في خطاب ألقاه في مدينة سيوس في 4 أيلول، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن “لدى دول ما صواريخ مع رؤوس نووية متفجرة، لا واحد ولا اثنين. ويقولون إنه لا يمكن أن يكون لنا مثل هذه. أما أنا فلا أتفق مع ذلك”. ويضيف ويقول: “إسرائيل في المحيط، شبه جيران. وهم يخيفون أمماً أخرى في أنهم يمتلكونها. لا يمكن لأحد أن يلمسهم”. كان هذا هو تناول أردوغان العلني، المباشر والواضح الأول لإمكانية أن تختار تركيا مسار التحول النووي العسكري.
تعكس تصريحات أردوغان هذه رؤيته للوصول إلى قدرة نووية كتعبير عن مدى تطور الدولة. في الخطاب إياه أعتقد بأن “ثمة دول متطورة لا تكاد تملك هذه القدرة”، رغم أن الأمر ليس صحيحاً بالنسبة للسلاح النووي. فضلاً عن ذلك، فمنذ زمن بعيد وأردوغان يولي أهمية لتطوير صناعة السلاح التركي (لأهداف التصدير أيضاً)، ولبناء قدرات عسكرية مستقلة. تبرز في هذا السياق محاولة أنقرة اشتراط المشتريات العسكرية من جهات خارجية بالمشاركة في المعلومات. تناول أردوغان في الماضي الإشكالية الكامنة في امتلاك إيران لصواريخ ذات مدى بعيد، في حين لا توجد لدى تركيا. وبالفعل، فقد طرأ في السنوت الأخيرة تقدم لصناعة السلاح التركية في هذا المجال، مع أن تركيا تعهدت في الماضي بالالتزام بنظام ضبط تكنولوجيا الصواريخ (Missile Technology Control RegimeMTCR) وبموجبه لا ينبغي تصدير قدرات صاروخية في مدى أكثر من 300 كيلومتر، وعليه، كان ينبغي لها ظاهراً أن تبدي اهتماماً أقل في التقدم في هذا الاتجاه. أما الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة حول شراء منظومات الدفاع الجوي اس 400 من روسيا، والتجميد مشاركة تركيا في مشروع اف 35 في أعقاب ذلك في تموز 2019، فقد أكدت الإشكالية من ناحية أنقرة للاستناد إلى جهات أخرى لتحقيق قدرات عسكرية متطورة.
بالفعل، بصفة تركيا عضواً في الناتو منذ 1952، فإنها تتمتع بمظلة نووية. غير أنه في أثناء الحرب الباردة وبعدها أيضاً كانت لأنقرة شكوك حول مدى التزام باقي أعضاء الحلف تجاهها، وبخاصة الولايات المتحدة. تركيا من الدول القليلة في أوروبا التي لا يزال فيها سلاح نووي تكتيكي أمريكي، ويقدر بأن قاعدة سلاح الجو في انجرليك تضم نحو 50 قنبلة نووية من طراز بي 61 بقيادة أمريكية. بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا في تموز 2016، وفي إطارها كانت هناك محاولات تمرد داخل هذه القاعدة، وقطع توريد الكهرباء تماماً لبضعة أيام. في أعقاب ذلك، تصاعدت في واشنطن أصوات داعية إلى التفكير ببدائل عن انجرليك، سواء من ناحية استخدام مطارات أخرى في المنطقة لأغراض عملياتية، أم من ناحية استمرار حيازة القنابل النووية التكتيكية في الأراضي التركية.
يشذ تصريح أردوغان عن تصريحات سابقة له في الموضوع النووي، إذ إنه ألمح في هذه المرة بأن تركيا ستطور قدرات نووية عسكرية. لتركيا منذ اليوم برنامج نووي مدني لبناء نحو 10 مفاعلات للكهرباء، والمفاعل الأول الذي تبنيه الشركة الروسية الحكومية، روساتوم، وستشغله عنها، هو الآن في مراحل البناء. وبزعم منتقدي المشروع، فإن الشقوق التي ظهرت في الإسمنت الذي أعد لهذا المفاعل تعزز الموقف القائل بأنه لا يجب أن تقام في أراضي تركيا مفاعلات نووية لأنها معدة للهزات الأرضية. في الاتصالات التي جرت ضمن آخرين مع اليابان حول بناء محطات أخرى لتوليد الطاقة النووية، وجدت تركيا صعوبة في الحفاظ على خيار تخصيب مفتوح لليورانيوم، رغم أنه ليس لديها قدرة كهذه في الوقت الحالي. لقد أثار هذا الإصرار الاشتباه بأن لدى تركيا نوايا بأن تطور في المستقبل قدرات نووية، ليست للأغراض المدنية.
كما ينبغي لنا أن نرى تصريح أردوغان في السياق الواسع للأزمة في علاقات تركيا والولايات المتحدة في الوقت الحالي والمشاعر المناهضة لأمريكا في الدولة، والتي كانت من قبل، ولكنها احتدمت في أعقاب الاتهامات من جانب أنقرة بالتدخل الأمريكي في محاولة الانقلاب الفاشلة، وكذا دعم واشنطن للقوات الكردية التي تعمل في شمال سوريا. هكذا تآكلت الثقة التي كانت محدودة على أي حال في أن يأتي الناتو بالفعل لنجدة تركيا عند الحاجة. فضلاً عن ذلك، لا تثق أنقرة بالضمانات التي لديها وحسب، بل إن سياستها الاستفزازية نفسها تجاه الولايات المتحدة تسحب الأرض من تحت هذه الضمانات. إلى جانب ذلك، تقدر أنقرة بأن مكانة الولايات المتحدة في حالة خبو، والعالم يسير باتجاه منظومة متعددة الأقطاب ينبغي الاستعداد لها.
كما ينبغي أن نرى تصريح أردوغان الحالي كجزء من انتقاده الأوسع للشكل الذي تدار فيه الساحة الدولية والحاجة إلى الإصلاح في مجلس الأمن. هكذا، يمكن أن نرى ادعاءاته التي تقول إن الدول ذات القدرة النووية تضع عراقيل غير منطقية في وجه الدول التي ليس لديها قدرة كهذه، وهكذا تخلق نوعاً من “الاحتكار النووي”، وكذا كجزء من فكرة أن “العالم أكبر من خمسة”. منذ 2012 اتهم الأسرة الدولية بالازدواجية فيما انتقدت البرنامج النووي الإيراني “للأغراض السلمية” بينما تصمت على وجود “250 – 300 رأس نووي لدى إسرائيل”. في أيار 2018 صرح بأن التهديدات المركزية ضد دولته والمنطقة إنما هي من السلاح النووي، ويجب السعي إلى نزع هذا السلاح. وبينما ترى تركيا البرنامج النووي الإيراني بعين سلبية، فإن نهجها تجاه الموضوع مختلف جداً عن نهج إسرائيل والسعودية. تعتقد أنقرة أنه يجب التصدي لإيران بالمفاوضات، بل وعارضت انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. يمكن التقدير بأن أردوغان سيعود إلى الموضوع النووي، كجزء من انتقاده لانعدام النزاهة لدى الأسرة الدولية، بما في ذلك في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نهاية أيلول. ومع ذلك يشار منذ اليوم إلى أن تركيا موقعة على كل المواثيق المركزية المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك ميثاق منع نشر السلاح النووي (NPT) والبروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إن تصريح أردوغان في الموضوع النووي يغذي أحد المخاوف المركزية على خلفية وفي أعقاب الجهد الإيراني لتحقيق قدرة نووية عسكرية.. وضع مستقبلي للشرق الأوسط تكون فيه عدة قوى عظمى نووية. إن التغيير في المستوى الخطابي الذي يأتي من أنقرة، من الانتقاد لإسرائيل والدعوة إلى نزع السلاح النووي في المنطقة إلى التهديد بالانضمام إلى دائرة الدول ذات القدرة النووية لا بأس فيه، هو إشارة تحذير لدول المنطقة بل للقوى العظمى العالمية. إضافة إلى ذلك، لا تزال البنية التحتية في تركيا في الموضوع النووي هامشية، وعلنية موقف أردوغان من الموضوع يمكنها أن تجعل من الصعب على أنقرة التقدم في هذا الاتجاه، كون نشاطها سيفحص بمزيد من الاشتباه.
القدس العربي