للشهر الثاني على التوالي تتواصل الاحتجاجات الشعبية للمطالبة بتحسين أحوال البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتفق المتابعون للشأن العراقي بأنها مطالب مشروعة، ومن جانبها أبدت الحكومة العراقية استجابة لحزمة كبيرة من تلك المطالب.
من المتعارف عليه في الأدب السياسي أن الاحتجاجات الشعبية يكون هدفها تغيير سياسات الحكومات بما ينسجم مع مطالب المحتجين، دون المساس بهيبة الدولة، والاحتجاجات بجوهرها شكل من أشكال الدولة المدنية، لكن أن تخرج الاحتجاجات عن مسارها السلمي لتتحول إلى مصدر قلق داخلي خطير يهدد أمن الدولة برمتها، هنا تخرج الاحتجاجات عن مسارها الصحيح.
وفي الحالة العراقية، لم تظهر الاحتجاجات بشكل رسمي بأن لها قائد أو خلفية حزبية، لكن واقع الاحتجاجات وما يرافقها من أحداث يشير إلى عكس ذلك، بأن هناك جهة ما وبشكل سري يعد بمثابة العقل “المسير” لها!
هذا يدفعنا للقول بأنه ليس من باب الصدفة أن يندفع المحتجون للسيطرة على الجسور الحيوية للعاصمة العراقية بغداد، وتهديد المرافق الحيوية في الدولة العراقية كاقتحام البنك المركزي العراقي أو تخريب أو هدم أو إتلاف أو احتلال مبانٍ أو أملاك عامة مخصصة للدوائر أو المصالح الحكومية أو المرافق العامة أو منشآت الدولة، ومنها إغلاق ميناء أم قصر في محافظة البصرة جنوبي العراق.
أمام هذا الوضع الخطير الذي يهدد كينونة الدولة العراقية، يا ترى ما هو المطلوب من عادل عبدالمهدي بصفته رئيس وزراء العراق، ومن القوات الأمنية العراقية، القبول بهذا الوضع؟! بالتأكيد لا حاكم على الاطلاق ليس في العراق فقط وإنما على المستوى الدولي يقبل بذلك، لأن الحفاظ على أمن الدولة الداخلي هي المسؤولية الأولى التي تقع على عاتق الحكومات ومنها الحكومة العراقية، ولكي لا نفهم خطأ ، فهذه ليست دعوة للحكومة لممارسة العنف ضد المحتجين، لكن لحفظ أمن الدولة العراقية، يستوجب على الحكومة العراقية أن تتعامل بحزم مع أي انحراف قد يطرأ على سياق الاحتجاج.
إن أي حكومة سواء في العراق أو في أي بلد آخر، لا تقبل باستبحاحة مؤسسات الدولة الحكومية وغير الحكومية، وإذا انزلقت الاحتجاجات إلى هذا المستوى فلا بد للحكومة من أن تدافع عن هيبة الدولة، وقد يسقط ضحايا من قبل الأجهزة الأمنية والمحتجين، وهنا تبرأ العقلية السرية التي تدير حركة الاحتجاجات في العراق والتي تطالب بالانتقام، وهذا أمر خطير جدا، لينتقل العراق بعد ستة عشر عام من معضلة العصبية الطائفية والمذهبية والعرقية إلى عصبية الانتقام ، فالانتقام لا يمت للإسلام بصلة، فهو يعود إلى عصر الجاهلية وقيم القبيلة السلبية ، ومؤسساتيّا لا يمت للمفاهيم المدنية والحداثة بصلة، وإنما يعود إلى عصر ما قبل الدولة.
لا يوجد حركة احتجاجية هدفها الاستمرار بها، وإنما الوصول إلى مبتغاها، وهذا يتطلب إجراء حوار جدي بين الحكومة العراقية ومن يمثل المحتجين، وعليهم أن يمارسوا ضغوطاتهم على الحكومة بشكل سلمي عبر الحوار، وهناك نماذج عربية ساهم الحوار بين الحكومة والمعارضة في خروجها من النفق المظلم، كالحالة السودانية، فالسودانيون أدركوا أن أمن السودان يأتي في قمة الأولويات، وأن الحوار الوطني قادر على حل المشلات العالقة، وهذا الحوار أيضًا يجب أن ينسحب على الحالة العراقية، فعلى الحكومة العراقية أن تسعى لكسب ثقة المحتجين عليها وإظهار صدق نواياها في تحقيق مطالبهم، وعليها أن تضع جدول زمني في تنفيذ مطالب المحتجين، وعليها أيضًا اقصاء الفاسدين في جهاز الدولة الإداري ومحاسبتهم على جرائمهم المالية والإدارية، وتغيير مفوضية الانتخابات وسن قانون جديد للانتخابات، كما عليها أن تقترح مشاريع قوانين تسهل على الشباب العراقي المشاركة السياسية الحقيقية في عملية صنع القرار السياسي في العراق، كأن يصبحوا نوابا في البرلمان أو وزراء في مجلس الوزراء.
إما أن لا نهتدي إلى الحوار ونضعه جانبّا، ونحتكم إلى الشارع “والعنف والعنف المضاد” ، وهذا يعني دخول العراق – لا قدر الله – إلى نفق مظلم، وهذا لا نقبله نهائيا لشعب كانت أرضه مهدًا للحضارة الإنسانية الأصيلة.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية