لعبة القواعد العسكرية بشمال سوريا.. صراع النفوذ وتشابك القوى والمصالح

لعبة القواعد العسكرية بشمال سوريا.. صراع النفوذ وتشابك القوى والمصالح

شكل إعلان تركيا في 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بدء عملية “نبع السلام” العسكرية لإنشاء منطقة آمنة بعمق الأراضي السورية وطرد الوحدات الكردية من حدودها الجنوبية منعطفا جديدا في مسار الأحداث بالمنطقة المستهدفة على مدى أكثر من شهر، ربما يخلط الأوراق بين القوى المتنافسة في صراع النفوذ والسيطرة، وسط تشابك عوامل المصالح والحسابات بين اللاعبين الأساسيين الثلاثة الولايات المتحدة وروسيا وتركيا.

فما كادت تلك العملية تبدأ حتى باشرت القوات الأميركية (الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية وعمودها الفقري وحدات حماية الشعب الكردية) بالانسحاب من بعض القواعد العسكرية المنتشرة في عمق المنطقة المستهدفة تركيًا، بيد أن هذا الأمر لم يستمر طويلا ليعود ضغط واشنطن على أنقرة لإنقاذ حلفائها الأكراد الذين تراجعوا أمام الهجوم التركي باتفاق لوقف النار يمنح مهلة أيام لانسحاب الوحدات الكردية من المنطقة مددت لاحقا لأيام أخرى في ظل تلكؤ أميركي في تنفيذه.

ودفع غموض موقف واشنطن -إزاء “حلفائها الأعداء” الأتراك والأكراد- الجانب الكردي لفتح قناة تفاوض مع نظام بشار الأسد كللت باتفاق للوقوف أمام المد التركي بمباركة روسية.

في المقابل لجأت أنقرة إلى موسكو التي استغلت الوضع وعرضت عليها تفاهمات لإبعاد الوحدات الكردية عن الحدود وتسيير دوريات مشتركة تركية روسية، وهو ما حدث فعلا. وبالتالي وقف التمدد التركي -ولو بشكل مؤقت- الذي كان يتوقع أن يصل الحدود العراقية وعلى طول 480 كلم وعمق 30 كلم هو حجم المنطقة الآمنة التي حددتها تركيا شرق نهر الفرات.

وإزاء هذه التطورات سارعت واشنطن بعدما أعلنت سابقا انسحابها من شمال سوريا لإعادة تموضع قواتها بالمنطقة، بل وعادت إلى بعض القواعد التي انسحبت منها في وقت سابق وعززت قواعد أخرى. وقد بررت خطواتها تلك بضرورة حماية آبار النفط السورية وعدم وقوعها بأيدي النظام السوري أو روسيا التي اتهمت واشنطن بسرقة هذا النفط.
وفي ظل خلافات تركية روسية ظهرت بتناقض التصريحات حول انسحاب الوحدات الكردية من الشريط الحدودي السوري مع تركيا بين تأكيد موسكو ونفي أنقرة قبل يومين وتزامنا مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لواشنطن ولقائه نظيره دونالد ترامب، أعلنت روسيا بشكل مفاجئ وسريع أمس الخميس إنشاء قاعدة عسكرية جديدة بمدينة القامشلي التي يتقاسم السيطرة فيها الوحدات الكردية والنظام السوري (في عمق المنطقة المستهدفة تركيًا).

وبهذا التطور الأخير ربما تعيد موسكو رسم خريطة السيطرة مجددا بعدما استحوذت على بعض القواعد والنقاط العسكرية التي أخلتها واشنطن على مدى الأسابيع الماضية في شمال وشمال شرق سوريا.

تشغيل الفيديو

التمركز الأميركي
بدأ عمليا على الأرض السورية بقواعد ونقاط عسكرية لدعم الوحدات الكردية عام 2015، والسيطرة على مناطق هيمن عليها تنظيم الدولة الإسلامية.
وحتى إلى ما قبل “نبع السلام” كانت تنتشر القوات الأميركية في 23 قاعدة ونقطة عسكرية يتمركز فيها زهاء ألفي جندي.

وتتوزع المواقع العسكرية الأميركية بسوريا قبل “نبع السلام” كالتالي:
• خمسة مواقع بمحافظة الحسكة (شمال شرق) منتشرة في مناطق رميلان والوزير وتل بيدر وصوامح صباح الخير، والشدادي

• أربعة بمحافظة دير الزور (شرق) منتشرة في مناطق حقل العمر النفطي، حقل كونكو للغاز الطبيعي، حقلي الجفرة، والتنك للنفط والغاز الطبيعي.

• خمسة في الرقة (شمال شرق) منتشرة بمناطق الطبقة وحاوي الهوا وجزرا ومعمل السكر وعين عيسى.

• خمسة مواقع في عين العرب (كوباني) التابعة لمحافظة حلب (شمال) منتشرة بمناطق خراب العشق والسبت والجلبية ومشتى نور وصرين.
اعلان

• ثلاثة في منبج التابعة لمحافظة حلب (شمال) منتشرة في مناطق السعيدية، الدادات، الصوامع.

• قاعدة التنف وفيها قوات أميركية وأخرى للتحالف في جنوب سوريا بمثلث الحدود الصحراوي مع الأردن والعراق.

وبحسب مصادر إعلامية تركية ومحلية سورية فإن القوات الأميركية انسحبت من 16 قاعدة ونقطة عسكرية خلال “نبع السلام” ابتداءً من منبج مرورا بعين العرب والرقة وصولا إلى الحسكة.

ورغم انسحاب القوات الأميركية من كافة قواعدها ونقاطها في الرقة ومنبج وعين العرب، أبقت على وجودها في دير الزور الغنية بالنفط، وقواعدها في الحقول النفطية بالحسكة.

وقد انسحبت من قواعد ونقاط تل البيدر وصوامع صباح الخير والوزير في الحسكة، والطبقة وحاوي الهوا وجزرا، ومعمل السكر وعين عيسى في الرقة، وخراب العشق والجلبية والسبت، ومشتى نور وصرين في عين العرب، إضافة إلى السعيدية والدادات، والصوامح في منبج.

وقبل “نبع السلام” بأيام، أخلت القوات الأميركية أربع نقاط مراقبة على الحدود مع تركيا، لكن الجيش الأميركي عاد إلى ست قواعد ونقاط عسكرية بعد توقف العملية التركية حيث عادت القوات الأميركية لكافة قواعدها بالحسكة، وقاعدة صرين جنوبي عين العرب لكنها انسحبت منها لاحقا، كما أعادت قواتها إلى قاعدة جزرا بالرقة، وأرسلت عددا قليلا من الجنود لحماية قاعدة معمل السكر في وقت لم تعد فيه إلى منبج أبدا.
اعلان

وبحسب مصادر محلية ووسائل إعلام تركية رسمية فإن الولايات المتحدة بدأت هذا الشهر بناء قاعدتين في دير الزور، وإرسال تعزيزات إلى هناك بلغ قوامها ما بين 250 وثلاثمئة جندي، إضافة إلى آليات ومصفحات وراجمات صواريخ.

كما تستعد قوات أميركية للتمركز في قاعدتين عسكريتين جديدتين بمحافظة الحسكة -التي تمتلك فيها أصلا خمس قواعد- في منطقة قريبة من حقول النفط.

وخلال الأيام القليلة الماضية -وفق مصادر محلية سورية- عبرت قافلتان عسكريتان أميركيتان إلى الأراضي السورية عن طريق معبر اليعربية قادمة من العراق، ودخلت منطقة القامشلي حيث تمركزت القافلة الأولى في القحطانية على بعد 6 كلم من الحدود التركية، وشرع الجنود الأميركان بأعمال بناء قاعدة بالبلدة الواقعة شرقي مدينة القامشلي وتضم حقولاً نفطية.

أما القافلة الثانية، فوصلت قرية هيمو غربي القامشلي على بعد نحو 5 كلم من الحدود التركية، وشرع الأميركان هناك أيضاً في أعمال إنشاء النقطة العسكرية. وتقع المنطقتان المذكورتان اللتان تمركزت فيهما القوات الأميركية ضمن حدود الحزام الذي تسيّر فيه القوات التركية والروسية دوريات برية مشتركة.

وبفضل النقاط والقواعد العسكرية التي ستتمركز فيها لاحقا، ستتمكن القوات الأميركية من بسط سيطرتها على حقول النفط وتوفير الأمن فيها، وتعزيز وجودها أيضا على الحدود التركية مع سوريا، حيث تبعد القاعدتان المزمع إنشاؤهما عن بعضهما البعض نحو 35 كلم، وبالتالي ربما توجد القوات الأميركية في مسار الدوريات الروسية التركية المشتركة.الانتشار الروسي
وتنتشر القوات الروسية بشكل أساسي بقاعدة طرطوس البحرية على ساحل البحر المتوسط وقاعدة حميميم الجوية باللاذقية غرب البلاد، حيث وقعت موسكو والنظام السوري اتفاقا في أغسطس/آب 2015 يمنح الحق للقوات الروسية باستخدام قاعدة حميميم في كل وقت من دون مقابل ولأجل غير مسمى.

وتسيطر موسكو كذلك على مطار حماة العسكري (وسط سوريا) ويشكل قاعدة عملياتها وطلعاتها جوية، وإلى الجنوب منه تنتشر القوات الروسية بقاعدة تدمُر العسكرية وسط الصحراء السورية بمحافظة حمص، إضافة لمطاري الشعيرات وطياس المعروف أيضا باسم “تي فور” العسكريين بنفس المحافظة.

وقد أعلن الجيش الروسي أمس الخميس القيام بتحرك سريع ومفاجئ لنشر مروحيات ونظام دفاع صاروخي أرض جو في قاعدة عسكرية بالقامشلي شمال شرق سوريا، بالقرب من المنطقة التي يتمركز فيها الأميركيون، ليوسع بذلك انتشاره من وسط وغرب سوريا إلى شمال شرق البلاد.

وأضافت موسكو أن العديد من المروحيات القتالية وصلت القاعدة، موضحة أنها ستقدم الدعم للشرطة العسكرية الروسية التي تقوم بدوريات مشتركة مع الجيش التركي بهذا القطاع من المنطقة الحدودية السورية التركية.

وفي إطار السباق للسيطرة على المواقع والقواعد التي أخلاها الأميركان، سارعت القوات الروسية للتمركز في سبع قواعد بمنطقة متراس في ريف عين العرب شمالي سوريا، وقاعدة صرين والسعيدية شمال غرب منبج.

كما أنشأت القوات الروسية قواعد عسكرية أخرى بمحافظة الرقة وريف حلب الشرقي، الأولى بمطار الطبقة العسكري والثانية بمدينة عين عيسى شمال مدينة الرقة وعلى خطوط التماس بين قوات “نبع السلام” والوحدات الكردية وجيش النظام السوري، أما الثالثة فكانت بالفرقة ١٧ مشاة الواقعة بالمحيط الشمالي الشرقي والمحاذية لمدينة الرقة، وأخيرا قاعدة في قرية السبت شمال ناحية صرين.

تشغيل الفيديو

التدخل التركي
قامت القوات التركية في 22 فبراير/شباط 2015 بنقل ضريح جد مؤسس الدولة العثمانية “سليمان شاه” من مكانه السابق بقرية قره قوزاق في محافظة حلب إلى الأراضي التركية مؤقتا، ومن ثم إعادته للداخل السوري مجددا بقرية “أشمة” التي لا تبعد عن تركيا سوى ثلاثمئة متر، وذلك بعد حصار تنظيم الدولة الضريح مرات عدة مهددا بتفجيره.

وقد شارك في عملية نقل ضريح سليمان شاه خمسون دبابة ومئة آلية مختلفة الغرض العسكري، و572 عنصرا من أجهزة الأمن العسكري المختلفة، وقد أمنوا خلال العملية انسحاب أربعين جنديا تركيا من حراس الضريح.

وقد شرعت تركيا بأول تدخل عسكري مباشر في عملية درع الفرات والتي جرت بين 24 أغسطس/آب 2016 و31 مارس/آذار 2017) وتمكنت القوات التركية وقوات الجيش السوري الحر المعارض المدعوم من أنقرة من إخراج مقاتلي تنظيم الدولة والوحدات الكردية من المنطقة الحدودية. وسيطرت القوات التركية على المنطقة بين عفرين ومنبج وأبعدت وحدات حماية الشعب الكردية إلى شرقي نهر الفرات وأخرجت مقاتلي تنظيم الدولة من جرابلس ودابق والباب بمحافظة حلب شمال غرب سوريا.

ثم شنت القوات التركية داعمة للجيش السوري الحر لاحقا عملية “غصن الزيتون” بين 20 يناير/كانون الثاني 2017 و24 مارس/آذار 2018، وتمكنت خلالها من السيطرة على بلدات وقرى خاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية وأيضا على منطقة عفرين بمحافظة حلب شمال غرب سوريا.

وأخيرا بدأت أنقرة متحالفة مع قوات الجيش السوري الوطني عملية “نبع السلام” في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وتوقفت مؤقتا في إطار تفاهمات مع واشنطن أولا ثم مع موسكو. وهدفت من وراء العملية لطرد “قوات سوريا الديمقراطية” -التي يقودها الأكراد- وكذلك إقامة منطقة آمنة بطول 480 كلم على عمق ثلاثين كيلومترا من الشريط الحدودي شرق نهر الفرات وحتى الحدود العراقية.
اعلان

وتحتفظ أنقرة بعدد من القواعد العسكرية في مناطق الباب وجرابلس وإعزاز وعفرين، وهي مناطق خاضعة كليا للسيطرة التركية، وأعلن الرئيس أردوغان عزم بلاده إقامة عدد من نقاط المراقبة العسكرية أو القواعد بالمنطقة الآمنة في إطار عملية “نبع السلام” وشرعت فعلا بإقامة بعض هذه النقاط في رأس العين وتل أبيض اللتان سيطرة عليهما بعملية “نبع السلام”.

وكانت قد أقامت بدءا من عام 2017 نحو 12 نقطة مراقبة عسكرية داخل محافظات إدلب وحماة وحلب بالاتفاق مع الجانب الروسي والإيراني بهدف تطبيق ما يعرف باتفاق خفض التصعيد بالمناطق التي كانت تفصل بين قوات النظام السوري والمعارضة، لكن بعض تلك النقاط مثل مورك بريف حماة أصبحت في مناطق سيطرت عليها قوات النظام.

أهداف مختلف الأطراف
يكمن الهدف المعلن للوجود الأميركي العسكري بسوريا أولا محاربة تنظيم الدولة ودعم الحلفاء الأكراد في بقاء سيطرتهم على المنطقة بعيدا عن تدخل النظام السوري والقوات الروسية.

لكن هدف واشنطن الذي أعلنته مؤخرا يوسع دائرة وجودها العسكري ليشمل حماية آبار النفط التي تسيطر عليها، وهو الأهم على ما يبدو وفق ما أعلن الرئيس الأميركي.

كما تسعى واشنطن إلى دعم الوحدات الكردية ومساعدتها في السيطرة على آلاف الأشخاص المشتبه بانتمائهم لتنظيم الدولة وتحتجزهم الوحدات الكردية في سبعة سجون. كما تحتجز عائلات أعضاء هذا التنظيم في ثلاثة مخيمات للنازحين.

أما الجانب الروسي فوجوده العسكري في سوريا طويل الأمد وسيمتد عشرات السنين، وفق اتفاقات مع النظام السوري. وقد أعلن بداية تدخله أن هدفه محاربة الإرهاب ودعم النظام السوري للوقوف في وجه ما سماها الجماعات الإرهابية.

فموسكو تسعى لتحقيق مصالحها ومصالح حليفها الأسد، وهو ما ظهر مؤخرا من طريقة استثمار موسكو لأي انسحاب من واشنطن لملء الفراغات وعدم السماح لأي طرف آخر باستغلالها.
اعلان

ويسعى الروس من وراء دعم نظام الأسد إلى استعادة فرض السيادة على الأراضي التي ما زالت تسيطر عليها فصائل المعارضة أو الوحدات الكردية في شرق وشمال سوريا.

أما أنقرة فهدفها المعلن محاربة “التنظيمات الإرهابية” كتنظيم الدولة والوحدات الكردية التي تصنفها أنقرة إرهابية أيضا وتعتبرها امتدادا لحزب العمال الكردستاني.

وتريد تركيا تطهير المنطقة الحدودية من وحدات حماية الشعب الكردية، كما تنظر إلى قضية نحو مليوني شخص من بين 3.6 ملايين لاجئ سوري -تستضيفهم حاليا على أراضيها- آملة إعادة توطينهم داخل الأراضي التي تقع داخل “المنطقة الآمنة” المزمعة وهي سهلية خصبة كانت ذات يوم بمثابة سلة الخبز لسوريا، على عكس المناطق الصحراوية القاحلة التي تقع إلى الجنوب.

وفي ظل التداخل في مناطق السيطرة واختلاف الأهداف، تجد الأطراف السابقة نفسها في موقف تعامل المضطر في حقل ألغام الشمال السوري، وذلك عبر إعادة حساباتها مع إبقاء مساحة للمناورة لتبديد مخاوف الأطراف الأخرى، وحماية مصالحها والابتعاد عن التصادم المباشر أو بالحد الأدنى استعمال حلفاء محليين للقيام بالمهمة إن اقتضت الضرورة.

الجزيرة