يُقال إن أحدهم توجه إلى رجل دين معروف بحكمته وبقدرته على إيجاد الحلول لجميع المشكلات، لينقل إليه شكواه وشكوى زوجته وأولاده من ضيق المكان، فقد كانوا يسكنون غرفة واحدة يستخدمونها لكل الحاجات. وكانت النصيحة التي تلقاها أن عليه إدخال بقرة إلى الغرفة، على أن يعود إليه (إلى رجل الدين) بعد أسبوع. استغرب صاحبنا الحل، بل واستنكره؛ ولكن أمام إلحاح رجل الدين رضخ للأمر الواقع، وأدخل البقرة إلى المكان الضيق أصلاً. وعاد في الأسبوع التالي، ليفاجأ بطلب غريب جديد، وهو أن يضيف إلى البقرة نعجة، على أن يعود بعد أسبوع. لم يناقش الأمر كثيراً هذه المرة، وفعل ما طُلب منه، وعاد بعد أسبوع ليصعق بطلب ثالث، وهو أن يضيف عنزة إلى البقرة والنعجة. اعترض المسكين على كلام رجل الدين، ولكن الأخير تمكّن بحكمته، وسلطته الأدبية من إقناعه؛ وكالعادة، كان عليه أن يعود بعد أسبوع. ونفذ الرجل الطلب الجديد، ولكنه لم يتحمّل أسبوعاً، إذ عاد بعد يومين، ليقول للحكيم بأن الحياة في المسكن قد باتت جحيماً، ولم تعد تطاق أبداً؛ فطلب منه إخراج العنزة والعودة بعد أسبوع. وعاد في الوقت المحدد، ليعلن بأن الأمور أصبحت أفضل من السابق بكثير، وهكذا أخرج النعجة، ومن ثم البقرة؛ وعاد في الوقت المحدد، ليؤكد أن المسكن قد غدا جنة، وأنه مع زوجته وأطفاله سعداء بوضعهم، ولم تعد لديهم أية شكوى بخصوص ضيق المكان.
هذه الحكاية سمعتها من صديق قديم في ديريك/ المالكية في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وما ذكّرني بها هو ما أقدم عليه حزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) مؤخراً بخصوص إعادة تسليم المناطق، التي كان قد سيطر عليها في الأساس بالاتفاق والتنسيق مع النظام، ومن ثم بدعم أمريكي، إلى النظام بالتنسيق مع الجانب الروسي، وبموافقة ضمنية من الجانبين الأمريكي والتركي. أما التبرير الذي قدمه الحزب المعني لخطوته تلك فكان بأنه أقدم عليها من أجل إنقاذ المنطقة وأهلها من التدمير والتهجير؛ فعمت الاحتفالات بين قسم كبير من سكان الحسكة وقامشلي، الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بممارسات وبهلوانيات الحزب المذكور و”إدارته الذاتية” التي كانت مجرد واجهة تضليلية للتستر على التحكّم المفروض من جانب كوادر حزب العمال الكردستاني بكل المفاصل، وبالتنسيق مع النظام بطبيعة الحال.
لقد دخل هذا الحزب إلى الساحة السورية بناء على صفقة أمنية مع النظام السوري وحلفائه، وتسلّم المناطق الكردية في صيف عام 2012 في إطار عملية وُصفت في حينها بالتسليم والاستلام؛ وها هو اليوم يعود لتسليم هذه المناطق إلى النظام الذي كان منذ البداية يراهن على إمكانية استعادتها في ظرف أيام إذا تغيرت الظروف والمعطيات. فهو في ذلك الحين كان يحرص كل الحرص على منع تفاعل الكرد مع الثورة، ويحاول تركيز جهوده العسكرية والأمنية على المناطق الداخلية، فسوريا كلها كانت في حالة ثورة ضده، وكان يتعرض في الوقت ذاته لضغط دولي كبير من مختلف الاتجاهات.
وها هو النظام يعود اليوم في صيغة المنتصر إلى المناطق ذاتها بعد مرور نحو تسع سنوات من معاناة العباد والبلاد القاسية الطويلة التي تمثلت في القتل والتدمير والتهجير. والأمر الواضح هو أن إخراج المشهد بهذا الشكل كان بفعل التوافقات التي كانت بين الروس والأمريكان، وعلى الأغلب معهم إسرائيل، حول ترتيب معين للأوضاع في سوريا، يظهر وكأنه الحل الذي طالما انتظره السوريون. حل يحافظ على النظام، ويقتصر على بعض التغييرات الشكلية، التي قد تشمل بعض الأسماء، إلى جانب مواد دستورية لن تفعّل قط في ظل تحكم النظام الأمني في مفاصل الدولة والمجتمع.
ويبدو أن تركيا، من خلال كونها طرفاً من أطراف مسار أستانا إلى جانب كل من روسيا وإيران، وبحكم علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، رغم كل الشد والجذب الذي كان بينهما، قد أُعطيت دوراً لتنفيذ جزء مما كان قد تم التوافق عليه. فالنظام قد عاد بصورة علنية إلى منطقة الجزيرة التي لم يكن قد غادرها أصلاً، وإنما كان قد أجرى عملية إعادة انتشار، إذا صح التعبير.
وما يُستشف من المعطيات والوقائع هو أنه لن تكون هناك حرب سورية-تركية. لأن الهجوم العسكري التركي الأخير يقتصر على المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين، وذلك لتعزيز الوجود التركي في الشمال السوري، ليكون ورقة تفاوضية في المرحلة القادمة التي ستشهد على الأغلب توافقاً دولياً على صيغة ما من حل لن يكون قطعاً في مستوى تضحيات وتطلعات السوريين، ولكنه سيكون القاسم المشترك بين المصالح والحسابات الدولية والإقليمية الخاصة بسوريا، ودورها المفتاحي في المنطقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف ستتعامل تركيا مع الوضع الجديد بعد الاتفاق الذي تم بين النظام السوري وحزب الاتحاد الديمقراطي بهندسة وإشراف روسيين؟
ما يستنتج من تصريحات المسؤولين على أعلى المستويات هو أن تركيا ليست في وارد مواجهة جيش النظام السوري، فالأتراك يبدون حرصهم على وحدة الأراضي السورية، وإبعاد حزب العمال الكردستاني عن الحدود.
والقراءة الأولية لهذه التصريحات، هذا ما لم تحدث مفاجآت أو انعطافات، هو أن الجانب التركي، وبالتوافق مع الروسي والإيراني، وحتى بالتفاهم مع الأمريكي، سيقبل في المرحلة الراهنة التي ستمتد إلى حين إيجاد مخرج عام للموضوع السوري، بالتعامل مع النظام، ولكن ضمن شروط ستكون مستندة على الأغلب إلى اتفاقية أضنة الأمنية 1998. وهذه هي الاتفاقية التي أُجبر نظام الأسد الأب حينها على توقيعها بوساطة مصرية، والتزم بموجبها بإبعاد عبدالله أوجلان وكوادر حزبه، كما التزم بمنع أي نشاط لحزب العمال على الأراضي السورية.
فوفق هذه الاتفاقية، التي قد تكون أساساً لاتفاقية جديدة تتناسب بنودها مع المتغيرات المستجدة، سيتم إبعاد عناصر حزب العمال الكردستاني عن الأرض السورية، وسيتم استيعاب قسم من عناصر الـ “ب. ي. د” السوريين ضمن الجيش السوري والميليشيات التابعة للنظام. وذلك وفق النموذج الذي كان في درعا وغيرها من المناطق السورية التي شهدت عمليات خفض التصعيد، وسيعود قسم آخر إلى أعمالهم، وربما يتعرض آخرون للسجن والمحاكمات من جانب النظام، بناء على اتهامات يستطيع النظام أن يخترعها ويلصقها بهم.
الخاسر الوحيد في العملية كلها هم السوريون، والكرد السوريون منهم على وجه التحديد. فهؤلاء قد اتهموا من قبل النظام والمعارضة بشتى أنواع التهم التي لا دخل لهم فيها، وإنما كانوا ضحية مشاريع النظام وحزب العمال والقوى الدولية، فهؤلاء أرادوا ضبط المنطقة، ومنعها من التفاعل مع الثورة، ولتحقيق ذلك استخدم عشرات الآلاف من شباب كرد سوريا وقوداً في مشاريع الآخرين.
المحنة كبيرة. والحاجة ماسة إلى جهود دولية جادة لتسليط الضوء عليها، والتحرك من أجل معالجتها، وإلا فالأوضاع ستكون أكثر سوداوية، الأمر الذي سيؤكد مجدداً بأننا نعيش عالماً بلا مبادئ أخلاقية رادعة، وأن الأزمة التي يعاني منها كوننا عميقة شاملة إلى حد كبير.