ينظر إلى الإجراءات التي قامت بها السلطات العراقية والفصائل الموالية، وما زالت تقوم بها، ضد وسائل الإعلام المختلفة بهدف ترهيبها وإيقافها عن تغطية المظاهرات التي انطلقت في 1 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وما زالت متواصلة، بوصفها إجراءات خطيرة وتعسفية.
ولم يسبق أن قامت الحكومات العراقية بعد 2003، بحملة ممنهجة ضد وسائل الإعلام مثلما فعلت الحكومة الحالية التي يقودها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، رغم خروج كثير من المظاهرات الاحتجاجية في السنوات الماضية.
وبنظر شريحة واسعة من الإعلاميين، فإن «مياه» الاحتجاجات الأخيرة، وما جرى فيها من تضييق واسع النطاق على حرية الصحافة والإعلام، كذبت، وبما لا يدع مجالاً للشك، «غطاس» الديمقراطية العراقية المزعومة.
المفارقة أن التضييق والمنع لم يشملا المؤسسات الإعلامية الخاصة فحسب، بل امتدا ليطالا المؤسسات الحكومية، حيث صدرت أوامر مشددة لوزارة الصحة بعدم الإدلاء بأي معلومات حول أعداد الجرحى والقتلى من المتظاهرين والقوات الأمنية.
«جمعية الدفاع عن حقوق الصحافة في العراق»، التي رصدت عشرات الاعتداءات التي طالت وسائل الإعلام والصحافيين، عدّت أن «أكتوبر سجل أسوأ أشهر حرية الصحافة في العراق منذ 2003».
وذكرت الجمعية في تقرير مطول أن «المظاهرات شهدت انتهاكات غير مسبوقة طالت الصحافيين والصحافيات في مجموعة من المحافظات العراقية» وسجلت الجمعية، عبر راصديها الموجودين في مجموعة من المحافظات، 89 حالة انتهاك لوسائل الإعلام والصحافيين.
وتوزعت تلك الانتهاكات على شكل «هجمات مسلحة واقتحام وإغلاق مقار ومكاتب 17 وسيلة إعلامية، وحالات تهديد بالتصفية طالت 33 صحافياً، واعتقال 8 صحافيين دون مذكرات قبض، وإصابة 14 صحافياً بالرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع، و28 اعتداء بالضرب ومنع التغطية». ولفت تقرير «جمعية الدفاع عن الحقوق الصحافية» إلى أن تلك الاعتداءات لم تصدر عن الحكومة أو الفصائل الموالية لها فحسب، بل صدر جزء منها من قبل بعض المتظاهرين.
وبحسب تقرير الجمعية، فإن أول تلك الانتهاكات والاعتداءات، وقع في 4 أكتوبر الماضي، حين قام محتجون بحرق مقر قناة «الأهوار» في محافظة ذي قار الجنوبية.
في اليوم التالي الموافق 5 أكتوبر، تعرض مقر قناة «دجلة» الفضائية ببغداد إلى الاقتحام من قبل جهة مسلحة، قامت بإضرام النار في أجزاء منه، بعد أن اعتدت بالضرب على العاملين، ومصادرة هواتفهم الجوالة. وبقت «دجلة» مغلقة حتى عاودت البث من العاصمة الأردنية عمّان بعد نحو أسبوعين من الحادثة.
كذلك، قام في اليوم نفسه المسلحون ذاتهم باقتحام مقر قناة (NRT) عربية وحطموا معدات التصوير وأجهزة الكومبيوتر ومركز البث، ما أدى إلى إيقاف إشارة الفضائية بالكامل، ثم اعتدوا على العاملين بالضرب والشتم، وحذروا العاملين من إعادة افتتاح القناة. ولم تعاود الفضائية بثها المنتظم حتى اللحظة.
وفي اليوم ذاته أيضاً، هاجمت القوة المسلحة ذاتها شركة إعلامية تضم مكاتب فضائيات «العربية» و«العربية الحدث»، و«الغد»، TRTالتركية).
المفارقة أن السلطات لم تتمكن إلا من اعتقال 5 أشخاص متورطين في تلك الحوادث، أفرج عنهم بكفالة قضائية في اليوم نفسه، بحسب تقرير الحكومة المتعلق بتقصي الحقائق عن تلك الاعتداءات، الذي صدر الأسبوع الماضي.
في يوم 6 أكتوبر، تعرض مقر قناة «الفرات» التابعة لـ«تيار الحكمة الوطني» المعارض، لهجوم من قبل طائرة مسيرة «درون»، استهدف أحد مباني الفضائية، وأدى إلى إصابة أحد العاملين فيها بجروح، كما خلف القصف أضراراً مادية ومالية جسيمة. وفي اليوم ذاته، أوقفت فضائية «الرشيد» إشارتها بأمر من مديرها، بعد تعرضها لتهديدات وضغوط سياسية.
كان المعول عليه أن تتوقف حملة التضييق على الفضائيات مع انطلاق الموجة الثانية من المظاهرات في 25 أكتوبر الماضي، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وتعرضت مرة أخرى قنوات ووسائل إعلام إلى الحرق والترويع والإيقاف؛ حيث قامت مجموعة مجهولة بحرق مقر إذاعة «الفرات» ومكتب إذاعة «الأمل» في محافظة الديوانية، كما أحرق مجهولون مكتب إذاعة «الأمر» في محافظة ميسان، وتعرض غير هذه المحطات والاذاعات إلى التضييق والإيقاف.
وأوقفت «هيئة الإعلام والاتصالات» شبه الحكومية بثّ قناتي «العربية» و«العربية الحدث» في بغداد، لادعائها مخالفة ضوابط ولائحة البث، كما قامت رسمياً بغلق مكتب قناة «الحرة» الأميركية في بغداد تنفيذاً لقرار سابق بغلقه.
وتقول «جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق» إنها سجلت حالة إصابة طالت الصحافيين والصحافيات بواسطة الإطلاقات النارية والمطاطية والقنابل المسيلة للدموع التي توجهها القوات الأمنية على جموع المتظاهرين.
على سبيل المثال لا الحصر، أصيب في 1 أكتوبر كادر قناة (NRTعربية) المكون من مصورين اثنين بقنابل الغاز المسيل للدموع أثناء تغطيتهم المظاهرات في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، كما تعرض عمر فالح مصور قناة «هنا بغداد» إلى إصابة خطيرة بقنابل الغاز المسيل للدموع نقل على أثرها إلى المستشفى.
وفي يوم 2 أكتوبر، أصيب مراسل قناة «أهل البيت» محمد الغزالي بطلق ناري أثناء تغطيته مظاهرات محافظة بابل.
ومع تجدد المظاهرات في 25 أكتوبر، أصيب مراسل قناة «السومرية» في بغداد هشام وسيم إصابة مباشرة وخطيرة في وجهة بقنبلة غاز مسيل للدموع أثناء تغطيته مظاهرات ساحة التحرير في بغداد، أدت إلى تشوهات خطيرة في أنفه ووجهه. كما أصيب مراسل وكالة (AP) خالد محمد باختناق وإصابات طفيفة أثناء تغطيته مظاهرات وسط العاصمة بغداد.
وفي 28 أكتوبر الماضي، تعرض 4 من الإعلاميين في محافظة كربلاء لإصابات نتيجة إطلاق القوات الأمنية قنابل غاز مسيل للدموع بكثافة عالية في ساحات التظاهر.
وحيال ما جرى من انتهاكات صارخة لطيف واسع من الصحافيين ووسائل الإعلام، لفت انتباه قطاع واسع من الصحافيين الصمت الذي مارسته «نقابة الصحافيين العراقيين» ورئيسها مؤيد اللامي، التي لم تصدر أي بيان حول الأحداث أو يعترض على طريقة تعاطي القوات الأمنية مع وسائل الإعلام. لكن «النقابة الوطنية للصحافيين العراقيين» أدانت ما تعرضت له المؤسسات الإعلامية والصحافيين خلال تغطية الاحتجاجات السلمية في بغداد والمحافظات الجنوبية.
وقال «المرصد العراقي للحريات الصحافية» في بيان إنه سجل «واقعاً مؤلماً لحرية التعبير وحق الوصول إلى المعلومة والحصول عليها بسبب الضغط الشديد من السلطات وجهات أخرى مارست دوراً تعسفياً في التعامل مع الصحافيين ووسائل الإعلام خلال المظاهرات».
بدوره، يرى رئيس تحرير «جريدة العالم الإلكترونية» منتظر ناصر، أن «ما جرى بعد 1 أكتوبر الماضي، أمر غير مسبوق في التعدي على الحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام».
ويقول ناصر لـ«الشرق الأوسط»: «قامت جهة مجهولة ظلامية بغارات على عدد من الفضائيات المحلية والعربية ومكاتبها بالعاصمة بغداد، وتهشيم ونهب محتوياتها، وضرب موظفيها وغلق أبوابها». ويؤكد أن الهدف كان «تكميم الأفواه وترهيب الصحافيين والإعلاميين وإخفاء الحقيقة عن متناول الناس».
ويضيف ناصر أن «ما جرى من تجاوز على وسائل الإعلام، إضافة إلى القطع الكامل أو الجزئي لخدمة الإنترنت، يشكل عودة قسرية إلى عهود الديكتاتورية السحيقة، وتراجعاً مخيفاً في سقف الحريات لولا شجاعة بعض الصحافيين والمدونين وصمودهم في وجه تلك الهجمة وفضحها دولياً».
وبرأي عميد كلية الإعلام في جامعة بغداد هاشم حسن، فإن «ما حدث من تضييق على وسائل الإعلام خلال المظاهرات يبرز الحاجة لمنظمات ونقابات مهنية مؤثرة وليست واجهات للسلطة، كما تأكدت الحاجة الماسة لإعلام وطني مستقل ينقل بأمانة وجرأة ما يجري في ساحات الاحتجاج».
ويضيف أن «مهاجمة المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية من عناصر مسلحة مع بدء الحراك الشعبي، وضعف دور الحكومة في توفير الحماية، قمعا حرية التعبير، واستكمل ذلك بحجب الإنترنت ومحاولة إجهاض الثورة. للأسف لم يكن لنقابة الصحافيين موقف صريح وفعال لتأمين حرية التغطيات الإخبارية الميدانية وأمن المؤسسات الإعلامية وحماية العاملين فيها».
ويرى الصحافي ورئيس التحرير السابق لجريدة «الصباح» شبه الرسمية فلاح المشعل، أن «سلوك السلطات العراقية امتاز بتوجهات وممارسات غير مسبوقة مع وسائل الإعلام تجاوزت ما يحدث في الأنظمة الديكتاتورية والدول الشمولية».
ويقول المشعل لـ«الشرق الأوسط» إن «الاعتداء بالضرب المبرح على العاملين في القنوات وتكسير الكاميرات والمعدات وسرقة بعضها وتهديد العاملين فيها، يعني رسالة تهديد لبقية القنوات ونوافذ الإعلام من إذاعات وصحف ومواقع وصفحات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي».