في حزيران/يونيو 2014م اجتياح تنظيم “داعش” الإرهابي الأراضي العراقية ، وانهارت أجهزة الأمن العراقية، مادفع العديد من المقاتلين المتطوعين إلى الانضمام إلى وحدات شبه عسكرية بدلاً من الجيش الواهن أو قوات الشرطة. هذه الوحدات شبه العسكرية المُتفرعة من الدولة تجمّعت تحت مظلة منظمة أُطلق عليها اسم قوات الحشد الشعبي بعد فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني بوجوب الجهاد الكفائي لتحرير العراق منه في 13 حزيران/ يونيو عام 2014م|، وعلى رغم أن الرقم المُحدد للحشد غير معروف، إلا أنه ربما يكون في حدود 60 ألف مقاتل، بيد أن مصادر أخرى تضعه بين 60 و140 ألف مقاتل. على سبيل المثال، يقول ناطق باسم الحشد إن المنظمة كانت تضم قبل نهاية العام 2016 نحو 142 ألف مقاتل يندرجون في نحو 50 مجموعة. لكن، وعلى رغم التضارب والالتباس حول الأعداد، وفي غياب أجهزة أمن رسمية قوية، ساعدت هذه المجموعة بنجاح على تحرير معظم بلدات ومدن العراق منذ تشكيلها.
وفي 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2016م، أقر مجلس النواب العراقي قانون هيئة الحشد الشعبي ،نص قانون الحشد على أن قوات الحشد ستكون قوة رديفة إلى جانب القوات المسلحة العراقية وترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة.وبحسب القانون يتألف الحشد من قيادة وهيئة أركان وألوية مقاتلة، ويخضع للقوانين العسكرية النافذة ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه
وبرور الوقت، حظي الحشد الشعبي، بمختلف فصائله، بتعاطف شعبي كبير خاصة بين الشيعة في جنوبي العراق؛ نتيجة انهيار الجيش في الموصل وغرب لكن عملية إعادة بناء القوات النظامية، والتي بلغت ذروتها في معارك تحرير الموصل من داعش عام 2017، أعادت الاعتبار للجيش العراقي وقوات النخبة فيه بين عموم العراقيين، بينما بدأت تتراجع شعبية فصائل الحشد في ضوء المواجهات السياسية التي قادت إلى إفشال حكومة حيدر العبادي ثم إسقاطه.
ومع ازدياد التوتر بين واشنطن وطهران، انتقل الحشد الشعبي عملياً إلى حشد فصائلي إقليمي مشارك في الصراعات الإقليمية والدولية.فقد ظلت الفصائل الموالية لإيران ظلت تبحث عن مناسبة جديدة تعيدها إلى الصدارة مرة أخرى؛ وقد وجدت في أزمة مضيق هرمز فرصة مهمة لتحقيق ذلك، مدفوعةً برغبة إيرانية في دفع المقاتلين العراقيين إلى القيام بدور بارز في المواجهة مع واشنطن، وخصوصًا مع دخول إسرائيل على خط الأزمة. وتعدّ إسرائيل في الوجدان العراقي عدوًا تاريخيًا اغتصب أرضًا عربية في فلسطين، وخاض معه العراق مواجهات في حروب 1948 و1967 و1973، مرورًا بقصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي عام 1981، وضرب إسرائيل بالصواريخ العراقية في حرب الخليج عام 1991. كما أن اقتحام السفارة البحرينية في بغداد في 27 يونيو (حزيران) 2019، الذي كانت وراءه فصائل مسلحة موالية لإيران، يدل على اندراج تلك «الميليشيات» شبه الرسمية في المعركة القائمة حالياً بين الأطراف المشار إليها بالشرق الأوسط.
ويبدو أن الاجتماع الذي عقد بطهران يوم 19 يوليو (تموز) الماضي، بين المرشد الأعلى علي خامنئي وكبار المسؤولين الإيرانيين من جهة، ووفد عالي المستوى من قادة الميليشيات من العراق وسوريا واليمن من جهة أخرى، هو واحد من المؤشرات البارزة لطبيعة الدور الإقليمي للفصائل المسلحة الموالية عقدياً وعسكرياً لإيران بالشرق الأوسط. كما أن هذا الاجتماع الذي أشارت وسائل إعلام عراقية إلى أنه ناقش أساليب الرد على الهجمات الإسرائيلية على العراق وسوريا، والتحذير من أن تصل لليمن أيضاً، قد يفسر المنهجية التي رد بها «حزب الله» اللبناني على إسرائيل بتاريخ سبتمبر (أيلول) الحالي.
ويمكن القول كذلك إن «الطبيعة الإقليمية للحشد الشعبي» ظهرت بشكل لا لبس فيه بعد فرض الولايات المتحدة الأمريكية لعقوبات قاسية على طهران، وظهور مؤشرات للمواجهة العسكرية بين الطرفين، إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الموقع مع إيران سنة 2015. وكرد فعل على التهديدات الأميركية، قامت فصائل «الحشد الشعبي» باستهداف السفارة الأميركية بصاروخ كاتيوشا، بتاريخ 19 مايو (أيار) الماضي، وكان الهدف الرئيسي من ذلك توصيل رسالة لواشنطن، مفادها أن الهجوم على طهران يعني مشاركة كل «أذرعها» العسكرية بالمنطقة في الحرب المفترضة، مما يعني أنها ستكون حرباً إقليمية واسعة النطاق.
هذه السياسة التي تدور في الفلك الإيراني، ورؤية «الحرس الثوري» لطبيعة الصراع الاستراتيجي بالشرق الأوسط، تخدم التعبئة الآيديولوجية التي تتضمنها التصريحات التي يطلقها قادة «الحشد الشعبي» بخصوص أميركا. ومن ذلك تصريح المتحدث العسكري باسم حركة «عصائب أهل الحق»، جواد الطليباوي، التي أكد فيها أنه «ليس بين (الحشد الشعبي) والأميركيين أي تواصل، وليس بيننا وبينهم إلا الدم… ليس بيننا وبينهم إلا القتل».
كما تهدف هذا السياسة إلى فرض تموقع جديد «للحشد الشعبي» يوازن بين خلق نفوذ صلب داخل دولة العراق الجديدة، وفي الوقت نفسه القدرة على لعب دور إقليمي قد يتجاوز قدرة الدولة العراقية نفسها، وهو ما يعني أن ضم «الحشد الشعبي» للقوات العراقية ليس سوى دورة جديدة من دورات بناء النفوذ، ومسك الشرعية القانونية والمؤسساتية، للبقاء تحت المظلة الإيرانية، بمباركة شعبية رسمية.
ينصبّ كثير من التركيز في الصراع الدائر على الساحة العراقية بين طهران وواشنطن حسب ما ترى التحليلات السياسية، على دور رئيس الحكومة عبد المهدي؛ فهو من جهة إسلامي التوجه، وسياسي عراقي مقرّب من طهران، لكنه من جهة أخرى يعدّ نفسه قوميًا عربيًا، وكان قبل ذلك يساريًا، قضى جزءًا من حياته في الغرب متمسكًا بالشراكة معه. وفي وقت يتهمه خصومه بالانحياز إلى إيران، يرسل الحرس الثوري الإيراني إشارات تنم عن عدم الرضا عن كثير من مواقفه. والواقع أن عبدالمهدي، يُجري فرزًا هادئًا للفصائل المسلحة الموالية لإيران، مستعينًا عليها بالجزء الآخر من الحشد الأقرب إلى مواقفه، بينما يتخذ مواقف رافضة لمحاصرة إيران واستهدافها. ولذلك يجد رئيس الحكومة نفسه في مناسبات عدة مضطرًا إلى اتخاذ قرارات ٍتقيّد نفوذ إيران وأخرى تقيّد حركة واشنطن، كما في قراره إخراج مخازن سلاح الحشد من المدن، وقراره حصر أذونات الطيران الحربي الأميركي بمكتبه بعد التفجير الذي وقع في معسكر للحشد في مدينة بلد. ويجد عبد المهدي صعوبات متزايدة في الاستمرار في هذا النهج الذي يُفقده ثقة إيران، ولا يكسبه ثقة واشنطن.
في الوقت نفسه، يرى متابعون للشأن العراقي يواجه عبد المهدي ضغطًا متزايدًا من الرأي العام العراقي، ومن رجال دين بارزين، مثل مقتدى الصدر وعمار الحكيم، إلى جانب قوى سياسية أخرى، للتحرّك ضد فصائل الحشد الشعبي، ليس في ملف الأسلحة فقط، بل بسبب تنامي دورها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المناطق المحررة من داعش، وخصوصًا الموصل. في المرحلة الراهنة، تحاول إيران تهدئة التوتر بين عبد المهدي وفصائل “الحشد” المحسوبة عليها، مخافةَ دفع عبد المهدي نحو واشنطن في ظروف مواجهة حساسة بالنسبة إليها، وهذا ما يفسر تواري أبو مهدي المهندس والتزامه الصمت ولو مؤقتًا لتفادي مواجهة مؤجلة.
بعد أن شهد العراق وحدة وطنية في مواجهة “داعش”، وشرع في إعادة بناء مؤسساته، بدأ يدور صراع حول السيادة العراقية إزاء النفوذيْن، الإيراني والأميركي (وبدرجة أقل إزاء محاولات السعودية بناء نفوذ لها)، ومسألة الولاء السياسي للحشد الشعبي السياسي هي أهم حلبات الصراع. وسيكون لهذا الصراع أثر بالغ في مستقبل العراق، وربما المشرق العربي عمومًا.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية