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا) التي تسمى معاً “العيون الخمس”، بطلب الامتناع عن عقد صفقات للهواتف المحمولة مع الصين. هذا طلب توسع مؤخراً ليشمل إسرائيل أيضاً.
الصين تقلق أكثر من روسيا، المنافسة مع الصين تضع بكين في المكان الأول من سلم الأولويات الأمني الأمريكي. المؤسسة الأمنية في واشنطن لا تعتبر حرباً مستقبلية مع الصين قدراً مصيرياً بعيداً عن ذلك، لكنه السيناريو الأول الذي يستعدون له ويتدربون عليه. سلاح الجو الأمريكي شخص هذا منذ زمن، في الوقت الذي ركز فيه سلاح المشاة على التهديد الروسي. وبسبب أن استراتيجية الأذرع تتعلق أيضاً بالصراع على تخصيص الموارد، فإن الجيش بتشجيع من المستوى السياسي، يزيد انشغاله ببكين. في الخلفية ثمة اعتبار آخر. القلق من الصين يعد إجماعاً استثنائياً للحزبين في واشنطن. والديمقراطيون بشكل عام يشاركون الخط الصقوري للرئيس. مواجهة موسكو أمر خطير جداً من ناحية سياسية، لا سيما بسبب الخلافات حول مستوى تدخل الروس في الجهود لترجيح كفة الانتخابات الرئاسية في 2016 لصالح ترامب (وعلى رأسها السؤال ما الذي عرفه عن ذلك رجال الرئيس؟).
• الاقتصاد الروسي قياساً مع الاقتصاد الصيني بطيء وهامشي تقريباً، وعلاقات القوى بين الولايات المتحدة وروسيا تميل بشكل مطلق لصالح الأمريكيين. قوة الرئيس فلادمير بوتين هي في قدرته على التخريب – احتكاك عسكري مبادر إليه في المواقع التي تم اختيارها بعناية، وهجمات سايبر، وتشويش على المسيرة السليمة للانتخابات في دولة ديمقراطية. صندوق الأدوات هذا، الذي أساسه حرب نفسية، يمكن روسيا من عكس قوة دولية بدون أن تخاطر بمواجهة عسكرية مع الأمريكيين، التي ستخسر فيها. على المدى البعيد، يمكن للمشكلات الداخلية أن تضعف النظام والاقتصاد، ولن يكفي فيها استعراض القوة العسكرية.
• الشرق الأوسط لا يهم الإدارة الآن، وطبقاً لذلك، الجيش أيضاً. التحرك الاستراتيجي الأمريكي الذي بدأ في عهد الرئيس اوباما استكمل في عهد ترامب. النظر يتركز الآن على الشرق الأقصى على حساب الشرق الأدنى. هذا متعلق بيأس أمريكا من المنطقة، بعد الحروب الطويلة والباهظة في أفغانستان والعراق، لكن أيضاً بالاعتماد المتناقص على النفط العربي كمصدر رئيسي للطاقة. لم تتبلور بعد الاستنتاجات النهائية بالنسبة لنجاح الجنود الأمريكيين باستئناف ضغط العقوبات على إيران، وإن الرافعات الاقتصادية التي استخدمت تعزز الفهم في طهران بأنه لن يكون هناك مفر من العودة إلى طاولة المفاوضات على صيغة معدلة للاتفاق النووي. ولكن إلى حين حصول ذلك، تجمع إيران أوراق مساومة سيكون ممكناً البحث فيها مع الأمريكيين.
في هذه الأثناء، لا تسارع إيران إلى المفاوضات رغم الرضى الظاهر من الإدارة تجاه خطواتها. والمماطلة كفيلة بأن تستمر عميقاً حتى سنة انتخابات في الولايات المتحدة. في المقابل، فإن قرار ترامب تقليص نشر القوات في سوريا يثير خلافاً شديداً بين الخبراء. فثمة محللون يرون في هذه الإجراءات تنازلات خطيرة تمس بصورة القوة الأمريكية في آسيا.
القدس العربي