فرنسا تقود حملة أوروبية صارمة للتصدي لسياسات تركيا

فرنسا تقود حملة أوروبية صارمة للتصدي لسياسات تركيا

اتّهمت تركيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنّه يتصرّف مثل “الديك الصياح” بعد انتقاده سجل أنقرة في مجال حقوق الإنسان، واتّهامه إياها باستغلال قضية المهاجرين للضغط على الاتحاد الأوروبي.

جاء الاتهام التركي على لسان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو الذي تجرّد من ضوابط اللغة الدبلوماسية في ردّه على حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يبدو أنه يقود حملة هدفها التصدّي للتجاوزات السياسية التي ترتكبها القيادة التركية، والتي تهدّد أمن دول الاتحاد الأوروبي.

وتعكس هذه الحملة تحوّلا أوروبيّا جديدا باتجاه مقاربة صارمة للعلاقة مع أنقرة تضع حدّا لتدخّل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شؤون البلدان الأوروبية، وتمنع استخدام الجاليات التركية في البلدان أوروبا كـ”لوبيات” ضغط تعمل لصالح أجندة أنقرة، كما تقطع على أردوغان طريق الابتزاز عبر ورقة اللاجئين السوريين.

تحرّكت باريس من قبل على عدّة أصعدة ضد السياسات التركية، وانتقدت مرارا موقف أنقرة الابتزازي في ما يتعلق بملفّ اللاجئين. وسبق أن اتّهم وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الرئيس رجب طيب أردوغان بالتلاعب سياسيّا بقضية قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، إلا أن الأمر يصل حدّ السجال الجاري حاليا بين باريس وأنقرة. ويرى متابعون أنّ أنقرة فتحت على نفسها النيران من خلال ردّ جاويش أوغلو الذي اعتبر أن “تطاول ماكرون على تركيا تجاوز للحدود”، وشبّه الرئيس الفرنسي “بديك يصيح وقدماه مغروستان بالوحل”.

وكان الرئيس الفرنسي قال في خطاب ألقاه أمام الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا في ستراسبورغ إن دولا أوروبية لا تزال تنتهك حقوق الإنسان الأساسية بعد مرور ثلاثين عاما على انهيار جدار برلين، معتبرا أنّ تركيا مثال على ذلك. ودعا ماكرون إلى اليقظة إزاء ما يجري في تركيا “حيث تتراجع سيادة القانون، وحيث تُطلق إجراءات قضائية بحق مدافعين عن حقوق الإنسان، وصحافيين وأكاديميين”.

الهجرة الوافدة
استثمر الرئيس التركي في قضية الهجرة مستغلاّ المخاوف الأوروبية من طوفان من اللاجئين من السواحل التركية، لينتزع خلال مفاوضات مع بروكسل قادها أحمد داود أوغلو رئيس وزرائه السابق الذي انشق عنه، مكاسب سياسية تتعلّق بالمفاوضات حول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وأخرى مالية بأن رفع سقف المبلغ المطلوب من 3 مليارات يورو إلى 6 مليارات يورو في ابتزاز صريح ضمن اتفاق الهجرة الموقّع في 2016.

وأثار الرئيس الفرنسي مشكلة الهجرة الوافدة عن طريق تركيا، معتبرا أن ثمّة تزايدا في أعداد المهاجرين الذين يغادرون تركيا إلى اليونان وإنه “يدرك تماما” ما تعانيه اليونان. وقال ماكرون ردا على سؤال طرحه نائب يوناني “أنت محقّ تماما بالقول إن تركيا تستخدم هذا الأمر وسيلة للضغط”، لكنه أَكد ضرورة التنسيق مع أنقرة. وذهب ماكرون إلى الغمز من قناة سياسات أردوغان في سوريا مؤكدا أنه “لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نسمح لضغوط تركيا أن تُملي علينا سياستنا في سوريا”.

ولا شكّ في أن الاحتكاك الأخير مع تركيا مرتبط أيضا بملفّ الطاقة. وتقود فرنسا حملة للدفاع عن حقوقها المتعلّقة، خصوصا بعمليات التنقيب التي تقوم بها تركيا في مياه قبرص الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي.

كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيس الوزراء اليوناني: لا يمكن لتركيا تهديد أوروبا بشأن ملف اللاجئين للحصول على المزيد من المال
كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيس الوزراء اليوناني: لا يمكن لتركيا تهديد أوروبا بشأن ملف اللاجئين للحصول على المزيد من المال
ويعتبر محللون فرنسيون أن جانبا أساسيا من السجال التركي الفرنسي مرتبط بهذا الملفّ، وأن تهديد تركيا بتفجير قنبلة المهاجرين بوجه أوروبا متعلّق أيضا بالموقف الأوروبي الأميركي الرافض لانتهاكات تركيا لقطاع إنتاج الغاز في البحر المتوسط.

وكان الرئيس الفرنسي حثّ تركيا قبل أشهر على وقف “الأنشطة غير المشروعة” في المنطقة الاقتصادية الخاصة لقبرص، وقال إن الاتحاد الأوروبي لن يتراجع في هذه المسألة. ومارس أعضاء بالاتحاد الأوروبي ضغوطا على تركيا للتخلّي عن خططها للحفر البحري للتنقيب عن الغاز الطبيعي، في رقعة تطالب بها السلطات القبرصية، باعتبارها جزءا من منطقتها الاقتصادية الخاصة حول الجزيرة.

وصرّح ماكرون، عقب قمة لرؤساء دول جنوب الاتحاد الأوروبي، بمالطا، في يونيو الماضي أن “الاتحاد الأوروبي لن يُظهر ضعفا في هذا الأمر”.

ويتوقّع أن يتطوّر السجال الفرنسي التركي باتجاه دول أوروبية أخرى ضاقت ذرعا من السياسة الاستفزازية التي تمارسها تركيا ضد الاتحاد الأوروبي. وسبق أن حثّت الحكومة الألمانية اليونان على إعادة المزيد من اللاجئين السوريين إلى تركيا على نحو أسرع، بسبب الأوضاع الكارثية في مخيّمات اللجوء بالجزر اليونانية.

وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية، شتيفن زايبرت، في برلين إن هذا الإجراء جزء من الحلّ، فيما طالبت منظمة برو أزول الألمانية المعنية بشؤون اللاجئين الإجلاء الفوري للاجئين من الجزر اليونانية، وتوزيعهم على دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، بينها ألمانيا على وجه الخصوص.

ورفض رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس “التهديدات” الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول احتمال تدفّق دفعة جديدة من المهاجرين نحو دول الاتحاد الأوروبي في حال لم تحصل أنقرة على المزيد من المساعدات الدولية، ودعاه إلى استخدام “لهجة تليق بحسن الجوار”.

وأعلن خلال مؤتمر صحافي في تيسالونيك (شمال) “لا يمكن للرئيس التركي تهديد أوروبا واليونان بشأن ملفّ اللاجئين للحصول على مزيد من المال (…) سبق أن دفعت أوروبا ستة مليارات يورو لمواجهة هذه المشكلة”. وأكد أنّ المحادثات مع تركيا “لا يجب أن تتمّ عبر اللجوء إلى تهديدات” بل من خلال التفاوض “بحسن نيّة” واستخدام “لغة تليق بحسن الجوار”.

هجوم معاكس

كما تعوّدت في مثل هذه المواقف، عمدت أنقرة إلى الهرب من الحقائق التي طرحها الرئيس الفرنسي بشنّ هجوم معاكس، حيث تحدث جاويش أوغلو عن احتجاجات السترات الصفراء، وقضية الحارس الشخصي لماكرون أليكساندر بينالا، الذي ظهر في إحدى اللقطات المصوّرة وهو يضرب متظاهرين في باريس، متجاوزا بذلك صلاحياته.

وتساءل جاويش أوغلو “كم عدد اللاجئين الذين استقبلهم ماكرون في بلاده؟”، مضيفا “بدلا من ذلك يستضيف باستمرار أعضاء تنظيم وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني في قصر الإليزيه”. وتعتبر أنقرة هذه الوحدات مجموعة إرهابية مرتبطة بـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي تصنّفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية.

وعلّقت وسائل إعلام فرنسية على الردّ التركي قائلة إن النظام في أنقرة يسعى إلى تصدير أزمته الداخلية باتجاه الخارج عموما والجار الأوروبي خصوصا، كما يسعى إلى التغلّب على أزمة تركيا الاقتصادية من خلال ممارسة صنوف من الابتزاز في التهديد بإعادة فتح المنافذ أمام الملايين من المهاجرين لاختراق الفضاء الأوروبي.

ويرى متخصّصون في الشأن التركي أن ردّ وزير الخارجية التركي يعكس جهوزية أنقرة لإخراج ملفّات معدّة سلفا حول العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي، واستخدام ملفّات داخلية وتسخيرها خدمة للبروباغندا التركية ضد أوروبا.

ويبدو واضحا أنّ اللهجة التي استخدمها الوزير التركي تندرج ضمن خطة جاهزة لفتح معارك خارجية بُغية التغطية على المعضلات الداخلية التي تنفجر الواحدة تلو الأخرى في وجه حكومة حزب العدالة والتنمية.

ويتوقّع أن تعلو أصوات أردوغان وحزبه أكثر في وجه كل من يوجّه لهما انتقادا، خاصة في الفترة القادمة مع تصاعد آثار زلزال الانتخابات المحليّة الأخيرة، بما في ذلك خسارتهما لمدينة إسطنبول في انتخابات جرت مرتين، وما أسفرت عنه من تصدّعات هائلة في بنية حزب العدالة والتنمية بعد استقالة قياديين فيه، وتأسيسهم لأحزاب أخرى بنفس المبادئ الإسلامية الأساسية التي قام عليها حزب العدالة والتنمية.

أمام هذا المأزق، لم يعُد أردوغان يعوّل على تسويق شعبيته من خلال إنجازات داخلية. وبات يعمل على إحداث ضجيج يرى أنه يرفع من شعبيته من خلال التهديد بالتدخّل العسكري في سوريا، أو من خلال السجال مع الولايات المتحدة في ملف المنطقة الآمنة شمال شرق سوريا، أو من خلال الإجهار بتحدّي العقوبات الأميركية ضد طهران، أو من خلال اتخاذ مواقف عدائية ضد مصر والسعودية وبعض دول الخليج العربي.

العرب