ما يجري منذ أسابيع في العراق ولبنان من تظاهرات واعتصامات حاشدة أخذت منحى انتفاضات شعبية عارمة ضد الفساد المالي والإداري، وصلة ذلك بالمشروع السياسي الإيراني، علاوة على نجاح جهود السعودية بإنجاز “اتفاقية الرياض” ما بين الحكومة الشرعية اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي لتوحيد الصف ضد الحوثيين الانقلابيين، وانطلاق الشرارة في محافظة درعا بهتافات “إيران برّا برّا سوريا تبقى حرة”، فكلها عوامل متزامنة وخطيرة تؤكد تآكل المشروع الإيراني في المشرق العربي.
العراق
وفق النهج السلمي للتظاهرات، عمل الشباب العراقي بشكل متوازٍ ما بين العمل الميداني، الذي أوجب تقديم التضحيات الجسيمة، وبين العمل النظري سّيما في صوغ المطالب التي يهدف إلى تحقيقها. إذ إن اللجان التنسيقية في المناطق والمحافظات، وتنسيقية ثوار شعب العراق، واللجنة التنظيمية للتنسيقيات، كلها مجموعات منبثقة من داخل الحراك الشعبي، من دون أن تكون لها قيادة معينة ومحددة، كونها رد فعل طبيعي وعفوي لشباب انتفض من أجل وطنه وحاضره ومستقبله، ولهم القدرة على إدارة الحراك بحكم جذورهم التاريخية والحضارية.
ولقد أصدر الشباب المنتفض أكثر من بيان يحددون فيه مطالبهم، يمكن إيجاز مجملها بما يلي:
إسقاط الحكومة، حلّ مجلس النواب، تغيير الدستور، تأسيس جيش وفق العقيدة الوطنية، إلغاء الأحزاب السياسية الحاكمة والمجموعات المسلحة والمحاصصة الطائفية والأجهزة الأمنية، منع رجال الدين من أي سلطة أو عمل سياسي، إجراء انتخابات مبكرة تحت إشراف أممي ومنع الأحزاب التي شاركت في العملية السياسية منذ 2003 من المشاركة فيها، إغلاق الحدود مع إيران حتى يقرر الشعب إعادة فتحها.
تلك المطالب الآنفة الذكر، دفعت مجموعة عراقية من المتخصصين وفقهاء القانون إلى وضع حل دستوري للأزمة الراهنة. ترتكز رؤية هؤلاء الرئيسة على مخارج تلتقي بعضها مع مطالب الشباب المنتفض، خصوصاً في ما يتعلق بتعطيل الدستور الحالي، وكتابة دستور جديد للبلاد.
صفوة القول، إن الموقف العام لدى الشباب المنتفض اليوم، يأتي متناغماً ومكملاً لِما كانت تطالب به فصائل المقاومة العراقية وقواها المدنية، وذلك بإسقاط العملية السياسية، التي أوجدها المحتل الأميركي، وهيمن عليها النظام الإيراني، وإلغاء كل ما نتج وتمخض منها من دستور وقوانين وتشريعات. إذ بعد 16 عاماً، أدرك الشباب الصاعد مكامن العلّة المزمنة في البلاد، لذلك عندما رفع صوته عالياً في هتافاته، “الشعب يريد إسقاط النظام” و”إيران برّا بّرا بغداد تبقى حرة”، إنما يؤكد أصالة جذوره في روح المقاومة ضد المحتلين والدخلاء والعملاء. إن إصرار الشباب بالمضي قُدّماً في تحقيق أهدافهم، واستعدادهم لتقديم المزيد من التضحيات، برهان ساطع على تآكل المشروع الإيراني في العراق.
لبنان
من أهم ما يميز التظاهرات اللبنانية المتواصلة منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أنها شملت جميع أطياف ومكونات الشعب من أقصاه إلى أقصاه شمالاً وجنوباً، مما يعكس حالة الأذى والمعاناة الحياتية والاجتماعية والمعيشية بسبب استفحال الفساد في الحكومة والسلطات الإدارية، جراء أحزاب الطوائف الحاكمة، سواء المرتبطة بالمشروع الإيراني أو المتعاونة معها في إدارة البلاد.
هذا الوضع الجمعي حرك روح الهوية الوطنية، كونها المرجعية الشاملة لعموم الشعب في مواجهة الأخطار على الصعيدين الداخلي والخارجي. وبما أن التظاهرات ضد الفساد وزعماء الأحزاب ونفوذ إيران، فإن هذه القواسم المشتركة مع تظاهرات العراق، أعطت بُعداً قومياً لمجابهة المشروع الإيراني، وصنائعه الذين يقدمون المصالح الإيرانية على مصالح الوطن والشعب.
إن تهديدات حسن نصر الله للمتظاهرين السلميين، واعتداء عناصره بالعصي وتحطيم الخيام وإشعال النيران فيها، لفضّ الاعتصامات بالقوة، نسخة أخرى من أمن الحشد في العراق، وكلاهما يتّبع الولي الفقيه القابع في طهران. إن النظام الإيراني يعي خطورة الحراك الشعبي العربي ضد وكلائه وأتباعه، إنه تآكل المشروع السياسي القائم على النزعة الطائفية البغيضة والمقيتة، الذي حسبت إيران أنها قد بسطت نفوذها وسيطرتها لأمدٍ سيطول، ويمكّنها مستقبلًا من تشييد أحلامها الفارسية بغطاء الإسلام السياسي.
السعودية
على الرغم من أن السعودية تجابه التمدد الإيراني في المنطقة العربية، وقادت تحالفاً عسكرياً عربياً لمجابهة الحوثيين وبقية الانقلابيين على الشرعية في اليمن، وحققت الكثير في هذا الصدد، إلا أن نجاحها في “اتفاقية الرياض” يُعدّ تحولاً مهماً ومنعطفاً تاريخياً كبيراً، لأنه وحدّ الصف الداخلي ضد العدو الخارجي. فما يجري في العراق ولبنان من حراك شعبي هائل يتصل بسلبية النظام الإيراني، قد أكدت السعودية في “اتفاقية الرياض”، التي جاءت واضحة وجلية على أن المشروع الإيراني يتآكل عربياً.
لذلك تجد أن الاهتمام باتفاقية الرياض امتد يمنياً وعربياً ودولياً. فالاستقرار السياسي والبناء الاقتصادي لليمن بالقدر الذي يعكس الإيجاب على المستويات الداخلية والخارجية، فإنه يعكس السلب للحوثيين والمشروع الإيراني. وكما تحركت فصائل الحشد وقوات إيرانية في العراق، وعناصر حزب الله وحركة أمل في لبنان، ضد الرافضين للواقع السياسي الفاشل، فإن جماعة الحوثيين عملت الأمر نفسه. إذ بعد التوقيع على الاتفاق بين الأطراف اليمنية، استمرت بعدوانها وقصفت مواقع بمنطقة المخا، ومنها مستشفى مدينة المخا في محافظة تعزّ على الساحل الغربي لليمن، وتم تدمير المخزن الكبير الذي يحوي مستلزمات طبية، إمعاناً منها في مواجهة الحكومة الشرعية.
إلا أن قادم الأيام سيثبت أن المشروع الإيراني لا محال آخذ نحو التآكل في البلدان العربية، فالدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت على أرض العراق تلتقي بأهدافها مع ما يجري في لبنان واليمن وسوريا. واستخدام القوة والعنف ضد الذين يرفضون الفاسدين الموالين لإيران، إنما ناتج من هلع وخوف من الإرادة الشعبية، التي لن تهدأ وتستكين إلا بتحقيق أهدافها التي خرجت في سبيلها.
اندبندت العربي