قبل 30 عاماً من الآن، تحطم جدار برلين سلمياً ليصبح رمزاً لانتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وبعد عامين انهار الاتحاد السوفياتي، وحلقت الآمال عالية بأن عصراً من السلام قد بدأ، وبأن الأموال الهائلة التي تُنفق سنوياً على سباق التسلح بين القوتين العظميين سوف تُوجه لمشاريع التنمية المحلية. توقع كثيرون حل الترسانة النووية بعد تحطم الشيوعية وزوال حلف وارسو. وبينما كان يجري إنزال العلم السوفياتي بشعار الشيوعية المميز “المطرقة والمنجل” من فوق مبنى الكرملين، أعلن الرئيس ميخائيل غورباتشوف في موسكو أن شبح اندلاع حرب عالمية لم يعد له وجود، وبعد أسابيع، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أن أميركا فازت بالحرب الباردة. لكن الصورة الآن عادت كما كانت من قبل، فالعلاقات الأميركية الروسية في أسوأ حالاتها، الإنفاق الدفاعي في البلدين وصل إلى أعلى مستوياته، تريليونات الدولارات تُنفق لإعادة تشييد الترسانة الاستراتيجية، اتفاقات الحد من الأسلحة النووية تنهار، عاد البلدان إلى السباق النووي من جديد، فما الذي حدث؟ وكيف تبددت فرص السلام وأحلام الوئام؟
وفقاً لموقع “ديفنس وان” الأميركي المعني بشؤون الدفاع، فإن الانهيار المأساوي للعلاقات الأميركية الروسية خلال العقود الثلاثة الماضية يعود لأسباب عدة، غير أن أبرزها تمثل في عاملين حطما الثقة الوليدة والهشة بين البلدين وهما، رفض واشنطن تقديم العون والمساعدة لروسيا في وقت كانت تعاني من أزمة اقتصادية هائلة، بل وركلت أميركا الدب الروسي المنهك من خلال توسع حلف شمال الأطلسي “الناتو” ليضم ثلاث دول كانت حليفة لموسكو هي بولندا والمجر وجمهورية التشيك.
وبالنسبة إلى روسيا التي كانت تُفكك امبراطورية أنشأتها عقب الحرب العالمية الثانية كي تحميها من غزو أجنبي مدمر كما فعلت بها ألمانيا النازية، فقد اعتبرت أن توسيع الناتو في حديقتها الخلفية بمثابة اعتداء وتهديد مباشر في منطقة تتعلق بأهمية وجودية.
جهود متعثرة
وعلى الرغم من جهود وزير الدفاع الأميركي آنذاك وليام بيري لبناء علاقة إيجابية مع موسكو، إلاّ أنّها باءت بالفشل، فقد كان الزخم السياسي قوياً من جانب الرئيس بيل كلينتون ونائبه آل غور اللذين اعتقدا أن بإمكانهما التعامل مع مشاكل روسيا، لكنها كانت حماقة تاريخية من وجهة نظر 40 من خبراء السياسة الخارجية والدفاعية الأميركيين، الذين وجهوا خطاباً مفتوحاً إلى الرئيس كلينتون انتقدوا فيه علناً توسيع “الناتو” باعتبارها خطوة مكلفة وغير ضرورية، ومع ذلك لم ينصت أحد لنصيحة هؤلاء الخبراء.
وعام 1998، قال جورج كينان، الخبير الأميركي في الشؤون الروسية ومؤلف كتاب “عقيدة احتواء الحرب الباردة”، إن توسع “الناتو” هو بداية حرب باردة جديدة وخطأ كارثي، لأن الروس سيتصرّفون بشكل عدائي وسيؤثر ذلك في سياساتهم، مشيراً إلى ضرورة إدراك أن خلافات الحرب الباردة بالنسبة إلى الولايات المتحدة كانت ضد النظام الشيوعي السوفياتي، ويجب ألاّ تتخلى واشنطن عن أناس صنعوا أعظم ثورة سلمية شجاعة في التاريخ لإزالة النظام السوفياتي.
تهديد على الحدود
وكما توقع خبراء السياسة والاستراتيجية في الولايات المتحدة خلال نهاية التسعينيات، اعتبرت روسيا أن توسع “الناتو” يشكل تهديداً خطيراً لها، وعندما أضاف حلف الأطلسي عام 2004 دول البلطيق الثلاث لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، رأت موسكو أن التهديد أصبح على حدودها مباشرة ما زاد توجسها ومخاوفها، بينما تجاهلت إدارة بوش الابن علامات القلق الروسية.
وعندما وصل الرئيس باراك أوباما إلى السلطة عام 2009، أعلن أنه سيعمل على إصلاح العلاقات الأميركية الروسية، ولفترة محدودة بدت بعض الملامح الإيجابية، إذ تم توقيع اتفاقية “ستارت” جديدة للحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية عام 2010 مع الرئيس ديمتري ميدفيديف الذي كانت لديه توجهات إيجابية حيال واشنطن، ولكن مع إعادة انتخاب فلاديمير بوتين للرئاسة عام 2012، بدأت العلاقات الأميركية الروسية مرحلة السقوط الحر، فقد اندلعت تظاهرات في روسيا ضد بوتين عقب الانتخابات الرئاسية التي اعتقد بوتين أنها مدبرة وممولة من الولايات المتحدة، وعندما وصل السفير الأميركي مايك ماكفول إلى موسكو، قالت وسائل الإعلام الروسية أن أوباما أرسله للإطاحة ببوتين.
إعادة المجد لروسي
في هذا الوقت، قرر بوتين دغدغة المشاعر القومية الروسية عبر خطاب معاد للأجانب بصفة عامة، وللولايات المتحدة بصفة خاصة على حد وصف الموقع الأميركي. وعام 2014، استضافت مدينة سوتشي دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في محاولة لخلق انطباع مبهر يؤكد للعالم أن روسيا قد عادت إلى مكانتها السابقة، لكن اتضح في ما بعد أن الرياضيين الروس تناولوا منشطات غير قانونية ومنعوا بسبب ذلك من المشاركة في دورة الألعاب الشتوية التالية في كوريا الجنوبية.
بعد ذلك، بدأت روسيا تدريبات عسكرية ضخمة في شبه جزيرة القرم، ثم حركت قواتها إلى شرق أوكرانيا، بل حاولت أيضاً إظهار عدائها للولايات المتحدة من خلال تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
عود على بدء
وهكذا، ما بدأ كعلاقة ود واعدة مع احتمالات كبيرة لتحسين الأمن العالمي وخفض مخاطر الأسلحة النووية، تحطم في النهاية على صخرة متحجرة لعب فيها توسع حلف “الناتو” ونشر صواريخ اعتراضية على حدود روسيا الدور الرئيس، وهو ما اعتبرته روسيا غزواً واستهزاء بها وبمصالحها. وفي حين أطلق غورباتشوف البالغ من العمر الآن 88 عاماً صيحة تحذير من أخطار أسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية مطالباً بضرورة تدميرها لإنقاذ كوكب الأرض، فإن الرئيسين ترمب وبوتين يسيران في الاتجاه العكسي وهو إعادة بناء الترسانات النووية وتدمير القيود الدولية عليها.
التعلم من أخطاء الماضي
وبينما يحتفل العالم بمرور 30 سنة على فشل الحرب الباردة بسقوط جدار برلين، يدعو خبراء وباحثون في واشنطن إلى التعلم من أخطاء الماضي التي بدّدت فرصاً ذهبية، فبعدما اكتشف الأميركيون أن الدب الروسي صار أليفاً، عادوا ليجعلوه عدواً من جديد. احتفل جورج بوش بالفوز وهزيمة الشيوعية، لكن الولايات المتحدة لم تربح الحرب الباردة، لقد خسر الجميع، وإذا لم تسلك الولايات المتحدة وروسيا طريقاً آخر، فستستمر الخسارة.