بهاء أبو العطا، القائد الكبير في الجهاد الإسلامي الذي صفي فجر أمس في عملية إسرائيلية في القطاع، عرف أنه يعيش في وقت مستعار. منذ بضعة أشهر ظهر اسمه علناً في الإعلام الإسرائيلي حين أشارت إليه أجهزة الأمن كمسؤول رئيسي عن إطلاق الصواريخ من القطاع. وعندما كانت الحماية الشخصية من حوله تشمل زوجته فقط من دون حزام دفاعي آخر من المواطنين، أطلق سلاح الجو صواريخ عليه لتصفيته. في الوقت نفسه، تم الإبلاغ عن محاولة اغتيال منسوبة إلى إسرائيل في دمشق. وثمة صواريخ أطلقت على شخصية كبيرة من المنظمة نفسها. في هذه الحالة تم الإبلاغ عن قتل ابن ذاك الناشط. حسب معرفتنا، يبدو أن الشخص نفسه، أكرم العجوري، من قادة الذراع العسكري للجهاد الإسلامي، نجا.
هاتان العمليتان أشعلتا جولة لكمات مع الجهاد في القطاع، الذي أطلق حتى المساء 200 صاروخ تقريباً على الجنوب والمركز، من غلاف غزة وحتى غوش دان، بدون إصابات. في المدى الأبعد قليلاً، فإن سير الأمور –تصعيد محدود لبضعة أيام أو مواجهة واسعة– مرتبط بمتغيرين أساسيين هما موقف حماس وعدد المصابين في الجانب الإسرائيلي.
نتنياهو ضغط على رؤساء أجهزة الأمن للمصادقة على عملية تصفية واسعة ضد قادة الجهاد في القطاع، وأبو العطا كان أبرزهم.
كان أبو العطا قائد اللواء الشمالي في الذراع العسكري للجهاد في القطاع. بعد الاغتيال قالت إسرائيل إنه شغل القائد الفعلي للذراع العسكري مؤخراً. ومهما كان الأمر، فإن جهاز الأمن يصفه بشخص مشاكس بصورة منهجية، ويعمل بشكل مستقل ولا يخضع لتوجيهات من أحد. لقد نسبت إليه المشاركة في إطلاق واسع للصواريخ في جولة التصعيد الأخيرة في أيار، وفي عمليات قصف محدودة أخرى، منها في نهاية آب (بعد هجوم إسرائيلي في سوريا)؛ وفي أيلول عشية الانتخابات الأخيرة (حادثة ألغت لقاء لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في أسدود)؛ ومسؤوليته قبل عشرة أيام عن إطلاق 11 صاروخاً على سديروت.
في أيلول، كما نشر في “هآرتس”، ضغط نتنياهو على رؤساء أجهزة الأمن للمصادقة على عملية تصفية واسعة ضد قادة الجهاد في القطاع، وأبو العطا كان أبرزهم. ولكن قيادة الجيش تحفظت من ذلك بذريعة التوقيت وخشية المس بالمواطنين. في نهاية المطاف، كان مطلوباً تدخل المستشار القانوني للحكومة، افيحاي مندلبليت، الذي طلب من نتنياهو عقد الكابنت للنقاش، بذريعة أن العملية يمكن أن تؤدي إلى حرب قبل أسبوع من موعد الانتخابات. العملية ألغيت، لكن قائد اللواء الغزي بقي على الهدف. ثم صودق على التصفية عليها نهائياً في جلسة من جلسات الكابنت بعد إطلاق النار على سديروت في بداية الشهر الحالي. هذه المرة تماشى الجيش مع نتنياهو، وحسب رواية الجيش فإنه ضغط نحو القيام بالعملية.
منذ ذلك الحين انتظروا الفرصة التي جاءت أخيراً فجر أمس. وتذكر هذه الأمور، بدرجة ما، بتصفية رئيس أركان حماس، أحمد الجعبري، في مثل هذا الأسبوع قبل سبع سنوات، وهي العملية التي كانت بداية عملية “عمود السحاب”. في حينه أيضاً بذلت جهود لتضليل وتنويم الجانب الفلسطيني رغم أن قرار الاغتيال كرد على تصعيد حماس، كان قد اتخذ قبل ذلك.
ما سيأتي لاحقاً، كما قلنا، مرتبط بدرجة كبيرة بسلوك حماس. من الأسهل كما يبدو على قيادة المنظمة في القطاع العيش من دون قائد اللواء من الجهاد، الذي شوش على جهود حماس لتمديد التهدئة والحصول على تسهيلات من إسرائيل بوساطة مصر وقطر. في المقابل، تصغي حماس لما يدور في أوساط الجمهور الغزي ولا يمكنها السماح لنفسها بالظهور كمتعاونة مع إسرائيل. وأعلنت حماس أمس تأكيدها على حق الجهاد في الانتقام دون أن تلزم نفسها الالتزام بالمشاركة في إطلاق النار. يبدو أن رئيس حماس في القطاع، يحيى السنوار، يفضل أن يبقي لنفسه مساحة من المناورة طبقاً للتطورات وعدد المصابين. كلما زاد عدد مصابي الجهاد وأعضاء الخلايا التي تزود الصواريخ لمطلقيها، بسبب هجمات سلاح الجو، يزداد خطر القيام برشقات أكثر شدة قد تؤدي إلى تصعيد واسع.
في بداية تشرين الأول عرض الجهاد الإسلامي بصورة استعراضية صواريخ في مسيرة أجراها في القطاع. وحسب أقواله، هي قادرة على الابتعاد حتى أبعد من شمال تل أبيب. لدى المنظمة آلاف الصواريخ التي معظمها للمدى القصير، لكنها تستطيع، كما أثبت أمس، إطلاق الصواريخ حتى على غوش دان، وكما يبدو على منطقة أبعد، حتى الخضيرة.
سؤال آخر مهم يتعلق بعلاقة هذه الخطوات مع إيران، والتي يتصاعد التوتر العسكري بينها وبين إسرائيل في الجبهة الشمالية في الفترة الأخيرة. وقال الجيش الإسرائيلي مؤخراً بأن أبو العطا يعمل بشكل مستقل دون الحصول على توجيهات من إيران. هذا رغم أن اتهام الإيرانيين بكل تطور سلبي في المنطقة هو جزء أساسي من صفحة الرسائل المعهودة لوسائل الإعلام الإسرائيلية.
حتى هذه الأثناء، يمكن لمحاولة (المنسوبة إلى إسرائيل) المس بشكل مواز بالقيادي من الجهاد الإسلامي في دمشق أن تشير إلى علاقة أكثر عمقاً للقيادة الإيرانية من خارج المناطق. أما العجوري، هدف التصفية في دمشق، فهو إرهابي مخضرم كان يعمل مستشاراً للنشطاء الشباب في القطاع. وسواء القيادة في دمشق أو النشطاء في القطاع، فهم مرتبطون بإيران التي تحول إليهم الوسائل القتالية وأموال الرواتب، وعلى الأغلب تحاول إملاء سياستها عليهم.
بموته أوصى بالوحدة
في الخلفية لا يمكن تجاهل السياقات السياسية للتطورات العسكرية. ضرر أبو العطا كان معروفاً ومعترفاً به. الجيش الإسرائيلي قال إنه كان ينوي الخروج إلى حيز تنفيذ عمليات إطلاق صواريخ وقنص في غلاف غزة في الأيام القريبة المقبلة. ومع ذلك، فإنه يمكن للتصعيد أن يدفع قدماً بالاتصالات السياسية. وبالنسبة لنتنياهو، هذا ادعاء ممتاز لجر حزب “أزرق أبيض” إلى حكومة وحدة. وكل من يعرف بني غانتس منذ سنوات خدمته الطويلة في الجيش يمكنه أن يشخّص دون صعوبة من لغة جسده (وأن يقرأ بين سطور تصريحاته) رغبته العميقة في أن يتقاسم المسؤولية في القيادة.
كبار “القيادة” الآخرين في “أزرق أبيض” يفكرون بطريقة أخرى، ولكن عندما يقتحم نشطاء اليمين بعملية محسوبة لقاءات علنية لرؤساء الحزب ويتهمونهم بأنهم يساريون يحبون العرب، فإن “أزرق أبيض” يتصبب عرقاً. وعندما تنطلق الصواريخ يقل، كما يبدو أيضاً، احتمال بلورة دعم خارجي للقائمة المشتركة لحكومة أقلية برئاسة غانتس.
عقد نتنياهو أمس مؤتمراً صحافياً فسر فيه اعتباراته حول المصادقة على الهجوم، دون التطرق مباشرة إلى الظروف السياسية. وقد رافقه رئيس الأركان افيف كوخافي ورئيس الشاباك نداف ارغمان. مكان وزير الدفاع الجديد، نفتالي بينيت، كان شاغراً في هذا الحدث كما يبدو.
لقد مرت أقل من ساعة، ثم أصدر مكتب وزير الدفاع بياناً عن تسلل الوزير الجديد لمنصبه، وفي أعقابه صورة يظهر فيها نتنياهو وبينيت، الخصمان القديمان، في مشاورات أمنية مشتركة مع رئيس الأركان. تشرّف بينيت بالإعلان عن حالة الطوارئ في الجبهة الداخلية حتى مسافة 80 كم من القطاع. هذه كانت طبعة محسوبة للخطوة المتسرعة إلى حد ما في هذا الصباح، التي عطلت فيها قيادة الجبهة الداخلية منطقة دان وأوقفت التعليم وأعفت بشكل نهائي عمالاً غير ضروريين من الذهاب إلى أماكن العمل.
تجنيد محدود
بعد عملية الاغتيال في قطاع غزة، بثت إسرائيل الرسائل التالية: هذه عملية جراحية محددة. لقد بذلنا جهوداً كبيرة لتقليص المس بالمدنيين. ومواجهتنا مع الجهاد الإسلامي فقط في هذه الأثناء ولا نية لنا لتجديد سياسة التصفيات. الخط الموحد بين التصريحات يقول إن إسرائيل ستعيش في سلام مع بضعة أيام من التصعيد المحسوب، وعندها ستسمح للطرف الآخر بالانسحاب والعودة إلى وقف إطلاق النار الذي ساد في السنة والنصف الأخيرة.
خلافاً لسياستها في السنوات الأخيرة، ركزت إسرائيل الهجمات على أهداف للجهاد وليس لحماس.
خلافاً لسياستها في السنوات الأخيرة، ركزت إسرائيل الهجمات على أهداف للجهاد وليس لحماس. لقد ظهر بوضوح أن جهداً بذل لإبقاء حماس خارج اللعبة. ووفقاً لذلك، كان تجنيد الاحتياط محدوداً جداً: بضع مئات من أوامر التجنيد أُصدرت لجهاز الدفاع الجوي وقيادة الجبهة الداخلية ووحدات الاستخبارات. إسرائيل لا ترسل إشارات بشأن تحضير حثيث لعملية برية. في هذه الأثناء تنتظر وساطة مصر على أمل أن تنجح هذه المرة أيضاً في تهدئة النفوس رغم التصفية الاستثنائية.
ولكن الدمج بين العملية التي في غزة والعملية المنسوبة إلى إسرائيل في دمشق، حتى في منطقة السفارات التي تعتبر محصنة تقريباً، يمكن أن يبين بأن هناك جسراً واحداً بعيداً جداً. النتيجة السياسية للأحداث قد تخدم نتنياهو وقد تكون مريحة لغانتس أيضاً. ولكن التداعيات العسكرية لم تتضح بعد بصورة كاملة، وسيطرة إسرائيل على التطورات بعيدة عن أن تكون مطلقة. وكما قلنا، هي مرتبطة كالعادة بصاروخ واحد: حادثة واحدة تخلف الكثير من المصابين يمكنها أن تقود المستوى السياسي لتغيير الاتجاه وتوسيع الهجمات على القطاع.