يرى ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، أن التأثير الروسي لن يتوقف فقط عند سوريا فقط. وقال إن الكثيرين في الغرب تعاملوا مع عودة روسيا إلى المسرح الدولي بمثابة المفاجأة، وليست جيدة. فبعد انهيار الإتحاد السوفييتي تم شطبه مثل ثلوج الأمس وتم النظر إلى روسيا بأنها دولة إقليمية أو محطة وقود تقدم نفسها على أنها دولة. وبعد سنوات لا تزال روسيا مصممة رغم العقوبات الدولية بسبب أوكرانيا، وانتصرت بشكل عملي في سوريا، وهي اليوم تأمر وتنهى في ذلك البلد، ورفع النصر من مكانتها في الشرق الأوسط، ودعم مزاعم موسكو لأن تكون قوة عظمى مرة أخرى.
ويقول ترينين إن من لديهم تجربة في الوقت الحالي عليهم التعود على الوضع حتى لو لم يرتاحوا إليه. فروسيا ليست دولة عظمى ولكنها تبرز كلاعب مهم مستقل. وسيكون لها أدوار مهمة في أماكن متعددة من العالم وفي الأوقات المقبلة. وبالنسبة للروس فهذا أمر طبيعي، ففي التسعينات من القرن الماضي عندما رأى العالم أن روسيا قد انتهت، لم يصدق قادتها، بل ونظروا لانسحاب الإتحاد السوفييتي من المسرح الدولي باعتباره فترة مؤقتة، وهو أمر عانى منه الروس سابقا واستطاعوا التغلب عليه. والسؤال هو عن الشكل الذي ستتخذه العودة الروسية إلى المسرح الدولي.
ففي بداية القرن الحالي شعرت موسكو بالخيبة من محاولات الدخول في المجتمع الأطلنطي- الأوروبي. وفشلت في إقناع الولايات المتحدة التعامل معها على قدم المساواة والتي لم تثر إعجاب واشنطن، مثلما تم تجاهل رغبتها باحترام مصالحها القومية، خاصة أثناء عمليات توسيع العضوية في حلف الناتو.
ومنذ بداية عام 2010 بدأ الكرملين برسم خط يقف على خط التضاد للسياسات الغربية السابقة. ومع التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا عام 2014 انتهت مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي شهدت سيادة غربية.
ولم يقد ضم شبه جزيرة القرم ودعم الإنفصاليين في دونباس، شرقي أوكرانيا إلى عودة روسية لغزو أوروبا الشرقية كما توقع البعض في الغرب. ولكنها أبعدت أوكرانيا وبقية الجمهوريات السوفييتية السابقة عن محالات الغرب توسيع الناتو. ولهذا كان التدخل في أوكرانيا بمثابة محاولة لبناء “حاجز أمني”، وكان بالضرورة عملا دفاعيا.
وهذا بخلاف التدخل الروسي في سوريا عام 2015 والذي كان مقامرة محفوفة بالمخاطر للمشاركة في تشكيل الجيوسياسة بالشرق الأوسط، المنطقة الصعبة للقوى الخارجية والتي خرج منها الإتحاد السوفييتي بعد حرب الخليج الأولى.
ومنذ ذلك الوقت فنتائج العملية العسكرية والدبلوماسية لم تربك النقاد للعملية ولكنها تجاوز توقعات فلاديمير بوتين نفسه.
ويقول ترينين إن الإنجازات الروسية في الشرق الأوسط تذهب أبعد من النجاح في سوريا. وقد انتفعت موسكو من شبه التحالفات المرنة مع تركيا وإيران وترتيبات أسعار النفط مع السعودية والعلاقات المتجددة مع مصر. وهي لاعب بآثار مهمة في ليبيا والقوة التي يتطلع الكثير من اللبنانيين إليها المساعدة والحفاظ على وحدة بلدهم. وبما لعبت دورا للوساطة الأمنية بين إيران ودول الخليج، وكل هذا في وقت احتفظت فيه بعلاقات حميمة مع إسرائيل. ويعتقد ترينين أن الدور الروسي في الشرق الأوسط مثال صريح على مشهد السياسة الخارجية الروسية. ولن يكون استثناء في الغد. فروسيا وبالتوازي مع الولايات المتحدة حاولت البحث عن طرق لتسوية الحرب في أفغانستان. وهذا يعني المناورة بين كابول وطالبان، باكستان والهند والصين والولايات المتحدة. وفي الشهر الماضي استضاف بوتين 43 زعيم دولة أفريقية بمنتجع سوتشي على البحر الأسود. وكانت هذه أول قمة روسية مع القارة الأفريقية التي تقدم فيها روسيا نفسها بالشريك الأمني. ويمكن فحص مصداقية الزعم عن الدور الروسي ليس من خلال التدخل في سوريا ولكن عبر الدعم السياسي الروسي للرئيس نيكولاس مادورو الذي لا يزال في السلطة رغم رفض 50 دولة لزعامته. وفي نفس الوقت أعادت كوبا التي تتعرض لضغوط من الولايات المتحدة تقوية علاقاتها مع روسيا، وبدا هذا من خلال زيارة رئيس الوزراء ديمتري ميدفيدف إلى كوبا وزيارة الرئيس الكوبي ميغول دياز كارنيل إلى موسكو. وتحاول موسكو التواصل مع الدول التي لا تحكمها أنظمة غير يسارية.
ولو كان الشرق الأوسط دليلا فالسياسة الخارجية النشطة ليست عن النظام العالمي ومكان روسيا فيه. فقد زحف الإتحاد السوفييتي حول العالم وأنفق أموالا ضخمة على قضايا أيديولوجية. وقد تعلمت الفدرالية الروسية من دروس الماضي، فعندما تتدخل في العالم فمن أجل مصلحة، حاجز أمني كما في أوكرانيا أو تعزيز المكانة كما في سوريا أو البحث عن المال في المناطق الأخرى.
ولا يوجد لدى روسيا خطة عظيمة ولكن انتهاز الفرص، وكل واحدة منها تقوم على الميزات الممنوحة. ولا تقوم روسيا بفرض أي نموذج طبقته في دولة على أخرى. وهنا المحذور، فروسيا تتصرف بطريقة أكبر من حجمها، فسياستها الخارجية ليست مدعومة بقوة اقتصادية مساوية. وليست لديها القوة التكنولوجية التي كانت في السابق. أما نخبتها الحاكمة فهي مشغولة بملاحقة المال لكي يكون لديها الوقت للتفكير بالمصالح القومية.
وبالطبع فالسياسة الخارجية الروسية لها ملامحها من الفشل والهزائم. فاختيار موسكو التعامل مع الإنترنت كسلاح للتأثير على السياسة المحلية في الدول الأخرى، أدت لاتهامات من دول شريكة مثل فرنسا وألمانيا وفشلت في خدمة أهداف روسيا. وبالنسبة للتدخل في الإنتخابات فمن الأفضل أن تتجنب روسيا التلصص على سياسة دولة أخرى، ليس لأن الرجل المهذب لا يتصرف بهذه الطريقة، ولكن لأن لا ثمرة منها بل خسارة. كل هذا لا يعني أن روسيا لن يكون لها تأثير بل هي هنا لتبقى، وعلى الآخرين التعامل معها كواقع والقبول بها ولكن بدون توقعات أو خوف. وفي عالم تتسيده المنافسة الأمريكية- الصينية فيمكن للاعبين الآخرين مثل روسيا لعب دور مهم لمنع مواجهة بين القطبين.