هل تلجأ واشنطن للحرب المالية في صراعها مع بكين؟

هل تلجأ واشنطن للحرب المالية في صراعها مع بكين؟

رغم الحديث المتواتر عن احتمال توقيع “اتفاق أولي تجاري” بين بكين وواشنطن لتسوية النزاع التجاري المعقد، وهو احتمال وارد، إلا أن حصول ذلك لا يعني انتهاء الصراع على الهيمنة العالمية بين العملاقين الصيني والأميركي على بناء “النظام العالمي الجديد”.

وحسب العديد من خبراء الاقتصاد، فإن الصراع المقبل بين العملاقين سيدور حول “نظام التمويل والتقنية” وليس الرسوم على السلع. ولا يرى هؤلاء أن نزاع الرسوم الجمركية كان فعالاً في ضرب القوة الصينية الصاعدة التي تهدد مركز الولايات و”العالم الغربي الرأسمالي” الذي يدور في فلكها.

تستهدف الصين من خلال “الحزام والطريق” توسيع الأسواق المالية، وتدويل عملتها اليوان في الصفقات التجارية.

حتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه يعتقد أن بلاده ربما لن تكسب حرب الرسوم، رغم أنها ساهمت حتى الآن في خفض معدل النمو الصيني إلى نحو 6.2%، حسب البيانات الصينية، وهنالك توقعات بأن ينخفض النمو الصيني إلى أقل من 6.0% خلال العام المقبل.

وحرب “نظم التمويل والتسوية المالية” للصفقات تختلف عن حرب الرسوم على السلع والخدمات التي تعمل على رفع معدل الرسوم لجعل السلع المستوردة أغلى من السلع المحلية، أو حرب العملات المبنية على خفض سعر العملة في سبيل الحصول على ميزة تنافسية في التصدير، إذ تعني حرب “النظم المالية”، حرمان الدول من استخدام نظام التسوية المالية “سويفت” أو أي نظام أميركي آخر، وكذلك حرمان الدول من استخدام النظام المصرفي الأميركي في التسويات المالية للصفقات التجارية، أو استخدام الدولار في الدفع لتسديد الصفقات.

من بين خبراء الاقتصاد الذين يرون احتمال اشتعال “حرب مالية” بين أميركا والصين في حال نجاة الرئيس دونالد ترامب من التحقيقات الجارية حالياً لعزله من منصبه، البروفسورة باولا سوباشي، أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة “كوين ماري” في لندن، والتي تقول “إن قوة الولايات المتحدة تكمن في النظام المالي العالمي الذي يقوده الدولار والمصارف الأميركية، وليس في التجارة نفسها”.

وتشير سوباشي، في تحليل مطول نشره موقع “بروجكت سيندكيت”، إلى أنه في عالم متكامل، مثل عالم اليوم، فإن التجارة والتمويل يعدّان وجهين لعملة واحدة، حيث تعتمد التجارة بين الدول بدرجة كبيرة على “نظام التسوية المالية” المضمون والمؤسسات المالية التي تقوم بالدفع الموثوق به عبر إصدار وثائق الائتمان للصفقات التجارية.

ويلاحظ أن هذه الهيكلية الأساسية للتجارة بنيت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حول الدولار كـ”عملة تسوية للصفقات التجارية”، لأن الدولار هو العملة الأسهل في التسييل والأكثر تبادلية في أسواق الصرف وكذلك في التمويلات بين البنوك. كما أن أميركا هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تحتاج إلى عملات الدول الأخرى في الاحتياطي النقدي، وإنما تحتاج إلى عملتها كل دول العالم.

وحسب سوباشي، فإن هذا العامل منح الولايات المتحدة القدرة على الحصول على الأموال التي تحتاجها لتمويل العجز في الميزانية والاستدانة عبر إصدار السندات، وطباعة النقود التي تحتاجها بكلفة رخيصة تمكّنها من شراء السلع والخدمات والأصول العالمية.

وكان بحث أميركي سبق أن نشرت “العربي الجديد”، جزءاً منه قد ذكر أن كلفة طباعة الورقة المالية من فئة 100 دولار لا تتجاوز 12 سنتاً، بحساب إجمالي الكلفة التي تشمل الطباعة والمؤسسات والتأمين والحماية. وحسب إحصائيات بنك التسويات الدولية، فإن 80% من التجارة العالمية تصدر فواتيرها وتتم تسويتها بالدولار.

كما يستخدم الدولار والنظام المصرفي الأميركي في تسوية معظم الصفقات العالمية، حيث تجرى نحو 16 مليون دفعة مالية يومياً عبر نظام الدفع العالمي “سويفت”، الذي يتخذ من العاصمة البلجيكية بروكسل مقرا له. في المقابل، فإن حصة “اليوان”، لا تزال ضئيلة، حيث لا تتجاوز 4.0% من احتياطات النظام المصرفي العالمي.

وبالتالي، ترى البروفسورة سوباشي، أن الحظر المالي على الصين سيكون له تأثير سلبي أكبر من عقوبات الرسوم على السلع التي تنفذها الولايات المتحدة حالياً على الاقتصاد والتجارة الصينية.
ومن الناحية القانونية، فإن ترامب يمكنه تفعيل “الحرب المالية” على الصين من دون حاجة إلى موافقة الكونغرس، عبر تفعيل المرسوم الرئاسي الذي يمنحه الحق في فرض الحظر المالي لحماية الأمن القومي الأميركي الصادر في عام 1977. وهذا المرسوم يمنح الرئيس الأميركي الحق في تجميد الأصول المالية وحظر التسويات التجارية التي تستخدم نظام سويفت أو الدولار. وقد سبق أن استخدمت الولايات المتحدة هذا المرسوم ضد العديد من دول العالم. وقد استخدمه ترامب ضد نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو خلال العام الجاري، كما سبق أن استخدمه الرئيس بيل كلينتون ضد الرئيس البنمي مانويل نورييغا في عام 1997.

الصراع المقبل بين العملاقين سيدور حول “نظام التمويل والتقنية”، وليس الرسوم على السلع

وتواجه روسيا منذ مدة عقوبات “الحظر المالي”، التي لا تطاول فقط تجميد الأصول في أميركا، وحظر الصفقات وكذلك حظراً جزئياً في استخدام النظام المصرفي الأميركي، ولكنها تصل إلى نواح أخرى من الصفقات. لكن مثل هذا الحظر لن يكون بدون كلفة على هيمنة الدولار والنظام المصرفي الأميركي على المدى الطويل، حيث إن الدول سوف تسعى إلى ابتداع نظام مالي بديل للنظام المالي الحالي المبني على الدولار.

وعلى صعيد التمدد التجاري الصيني، يلاحظ معهد “بيترسون انستيتيوت” الأميركي، المتخصص في الاقتصاد العالمي، أن قوة التجارة الصينية والنمو الهائل الذي حققته خلال العقدين الماضيين، جعلا من الصعوبة محاصرتها تجارياً عبر الرسوم.

وحسب الإحصائيات التي نشرها المعهد، فإن الصين أصبحت لاعباً رئيسياً في التجارة العالمية، حيث إنها أصبحت أكبر مصدر للسلع المصنعة في العالم، إذ ارتفعت حصتها من 1.9% في عام 2000 إلى 11.4% في عام 2017. كما أصبحت الدولة الأكبر من حيث حجم وقيمة الصادرات لدى 33 دولة في العالم، أي أنها صاحبة النصيب الأكبر في واردات هذه الدول.

وكذلك أصبحت الصين أكبر دولة مستوردة للبضائع والخدمات لـ 65 دولة في العالم. وحسب إحصائيات المعهد الأميركي، فإن قيمة الخدمات التي تصدرها الصين بلغت 227 مليار دولار، كما بلغت الخدمات التي تستوردها 468 مليار دولار في عام 2017.

وسعت إدارة ترامب إلى محاصرة مشروع “الحزام والطريق” الذي تنفذه الصين للتمدد التجاري في أكثر من 60 دولة، مستخدمة إنشاء البنى التحتية والقروض لإيصال بضائعها عبر الموانئ والسكك الحديدية، وهو مشروع خطر على التجارة العالمية، من حيث تكريس النفوذ الصيني حسب المناوئين له، خاصة من الطرف الأميركي.

وتستهدف الصين من خلال “الحزام والطريق” توسيع الأسواق المالية، وتدويل عملتها اليوان في الصفقات التجارية. ويرى خبراء، أن حرمان الصين من التسويات المالية الأميركية واستخدام الحظر الثانوي ربما يكونان من الأدوات التي قد تستخدمها واشنطن في المستقبل لمحاصرة المشروع الصيني. ويلاحظ أن مخاوف الحظر المالي الأميركي حدَت بالعديد من الدول إلى البحث عن مخرج من النظام المالي الحالي الذي يهيمن عليه الدولار والنظام المصرفي الأميركي. وهناك العديد من الأفكار التي تطرح حالياً للبحث عن نظام جديد للتسويات المالية، وحتى البحث عن عملة مشفرة بديلة للدولار.

وفي اجتماعها الأخير في البرازيل، طرحت دول مجموعة “بريكس” فكرة إنشاء نظام جديد للتسويات المالية. وقال مسؤول روسي، يوم الخميس الماضي، إن البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، التي تشكل معاً مجموعة الاقتصادات الناشئة الكبيرة، المعروفة باسم “بريكس”، تؤيد فكرة إقامة نظام مدفوعات مشترك. كما تبحث فكرة إنشاء عملة مشفرة. وتستخدم بعض الدول نظام مقايضة الصفقات التجارية، حتى لا تقع في قبضة الدولار.

العربي الجديد