مع كل يوم يمر من أيام الاعتصام المفتوح في ساحات الانتفاضة العراقية، يزداد تعنت طرفي المعادلة، المنتفضين والحكومة، ويتمسك كل طرف بموقفه، لذلك يرى المحللون أن أفق الاتفاق على الخروج بحل توافقي سلمي للأزمة يبتعد يوما بعد آخر.
المنتفضون باتوا يبلورون مطالبهم بشكل أكثر وضوحا، ويرسمون خريطة طريق واضحة المعالم للخروج من الأزمة بشكل أكثر عقلانية. بينما الطبقة السياسية بما تشمله من حكومة وبرلمان وأحزاب العملية السياسية، تزداد جمودا في تصلبها تجاه مطالب الشارع، وبات واضحا أن الوعود التي تطلقها الحكومة والبرلمان، ما هي إلا مجموعة أكاذيب تلعب عبرها بورقة التسويف والمراهنة على عامل الزمن، الكفيل بإتعاب المنتفضين وتركهم لساحات الاعتصام.
على صعيد ما يجري في الشارع العراقي، بات أداء حكومة عادل عبد المهدي أكثر تخبطا، فعلى سبيل المثال تعرض ضابط كبير من وزارة الداخلية هو عميد المعهد العالي للتطوير الأمني والإداري، اللواء ياسر عبد الجبار محمد حسين، في وضح النهار في قلب بغداد في منطقة الجادرية الى عملية اختطاف، إذ اقتاده مسلحون إلى جهة مجهولة، وقد سجلت كاميرات المراقبة في منطقة الحدث عملية الخطف، وسرعان ما انتشر الفيديو المسرب بشكل واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، ما مثّل موقفا محرجا للحكومة، ليأتي رد رئيس الحكومة عادل عبد المهدي متهافتا، عبر ما نشره على حسابه في فيسبوك عندما أشار إلى أن حكومته ترفض بشدة هذه الممارسات، معتبرة إياها جريمة يعاقب عليها القانون، وطالب الخاطفين بإطلاق سراح المسؤول الأمني، وأي شخصية مخطوفة أخرى فورا ومن دون قيد أو شرط، مضيفا أن الدوائر الأمنية والقضائية المختصة، باشرت فعلا بالتحريات والتحقيقات اللازمة، بغية التعرف على الخاطفين وتحرير المخطوفين. ما اثار عاصفة سخرية في الشارع العراقي من ضعف ووهن الأداء الحكومي تجاه المليشيات التي تتحرك، من دون رادع في الشارع العراقي.
يبدو أن تقديم أحزاب الحكومة كباش فداء صغيرة لن ترضي الشارع الغاضب، المطالب بإطاحة رؤوس الفساد الكبيرة
وجاءت العاصفة الأخرى إثر تصريحات وزير الدفاع العراقي نجاح الشمري من باريس، التي اعتبرها البعض مزلزلة لأداء حكومة عبد المهدي، فقد أشار الشمري يوم الخميس، 14 نوفمبر/تشرين الثاني من باريس إلى أن «طرفا ثالثا» يقف وراء قنص المتظاهرين، وقد استخدم عتادا وأسلحة لم تدخل العراق عن طريق الحكومة. وأضاف الشمري إن «هناك قتلى من الطرفين، من المتظاهرين والقوات الأمنية، والقاتل هو «طرف ثالث»، وأضاف أن «البندقية التي بحوزة القوات الحكومية، والتي تستخدم لإطلاق قنابل الدخان المسيل للدموع المستخدمة لتفريق المتظاهرين، لا يزيد مداها عن 100 متر»، وأضاف «الغريب أن هناك حالات قتل وإصابات حدثت بين صفوف المتظاهرين الذين يبعدون أكثر من 300 متر عن القوات الأمنية، ولا علاقة لإصابتهم بالقوات الأمنية، وبعد فحص العينات المستخرجة من أجساد المصابين ورؤوس الضحايا، الذين سقطوا نتيجة إصابتهم بالرأس، تبين أن هذه الأعتدة لم تدخل العراق عن طريق الحكومة، وأن البنادق المستخدمة أيضاً لإطلاق هذا النوع من العتاد لم تدخل العراق بشكل رسمي، أو بعلم الحكومة». ما يعني أنها المرة الأولى، التي يشير فيها شخص بمنصب مهم مثل وزير الدفاع، إلى اختراق جهات مسلحة للملف الحكومي الخاص بمعالجة الانتفاضة العراقية.
من ناحيته حاول القضاء أن يلعب دور الطرف النزيه في هذه الأزمة المتزايدة التفجر، التي تهدد كل الطبقة السياسية والحكومية بالاقتلاع، فبعد عقد ونصف العقد من تسيس القضاء، عبر عملية تخادم معروفة بين العملية السياسية الفاسدة ومجلس القضاء الاعلى، تستفيق اليوم الهيئة القضائية لتلعب دور الطرف النزيه، وتفتح ملفات فاسدين كبار في العملية السياسية، وفي هذا الخضم كشفت هيئة النزاهة، عن صدور حكم بالسجن لمدة سبع سنوات بحق رئيسة «مؤسسة الشهداء» السيدة ناجحة عبد الأمير الشمري، وهي قيادية في حزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي. والتي شغلت عضوية مجلس النواب في كتلة دولة القانون لدورتين نيابيتين 2010 و2014، قبل تعيينها رئيسة للمؤسسة وبدرجة وزير، وقد كشفت «هيئة النزاهة» ملابسات القضية التي حققت فيها وأحالتها إلى القضاء، وذكرت إن «محكمة جنايات الكرخ أصدرت حكماً حضورياً على رئيسة مؤسسة الشهداء الحالية، على خلفية قضايا فساد مالي، في عقد لجنة الاستشارات المركزية في المؤسسة مع شركتين أهليتين لاستثمار نصب الشهيد». لكن يبدو أن تقديم أحزاب الحكومة كباش فداء صغيرة لن ترضي الشارع الغاضب، المطالب بإطاحة رؤوس الفساد الكبيرة، لذا فقد مرّ الخبر مثل هواء في شبك.
من طرفها، كان موقف المرجعية الدينية في النجف أكثر تصعيدا، وأكثر وضوحا هذه المرة، وهي حالة نادرة الحدوث أن تتعاطى المرجعية الدينية مع الأزمات السياسية بهذا الوضوح وهذه الإدانة، وهذا ما شهدناه سواء في تصريحات المرجع الأعلى السيد السيستاني عند لقائه السيدة جينين هينيس بلاسخارت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) أو في خطبة الجمعة الأخيرة 15 نوفمبر، إذ ابتعدت الخطبة عن التلميح، وقالتها بوضوح هذه المرة «إن الحكومة إنما تستمد شرعيتها ـ في غير النظم الاستبدادية وما ماثلها ـ من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره، وتتمثل إرادة الشعب في نتيجة الاقتراع السري العام إذا أُجري بصورة عادلة ونزيهة، ومن هنا فإنّ من الأهمية بمكان الإسراع في إقرار قانون منصف للانتخابات، يعيد ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية ولا يتحيز للأحزاب والتيارات السياسية، ويمنح فرصة حقيقية لتغيير القوى التي حكمت البلد خلال السنوات الماضية، إذا أراد الشعب تغييرها واستبدالها بوجوه جديدة. إن إقرار قانون، لا يمنح مثل هذه الفرصة للناخبين لن يكون مقبولاً ولا جدوى منه. كما يتعين إقرار قانون جديد للمفوضية التي يعهد اليها بالإشراف على إجراء الانتخابات، بحيث يوثق بحيادها ومهنيتها وتحظى بالمصداقية والقبول الشعبي».
وما يزال موقف الكتل الكبيرة في البرلمان العراقي غائما، وغير واضح المعالم من مطالب الانتفاضة، فكتلة سائرون التي يقودها مقتدى الصدر تطالب مرة باستقالة الحكومة والبرلمان، وترفع شعار (شلع قلع)، لكنها سرعان ما تغير موقفها وتطالب بإجراء إصلاحات تحت سقف الدستور والعملية السياسية الحالية، لتبقي قدما في العملية السياسية وقدما في ساحات الانتفاضة.
بينما موقف كتلة النصر التي يقودها حيدر العبادي كان المطالبة باستقالة حكومة عبد المهدي، وقد صرح العبادي مبكرا أن «تحالف النصر، ماضٍ باستجواب عبد المهدي، باتجاه سحب الثقة من حكومته»، وشدد على أن بقاء الوضع كما هو عليه «ليس من مصلحة البلد، لأن بقاء الحكومة الحالية يفكك الدولة ويسقط مزيدًا من هيبتها»، وطالب العبادي، بتشكيل حكومة مؤقتة، لتسيير أمور البلاد لحين إجراء الانتخابات، وتشكيل مفوضية انتخابات مستقلة، ومشاركة الرأي العام بتغيير النظام الانتخابي. وتدين كتلة النصر من جانبها عمليات الفساد، لكن كل تلك التحركات قُرأت على أنها محاولة لعودة مرشحها العبادي لتسنم رئاسة الحكومة الجديدة، كحل للخروج من عنق الزجاجة، وهذا موقف طالما ضحك منه الشارع العراقي الذي يطالب بإزاحة الوجوه القديمة قاطبة.
أما كتلة الفتح النيايبة الكبيرة المقربة من إيران، والداعمة بل والمتشبثة بحكومة عبد المهدي، فقد جاء موقفها عنيفا حادا عبر تعليق عامر الفايز، القيادي في كتلة الفتح، فبعد ساعات من خطبة الجمعة الاخيرة 15 نوفمبر التي ألقاها السيد الصافي ممثل المرجع الأعلى علي السيستاني. إذ قال الفايز في تصريحه إن»الانتخابات المبكرة التي يطالب بها بعض المندسين السياسيين ضمن التظاهرات لن تتحقق»، مضيفا أن «الاجتماعات السرية والعلنية للأحزاب السياسية، لم تتفق على انتخابات مبكرة، أو استقالة الحكومة، والأمر باق على ما هو عليه»، وأضاف؛ أن» الأحزاب اتفقت على قانون انتخابات جديد ومفوضية جديدة وتعديل بعض فقرات الدستور بفترة 6 أشهر أو ربما سنة، وتشريع قوانين للمتقاعدين وتوزيع الأراضي والتعيينات للخريجين»، مشددا على أن «كل هذه الاتفاقات ستنفذ بعد أن تهدأ التظاهرات ويستقر الوضع». بمعنى أن الحكومة والكتل النيابية لن تقدم للمنتفضين أي شيء قبل إنهاء اعتصامهم وعودتهم إلى البيوت، فهل سننتقل قريبا إلى صفحة كسر الإردات بين الحكومة والمنتفضين؟ هذا ما سنعرفه في مقبل الايام.
القدس العربي