بذلت إيران ما في وسعها لتطويق انتفاضة العراقيين ضد النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، ليس فقط للدفاع عن نفوذ وكلائها، ولكن لمنع الشارع الإيراني من استلهام نموذج هذه الانتفاضة الشعبية.
لكن العدوى سرعان ما امتدت لتشمل العديد من المدن الإيرانية بالتزامن مع قرار السلطات الزيادة في أسعار الوقود. وما يثير الاهتمام بأن المتظاهرين استلهموا النموذج العراقي واللبناني في حرق صور رموز الطبقة السياسية الفاسدة في البلدين، وعمدوا إلى حرق صور المرشد الأعلى علي خامنئي، وهتفوا ضده، كما أحرقوا مؤسسات حكومية، في رسالة واضحة الدلالة على أنهم يريدون تغيير النظام وليس مجرد إصلاحات جزئية أو تراجعا عن قرار الترفيع في أسعار الوقود.
فالمظاهرات ووفق وكالة الصحافة الفرنسية «كانت بين الكبيرة في مدينة سيرجان والمتفرقة في مدن مشهد (شمال) وبيرجند (شرق) وبندر عباس (جنوب) وكذلك في غشسارات والأهواز وعبدان وخرمشهر وماهشهر جنوب غربي إيران»، مما يؤكد أن الأزمة متفاقمة وليست محدودة، وأن المظاهرات شرارتها ارتفاع أسعار الوقود، ولكنها نتيجة أزمات أخرى مكبوتة ومقموعة يعاني منها الشعب الإيراني منذ صعود نظام «ولاية الفقيه» زمن الخميني إلى زمن خامنئي، الذي دأب على استخدام العصا الغليظة لقمع المتظاهرين من خلال قوات الأمن الباسيج والحرس الثوري، أذرع النظام الإيراني للحفاظ على البقاء في حكم إيران وقمع شعبها.
ارتفاع أسعار الوقود هي القشة التي قسمت ظهر البعير، حيث رفعت أسعاره بنسبة 50 في المائة أو أكثر، فإيران التي تعاني نسبة تضخم أكثر من 40 في المائة حالياً، ونسبة النمو تكاد تكون معدومة، وبطالة وعقوبات اقتصادية خانقة، جميعها تجعل خزينة الحكومة فارغة، والبلاد غارقة في مستنقع البطالة التي تجاوزت 15 في المائة، وتضخم مالي في ازدياد مطرد، في بلد يعتبر منتجاً رئيسياً للنفط.
وفي أول تعليق له على اندلاع الاحتجاجات أيد المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي الأحد قرار زيادة أسعار البنزين وتقنين توزيعه، وهو قرار اتخذته الحكومة بشكل مفاجئ وأثار تظاهرات وغضبا واسعا في عدة مدن إيرانية.
ونقل التلفزيون الرسمي عن خامنئي “لست خبيرا وهناك آراء مختلفة، لكنني قلت إنه إذا ما اتخذ قادة الفروع الثلاثة قرارا، فإنني أؤيده”، تعقيبا على القرار الصادر الجمعة عن المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي المؤلف من الرئيس ورئيس مجلس الشورى ورئيس السلطة القضائية. وأنحى المرشد الأعلى باللوم في ما أسماها بـ”أعمال التخريب” على معارضي الجمهورية الإسلامية وأعدائها الأجانب.
وقال خامنئي “هذا القرار جعل بعض الناس يشعرون بقلق دون شك… ولكن أعمال التخريب وإشعال الحرائق يقوم بها مثيرو الشغب وليس شعبنا. الثورة المضادة وأعداء إيران يدعمون دائما أعمال التخريب والإخلال بالأمن ويواصلون فعل ذلك. وأضاف “للأسف حدثت بعض المشاكل وفقد عدد من الأشخاص أرواحهم ودُمرت بعض المراكز”.
ولم يختلف موقف المرشد الأعلى كثيرا عما شهدته البلاد في احتجاجات نهاية 2017 وبداية 2018 حيث اتهم خامنئي “أعداء” إيران بـ”التآمر ضدها”، وأن “الأعداء اتحدوا مستخدمين وسائلهم، المال والأسلحة والسياسة وأجهزة الأمن لإثارة مشكلات للنظام الإسلامي” الإيراني.
وقال خامنئي إن بعض الجهات المعارضة للنظام الحالي في إيران “تهلل” منذ يومين، في إشارة إلى عائلة بهلوي التي طردتها الثورة الإسلامية من السلطة عام 1979، وكذلك حركة “مجاهدي خلق” المعارضة في المنفى التي تعتبرها إيران منظمة “إرهابية”.
وبغض النظر عن المفارقات العديدة التي حفلت بها تصريحات المسؤولين الإيرانيين، فإن التناقض الأكبر يتمثّل في إدراك السلطات الإيرانية الأثر الهائل لهذا القرار على الفقراء، بدليل صدور تصريحات تطمئن الجمهور بأن السلطات ستقوم بتوزيع عوائد ارتفاع السعر على 18 مليون عائلة فقيرة، غير أن هذا الإقرار بالعبء الكبير الملقى على الشعب لم يقابل بالتجاهل والرفض فحسب بل بتخوين مئات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج واعتبارهم من «أعداء الثورة»، وإذا أضفنا إلى ذلك العنف الشديد التي ووجهت به الاحتجاجات، فإن الحاصل المتوقع هو أن ترفع الجماهير الإيرانية سقف المواجهة أيضاً.
وتحاول السلطات أن تنهي الاحتجاجات دون مواجهة أمنية حادة تخلف أعدادا مرتفعة من القتلى والجرحى ما يجعل التحكم فيها أمرا صعبا، خاصة أن النظام يعيش تحت وقع ضغوط خساراته الخارجية بسبب تهاوي النظام الطائفي في العراق، واهتزاز التوليفة الطائفية السياسية التي يتخفى وراءها حزب الله لإحكام قبضته على لبنان.
ويرى المراقبون أن هذه المظاهرات تضيف المزيد من الضغوط على النظام الذي يعاني بالفعل تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الأمريكية. ويوضحون أن الزيادة في أسعار الوقود التي بلغت نحو 50 في المئة أدت إلى مظاهرات كبيرة وعنيفة في محتلف انحاء البلاد حرقت في بعضها صور المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي.
ويقولون إن هذه المظاهرات قد تتحول إلى خطر شديد على النظام الإيراني ككل إن استمرت لفترة طويلة وعلى الرئيس حسن روحاني بشكل خاص وذلك قبيل الانتخابات البرلمانية المنتظرة في شهر فبراير/ شباط المقبل لأنها توضح أثر انخفاض معدل الدخل وارتفاع معدلات البطالة وانهيار قيمة العملة المحلية الريال.
ويشيرون إلى أنه بالرغم من هذه المظاهرات تبقى إيران وبعد الزيادة الأخيرة من بين الدول التي تقدم الوقود لمواطنيها بأرخص الأسعار عالميا حيث يبلغ سعر اللتر نحو 15 ألف ريال بما يعادل 35 بنسا” موضحا أنه “أمر يتوقعه المواطنون ببساطة لأن البلاد تضم احتياطيات ضخمة من النفط وتعد رابع أكبر دولة في العالم بهذا الصدد.
ويقول مراقبون إن السلطات الإيرانية لا تريد أن تفتح على نفسها واجهة جديدة في الداخل بعد صدمات مختلفة بالخارج، خاصة ما تعلق بتشديد العقوبات الأميركية على قطاع النفط، والمصارف في إيران، كردة فعل على استهداف أمن الملاحة، وهي رسالة قوية تضغط على طهران لمراجعة أدائها الإقليمي واستهانتها بمصالح دول الجوار والقوى الكبرى.
وأشار هؤلاء إلى أن خامنئي لم يعد بإمكانه أن يلجأ إلى نظرية المؤامرة باتهام الولايات المتحدة أو إسرائيل بتحريك المظاهرات، لأن هذه التهمة لم تعد تغري الشارع الإيراني، بمن في ذلك الذين كانوا يصفقون لشعاراته وفتاواه، مثلما جرى في العراق.
ويقولون إن الضغوط الأميركية المتنامية التي تقترن بحالة من السخط الشعبي بين الكثير من الإيرانيين على الوضع الاقتصادي بدأت تهزّ النظام دون مؤشرات تذكر على أن قادتها يملكون أي حلول. كما أنها كشفت عن درجة عالية من الفساد الإداري المستشري في البلد.
أزمات إيران ليست في الوقود، بل متراكمة، وازداد تفاقمها بعد العقوبات التي أمر بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بموجب استراتيجية «الضغط القصوى» ضد النظام في إيران، حيث أنهى الإعفاءات التي كانت تسمح لبعض الدول بشراء النفط الإيراني.
العقوبات الدولية على النظام الإيراني، في مقابل الركود الاقتصادي الإيراني، والبطالة، وازدياد حجم الفساد والفاسدين بين أنصار النظام ومؤيديه.
النظام الإيراني زاد مأزومه منذ أن أعلن استئناف تخصيب اليورانيوم بمنشأة فوردو، في انتهاك للاتفاق النووي، الأمر الذي جعل النظام في حالة تصادم مع النظام الدولي، وهو غير متماسك داخلياً، حتى في جغرافيته التي صنعها بمقاييسه. فإيران التي ابتلعت دولة الأحواز العربية، بعد تهجير سكانها العرب واستبدالهم بهدف تغيير ديمغرافية المنطقة، والتي تُعد امتداداً للجغرافيا العربية، وقمعت سكانها، لدرجة منعهم من الحديث حتى بلغتهم العربية، واستخدامها في شوارع الأحواز، التي كانت بالأمس القريب تسمى عربستان، أي بلاد العرب.
في إيران حتى «الإصلاحيون» خيبوا آمال الشارع فيهم، واتضح أنهم جزء من نظام إيراني، ومجرد شخوص في جوقة النظام المستبد المتغطرس، صاحب أكبر ملف انتهاكات حقوق الإنسان، وإعدامات على الهوية والمعتقد في الشوارع.
الأزمة الإيرانية كبيرة ومتفاقمة، وإذا لم يفق النظام الإيراني من غيبوبته، وانفصاله العقلي عن الواقع، ستكون النتائج كارثية، وإن كانت الأزمة ستنتهي لا محال بزواله، وإن طال الزمن، ونأمل ألا تنتهي بفاتورة دماء كبيرة مؤلمة للشعب الإيراني.
من العجيب حقا أن يتناسى حكام إيران الحاليون أنهم لم يرثوا السلطة كالملوك بل جاؤوا نتيجة ثورة شعبية عارمة قبل 40 عاما، وأن الآلاف الذين ضحوا بحيواتهم، وعشرات الألوف الذين اعتقلوا وعذبوا لتأمين انتصار تلك الثورة، كانوا يحلمون بدولة تحفظ كراماتهم، وتؤمن لهم العدالة والتنمية وتوقف القمع والبطش والتعذيب والفساد.
حسب رئيس مكتب الرئاسة الإيرانية، محمود واعظي، فإن قرار رفع أسعار الوقود لم تتخذه الحكومة وحدها، بل اشتركت على إقراره السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، وإذا كان هذا لا يتناقض مع دعوة 60 نائبا في البرلمان لمساءلة الرئيس روحاني، فإنه يظهر، وخاصة بعد تصريحات خامنئي العنيفة، وجود تباين في أوساط المسؤولين الذين سمعنا سابقا بعضهم يحذر من حصول هذه الاحتجاجات ويطالب بضبط عمليات الفساد ومعالجة البؤس والفقر المتزايدين.
لقد أكدت السلطات في إيران، في كل مرة تظهر فيها احتجاجات، على لجوئها إلى القمع، وهو أمر قد يكون ناجعا مرات لكنه بالتأكيد لن ينجح في كل مرة، وقد تنقلب الاحتجاجات إلى ثورة أخرى لا أحد يعلم اين ستقف. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل تسير احتجاجات إيران على خطى العراق ولبنان؟
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية