يشن قطاع رئيسي من النظام العربي حربا مفتوحه على الإسلام السياسي وبشكل أساسي تيار الإخوان المسلمين. وبينما من الطبيعي أن تقع المواجهة بين الدولة وكل جماعة مسلحة، إلا إنه من غير الطبيعي أن تتواجه الدولة بعنف مع الإسلام السياسي السلمي المعارض لسياساتها كما هو الحال مع الإخوان المسلمين. لقد انتقل النظام السياسي العربي في السنوات منذ 2014 نحو الفاشية وضعف المقدرة على إدارة التنوع، بل أصبح الخوف هو المتحكم بالدولة على كل صعيد، وهذا بطبيعة الحال لا يبني الدول بل يهدمها ويقسمها. النظام العربي في هذه المرحلة الممتدة منذ 2012 في صدام مباشر مع التيار الإسلامي لكنه في صدام بنفس الوقت مع كل فئة وجماعة تمتلك قاعدة شعبية مهما صغرت وهذا يشمل الجماعات المؤثرة المنادية بحماية الحقوق واطلاق سراح السجناء والمبعدين وحماية الحريات. ان خوف النظام العربي من تحرك المجتمع وفئاته المختلفة كما حصل مؤخرا في السودان والجزائر هو المتحكم بسياسات النظام العربي.
لهذا فإن شيطنة الإخوان المسلمين عملية مدروسة تهدف لتصفية التيارات السياسة ذات المنحى الاستقلالي وشبه الاستقلالي عن النظام السياسي. لهذا يعطى التنظيم الإسلامي قوة أكبر من الحقيقة، ويتهم بأعمال لم يقم بها. الدول العربية في السنوات الاخيرة حولت الكثير من أجهزة القضاء والإعلام والتعليم والاقتصاد بل حتى المجتمع برمته والسجن والمؤسسات والعقوبة لأدوات مباشرة لملاحقة كل من ينتقدها. لقد قتل النظام العربي السياسة. وهذا لن يدوم كما تؤكد تجارب عديدة في التاريخ الإنساني الحديث.
إن الإيمان بالبديل الديمقراطي او بالإصلاح السياسي في حده الأدنى، سوف يعني، الإيمان بحق الإسلام السياسي في التواجد الى جانب كل القوى التي يتشكل منها المشهد العربي. الشأن العام يعني كل الناس، وهو فضاء تعاني الدولة العربية من عجزها في التعامل معه. إن سياسة عدد من الأنظمة العربية في الاجتثاث لا يمكن حصر نتائجها القادمة والراهنة، لكنها فوق كل شيء لانتشار التطرف وارتفاع حدة المواجهة مع آليات القمع. الاستنزاف سيكون سيد الموقف.
الدول العربية في السنوات الأخيرة حولت الكثير من أجهزة القضاء والإعلام والتعليم والاقتصاد بل حتى المجتمع برمته والسجن والمؤسسات والعقوبة لأدوات مباشرة لملاحقة كل من ينتقدها
إن تجربة الإسلام السياسي مع القمع والاجتثاث منذ 2014 لا يعفيه من ضرورة تطوير خطابه الديمقراطي والانساني وخطاب التنوع و الحريات. إن الاستبداد، كما قلنا في هذا المقال وسابقا في كل مقال، يمثل جانبا أساسيا مظلما، لكن الإسلام السياسي وخاصة تياره الأهم والأكبر الإخوان المسلمين يتحمل مسؤولية هامة في تمكين الثورة المضادة وعودة الجيوش والأمن لتصدر المشهد في مصر ودول عربية أخرى. التيار الإسلامي لم يكن مستعدا لما وقع في 2011، ولم يكن جزءا من المشهد الذي أدى للثورات، وعندما انتصرت الثورة في مصر في 2011 بالتحديد تصدر الإخوان المشهد ووقع تفاهم بينهم وبين الجيش، وقد أبعدهم هذا الوضع عن القوى الديمقراطية المصرية التي كانت جزءا أساسيا من تحالف الثورة. كان بإمكان الإخوان المسلمين في مصر قيادة الوضع باتجاه مختلف. لكن ذلك لم يكن بالأمر اليسير بسبب ضعف التجربة وضعف البنية الفكرية والثقافية للتيار.
يجب أن نتذكر أن التيار الإسلامي وتيار الإخوان انغمس لفترة طويلة في مسألة الشريعة وتطبيقها، وبسبب ذلك التركيز صرف الكثير من طاقته عبر سعيه لأسلمة القوانين والعلوم والبحوث والمؤسسات، بل ركز التيار لزمن طويل أثناء صعوده المؤثر في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين على قضايا تتعلق بالاختلاط في الجامعات، وشرعية القوانين ومدى تطابقها مع الشريعة الإسلامية. وفي هذا لم ينجح تيار الإخوان المسلمين الرئيسي في تطوير فكره وفي بناء فلسفة نقدية ورؤية لحالة الدولة العربية المترهلة، بل بسبب ذلك بقي التيار في الماضي بأكثر منه في الحاضر، ولهذا بالتحديد لم تأت الثورات في 2011 من خلاله.
لقد بقي فهم الإسلام السياسي للدولة محدودا ووظيفيا. واستمر في فهمه للدولة، وهي لب السياسية، على أنها كيان يمكن أسلمته بغض النظر عن رأي المجتمع. وقد انتجت لنا تلك التجربة الحالة السودانية في ظل تحالف الترابي الإسلامي والبشير في تسعينيات القرن العشرين. ورغم الفراق الذي وقع بين البشير والترابي في العام 1999، فان تلك التجارب، حول امكانية تعايش الإسلام السياسي مع الاستبداد وغياب الديمقراطية (طالما طبقت بعض الحدود الإسلامية) أنتجت مخاوف وسط قطاعات كبيرة من المجتمع ومن الطبقة الوسطى مما جعلها تنضم لمعسكر الثورة المضادة.
ان الموضوعات الأهم والأخطر التي يجب ان يتصدى لها تيار الإخوان الذي لازال يحظى بمكانة في العالم العربي ترتبط بكيفية التصدي للطبيعة الاستبدادية للدولة العربية؟ بل يجب ان يتضمن ذلك بلورة مشروع حقيقي حداثي لتطوير هذه الدولة وعلى الأخص في مجال الحريات والحقوق والبرلمانات والانتخاب والتمثيل السياسي والعدالة والمؤسسات وحيادية القضاء ودور الجيش والتداول على السلطة. كما يجب ان يتضمن الفكر الجديد تطوير حداثي لدور الشريعة في الحياة العصرية. كل ذلك يجب ان يتضمن رؤية واضحة للديمقراطية التي تستند على موضوعة «الشعب مصدر السلطات ومصدر القوانين والتشريع». ان ضياع التيار بين الدولة الحديثة والدولة الدينية وبين السياسة والشريعة أضاع فرصة التغيير في العالم العربي.
لقد دفع التيار الإسلامي العقلاني والأكثر مرونة ثمنا كبيرا بسبب ضعف مشروعه أمام هيمنة القوى الدولية وهيمنة الدولة المستبدة. لكن هذه المعاناة لن تحل ازمة التيار الإسلامي المعارض، فهو الآخر مضطر لينجح وليكسب المجتمعات او قطاعات كبيرة منها للقيام بمراجعات جادة. فحتى الان لازالت الاجيال السبعينية والثمانينية في قيادة التيار الإسلامي، ولازال التيار لا يمارس ديمقراطية في نقد وانتخاب قادته.
ان التجديد في الفكر السياسي الذي يتناول دور الدولة ومكانة الحقوق ودور الفرد والمجتمع يجب أن تكون سياسة اساسية لتجديد التيار الإسلامي. فأن لم ينجح التيار في التصدي لهذه الموضوعات الاساسية سيعاني من انشقاقات جدية قد تفرز قوى أكثر استعدادا للتحول من أجل استكمال مشروع الدولة وإنقاذها من نفسها ومن استبدادها.
القدس العربي