لم يكن تمرينا يسيرا البحث عن أدوار غائبة أو أخرى مغيبة لهذه الدولة العربية أو تلك. فإحدى جلسات النقاش التي استضافها “ملتقى أبوظبي الاستراتيجي السادس”، سعت إلى استيضاح تلك العودة المصرية للعب دور إقليمي لطالما غاب خلال العقود التي تلت الزيارة الشهيرة التي قام بها الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس وتوجهه بخطاب السلام أمام الكنيست الإسرائيلي.
لقد سبق وأن لعبت مصر أدوارا حيوية في تقرير مسارات العالم العربي إبان الفترة الناصرية، وأن شيئا يشبه رد الفعل شاب المراحل السياسية اللاحقة، ودائما لأسباب وحيثيات شتى. بيد أن الشائع أن عقيدة مراحل ما بعد الناصرية وضعت “مصر أولا” عنوانا عريضا للسياسة الخارجية المصرية، وانتهجت سلوكا بعيدا عن الأيديولوجيا.
وفيما اعتبرت القاهرة أن هذه البراغماتية باتت ضرورة استراتيجية لنسج علاقات مع العالم، لاسيما الجزء الغربي منه، فإن ذلك النهج أعطى مصر جرعات عالية من الانعزالية السياسية، بحيث غابت القاهرة أو انكفأت، ولعبت أنظمة “الصمود” دورا في ذلك، عن لعب أي دور فاعل مفصلي في التحولات الخطيرة التي شهدها العالم العربي.بيد أن ذلك الاتهام يشوبه قصور، ذلك أن سياسة مصر الإقليمية كانت تتقدم وتتراجع وفق ما تقتضيه المصالح المصرية فقط، وأنه كانت للقاهرة دائما مواقف ومقاربات أساسية ومؤثرة داخل المحيط العربي ومقررة داخل جامعة الدول العربية.
غياب مصري
يقول الدكتور عبدالمنعم سعيد، رئيس الهيئة الاستشارية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، إن السياسة الخارجية المصرية تقوم على مجموعة من الأطر، منها الاستراتيجي الذي يستهدف الحدود، وذلك انعكس في توقيع اتفاقات تعيين الحدود البحرية سواء مع السعودية أو اليونان وقبرص، إضافة إلى ذلك التعامل مع المناطق المجاورة، كالخليج، على أنها جزء من الأمن القومي المصري، إلا أن ذلك سيكون في حالات الدفاع.
ويعتبر سعيد أن مصر تعيش لحظة صعبة منذ عام 2011 وأن التحديات التي تواجه البلد تفرض على القاهرة خياراتها الاستراتيجية.
بيد أن الواضح أيضا أن فضاء مصر الاستراتيجي بات أضيق من ذلك الذي كانت تتحرك داخله مصر الناصرية. كانت حينها القاهرة تعتبر أن حدود مصر الاستراتيجية تتجاوز الحدود القانونية للبلد، وهو ما دفع حينها إلى اتخاذ مواقف قي اليمن أدت إلى الانخراط عسكريا هناك، كما مواقف من المغرب وتونس كما من العراق وسوريا ولبنان وغيرها.
ولا يغيب عن بال الباحث أن مصر ليست غائبة عن الدور الإقليمي، على الأقل بالنسخة التي تتكامل ولا تتناقض مع الأجندة الداخلية.
ويلفت الباحثون إلى أن لمصر موقفا خاصا من مسألة الحرب في اليمن، بحيث تضامنت مع الحلفاء وتعهدت بالدفاع عنهم دون انخراط مباشر وكلي في تلك الحرب. كما أن موقف القاهرة من الأزمة السورية كان متناقضا مع مواقف عربية في هذا الصدد ويأتي معاديا للموقف التركي مثلا. ناهيك أنه، وعلى الرغم من التحالف الذي يربط مصر بدول الخليج، لاسيما مع السعودية والإمارات، إلا أن موقف القاهرة من إيران بقي وسطيا منكفئا وبعيدا عن المواقف الواضحة التي اتخذتها الرياض وأبوظبي.
وبدا في الجلسة عينها أن العراق شاغل الباحثين في محاولة لفهم مجريات أحداثه المتصاعدة. وإذا ما كان البحث يرمي إلى استطلاع دور العراق في تغيير قواعد اللعبة الإقليمية، فإن ما تظهره شوارع البلد من انتفاضة مفاجئة ولافتة، وما يظهره النظام السياسي الحاكم من ارتباك في مواجهة هذا الاستحقاق ومن هلع من انقلاب شعبي عارم ضد كافة الأحزاب والتيارات السياسية، يرشّح العراق ليكون ميدان تحول إقليمي قد يأخذ أشكالا دراماتيكية.
رندا سليم: موقف واشنطن يعطل جلاء رؤية معالم أي تسوية في سوريا
رندا سليم: موقف واشنطن يعطل جلاء رؤية معالم أي تسوية في سوريا
ويقول الكاتب السياسي العراقي مشرق عباس إن الناس خرجوا ضد طبقة سياسية ومنظومة حكم هيمنت على العراق منذ عام 2003. ويعكس استخدام العنف خشية أحزاب وتيارات من فقدان امتيازات الحكم التي حصلوا عليها وفق قواعد التحالف مع إيران.
ويشير عباس أيضا إلى أن الشيعة في العراق يواجهون ما أرادت إيران فرضه من نموذج تريد لشيعة العالم أن يتبعوه. ومع ذلك يرى أن الحراك عراقي بامتياز، وإن كانت المشاركة الشيعية لافتة، مذكرا أن الحراك نتاج تراكم قديم ظهر في المحافظات الغربية السنية منذ سنوات.
ويضيف عباس أن “هناك سؤالا يثار بمجرد الحديث عن التأثير الإيراني في العراق، وهو لماذا لم تقم إيران بدعم تجربة شيعية عراقية تنجح في النهوض بالعراق، مع العلم أنه بلد ينعم بوجود احتياطي نفطي ضخم ونهرين ومقومات اقتصادية كبيرة؟”.
ويرى الكاتب السياسي العراقي أنه “لا توجد إلا إجابة واحدة على هذا السؤال، وهو أن إيران كانت تخشى أن يتحول هذا النموذج إلى ضد نوعي قد يتجاوز حدوده في التعامل معها”. ويستنتج أن إيران ما زالت تتأثر بالثقافة والتقاليد الصادرة من العراق أكثر من تأثر العراق، وهو المهيمن عليه من قبل إيران، بالثقافة والتقاليد الإيرانية.
ويرى باحثون أن خوف إيران الحقيقي مما يحصل في العراق، ومن قبل الغالبية الشيعية، يكمن في إمكانية انتقال نموذج العراق إلى إيران وكسر الجماد الملتصق بقدسيات أهمها قدسية الولي الفقيه.
إذا ما دار الجدل حول ماهية الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في الإقليم والدور المربك لقواعد اللعبة الإقليمية الذي يمكن أن يلعبه العراق، فإن النقاش حول سوريا خلص إلى استنتاج أن العالم العربي لم يعد يملك أوراقا للعب دور في تحديد مسار سوريا ومستقبلها، فيما تلعب دول أخرى أدورا مختلفة ومتناقضة وملتبسة في رسم إطار مستقبل البلاد.
مستقبل سوريا
مشرق عباس: الشيعة في العراق يواجهون ما أرادت إيران فرضه
مشرق عباس: الشيعة في العراق يواجهون ما أرادت إيران فرضه
الواضح، ومنذ سبتمبر 2015، أي حين بدأت روسيا عملياتها العسكرية في سوريا، أن موسكو مفوّضة، ولو بشكل غير معلن، من قبل المجتمع الدولي (والعربي أيضا) للتعامل عسكريا، ثم سياسيا مع الشأن السوري، وأن العواصم الكبرى لن تنخرط في السياق الذي وضعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا إذا قدمت موسكو وجبة متكاملة لإنهاء الصراع.
وعملية الوصول إلى تسوية قد لا تأخذ بعين الاعتبار هواجس السوريين أنفسهم، نظاما ومعارضة، طالما أن الفريقين باتا أوراقا بيد اللاعبين الخارجيين. فالتنافس جار بين الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وإيران وتركيا داخل شبكة معقدة من التحالفات والتناقضات التي تختلف من تفصيل إلى آخر، فيما العرب يغيبون تماما مستقيلين عن لعب أي دور مفصلي مباشر.
ويحاول الباحثون أن يتحروا شكل الاستراتيجية التي تنتهجها واشنطن في شأن سوريا، خصوصا أن البيت الأبيض بالغ في إعطاء مواقف متناقضة حول هذا الملف.
وتقول الدكتورة رندا سليم، وهي زميل أول ومدير “مبادرة حل الصراع وحوارات المسار الثاني” في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، “إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يكرر دائما الرغبة في سحب قوات بلاده من سوريا بشكل كامل، على الرغم من اعتراض فريقه على هذه الرؤية”، وبالتالي فإن موقف واشنطن الضبابي يعطل جلاء رؤية معالم أي تسوية مقبلة.
وتلاحظ سليم أن استبعاد العرب عن المسار السوري يتواكب مع تهميش دور الأمم المتحدة، مقابل الاعتماد على منصة أستانة دون غيرها. وتخلص إلى أن منصة أستانة، التي تشرف عليها روسيا، باتت مرجعا ينتظر منه العالم تسوية سياسية تكون مقبولة، لاسيما من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قبل أي تمويل لإعادة إعمار سوريا وإعادة اللاجئين.
العرب