لا ترى تركيا في بدء روسيا بإنشاء وتسليح قاعدة عسكرية في مدينة القامشلي شرقي نهر الفرات شمالي سوريا خطوة موجهة ضدها بالدرجة الأولى، لكنها خطوة تثير لديها الكثير من المخاوف والقلق وتعتبرها نتيجة كارثية أخرى لتخبط السياسة الأمريكية حول سوريا.
وتقيم أنقرة الخطوة الروسية الجديدة بأنها تأتي في إطار “التزاحم العسكري” المتزايد مع الولايات المتحدة الأمريكية في سوريا، وسعي روسيا إلى التمدد في الفراغات التي تركتها قرارات الإدارة الأمريكية المتخبطة حول مستقبل التواجد الأمريكي في سوريا وما رافقه من قرارات الانسحاب المتعاقبة والتراجع عنها.
وبعد أن كانت مناطق شمالي شرق سوريا والمناطق الواقعة شرقي نهر الفرات تحت النفوذ والسيطرة الأمريكية، نجحت موسكو في استغلال التحولات الأخيرة التي رافقت انسحاب القوات الأمريكية من بعض المواقع مع بدء العملية العسكرية التركية الأخيرة “نبع السلام” من أجل وضع قدم لها في تلك المناطق في اختراق كبير لتلك المنطقة توج ذلك في الرابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، عندما اعلن الجيش الروسي أمس الخميس القيام بتحرك سريع ومفاجئ لنشر مروحيات ونظام دفاع صاروخي أرض جو في قاعدة عسكرية بالقامشلي شمال شرق سوريا، بالقرب من المنطقة التي يتمركز فيها الأميركيون، ليوسع بذلك انتشاره من وسط وغرب سوريا إلى شمال شرق البلاد. وأضافت موسكو أن العديد من المروحيات القتالية وصلت القاعدة، موضحة أنها ستقدم الدعم للشرطة العسكرية الروسية التي تقوم بدوريات مشتركة مع الجيش التركي بهذا القطاع من المنطقة الحدودية السورية التركية.
ولا تبعد قاعدة مطار القامشلي الجديدة سوى نحو أربعة كيلومترات فقط عن القاعدة الأميركية المعروفة باسم قاعدة “هيمو” في الجهة الغربية من مدينة القامشلي، كما لا يفصل بينهما أي مباني، وبحسب مصادر فإن القوات الأميركية أخلت قاعدة “هيمو” العسكرية في مدخل القامشلي الغربي بشكل نهائي بعد عودتها قبل أسابيع، مما يدل على أن القاعدة الروسية جاءت بعد انسحاب القوات الأميركية بشكل نهائي.
يقول صناع القرار في أنقرة بشكل غير رسمي، إن تركيا لم تكن ترغب في أي يوم من الأيام بالتحالف والتعاون مع روسيا في الملف السوري، وعملت لسنوات من أجل التعاون مع الولايات المتحدة لتحقيق أهداف مشتركة تتعلق بإسقاط النظام وإنهاء النفوذ الإيراني والحرب على التنظيمات الإرهابية، لكن من دون أي نتيجة.
فتركيا وجدت نفسها مضطرة للتعاون مع روسيا حليف النظام بعد أن تغيرت أولوياتها وبات هدفها الأول الحرب على الوحدات الكردية ومنع إقامة كيان انفصالي على حدودها بعد أن كان إسقاط النظام أول أولوياتها، وذلك كنتيجة طبيعية للدعم الهائل الذي قدمته الإدارة الأمريكية للوحدات الكردية وتزويدها بكميات ضخمة من الأسلحة المتطورة ووصول تركيا لقناعة قوية بأن الإدارة الأمريكية تعمل على إقامة دولة انفصالية على الحدود السورية مع تركيا تكون معادية لها.
وكنتيجة للسياسة الأمريكية في سوريا، ورفض الإدارة تفهم التخوفات التركية وترجيح واشنطن التعاون مع الوحدات الكردية على حليفها الأول في الناتو (تركيا) تراجعت قوة تركيا في سوريا وباتت أنقرة واقعة تحت الضغوط الروسية التي لا تنتهي سياسياً وعسكرياً.
وعقب سنوات من المحاولات التركية مع الإدارة الأمريكية من أجل التوصل لأي تفاهم يزيل المخاوف الاستراتيجية التركية في سوريا، عبر مباحثات ومفاوضات واتفاقيات سياسية وعسكرية فشلت جميعها في إخراج عنصر واحد من الوحدات الكردية من الحدود التركية أو سحب قطعة سلاح واحدة من التنظيم الذي تعتبره تركيا التهديد الاستراتيجي الأول على أمنها القومي.
فما إن أعلنت تركيا في 9 تشرين الأول/أكتوبر الماضي بدء عملية “نبع السلام” العسكرية لإنشاء منطقة آمنة بعمق الأراضي السورية وطرد الوحدات الكردية من حدودها الجنوبية باشرت القوات الأميركية (الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية وعمودها الفقري وحدات حماية الشعب الكردية) بالانسحاب من بعض القواعد العسكرية المنتشرة في عمق المنطقة المستهدفة تركيًا.
وترى تركيا أن ذلك يعود لسبيين مختلفين يتمثل الأول في وجود لوبي قوي معادي لتركيا بشكل لم يسبق له مثيل داخل الإدارة الأمريكية والكونغرس يعمل ضدها بشكل علني يتنافى مع أدنى متطلبات التحالف المفترض بين البلدين، أما الثاني فيعود لحالة التخبط غير المسبوقة التي تعيشها الإدارة الأمريكية وتغير قراراتها في سوريا وعدم وجود استراتيجية واضحة تمكن أنقرة من الاعتماد عليها وهو ما أدى لانعدام الثقة التركية في أي تعاون مع واشنطن في سوريا.
ففي غضون 48 ساعة، تبدّل موقف الإدارة بخصوص الدور العسكري الأميركي هناك، وتعدّد بتعدد المسؤولين الذين تحدثوا عن هذا الموضوع. كل واحد أعطاه شحنة خاصة من الالتباس. وزير الدفاع مارك آسبر قال إن الإدارة قررت إبقاء قوة عسكرية هناك “من 600 جندي والعدد قابل للتغيير”. لكنه لم يفصح عمّا إذا كان التغيير باتجاه الزيادة أم العكس. من جهته، كان رئيس هيئة الأركان الجنرال مارك مايلي، أقل وضوحاً بشأن العدد الذي “قد يتراوح على الأرجح بين 500 و600”. لكنه نأى عن تحديد حجم القوة ليترك المجال مفتوحاً أمام التغيير. والالتباس لم يقتصر على العدد بل طاول المهمة أيضاً.
وفي أكبر مثال على ذلك، أدى التخبط الأمريكي وقرارات الانسحاب والتراجع عنها خلال ساعات إلى خلق مساحات واسعة في شرقي نهر الفرات مكنت النظام من دخول منبج وتل رفعت وكوباني والقامشلي والحسكة وغيرها من المناطق، كل ذلك إلى جانب روسيا التي توجت كل ذلك بإنشاء قاعدة عسكرية في القامشلي على بعد عدة كيلومترات من الحدود التركية.
هذه الخطوة كانت بمثابة إنهاء أي أمل تركي بإمكانية توسيع عملية نبع السلام ومد المنطقة الآمنة شرقاً نحو القامشلي وصولاً للحدود العراقية كما تخطط تركيا منذ سنوات، وباتت “المنطقة الآمنة” محصورة ما بين تل أبيض ورأس العين على امتداد طول 120 كيلومترا فقط مع احتمالات لتوسيعها لعدة كيلومترات في محيط تلك المنطقتين فقط.
بالتأكيد، ستؤمن هذه القاعدة لروسيا قدرة استخباراتية هائلة للتجسس على القواعد الأميركية في سورية والعراق وتركيا حيث قاعدة إنجرليك الاستراتيجية، كما أنها تؤكد أن الأعين الروسية ستبقى مفتوحة على مدار اللحظة على القوات الروسية والتركية المتواجدة على الأراضي السورية، وربما تأتي تحضيرا لفرض واقع جديد في هذه المنطقة، كثيرا ما تتحدث موسكو عن ضرورة خروج القوات الأميركية منها وعدم شرعية وضع يدها على النفط السوري. فضلا عن ذلك، ينظر الروس إلى التفاهمات التي جرت مع تركيا بخصوص الوضع في مناطق شمال شرق سورية أنها تفاهمات مرحلية، يجب أن تتنهي باستعادة النظام سيطرته على هذه المناطق، وبالتالي ثمّة من يرى أن الهدف الروسي الأساسي من إقامة قاعدة في مطار القامشلي هو مواجهة أنقرة وواشنطن في المرحلة المقبلة، فالثابت أن التزاحم الروسي في شرقي الفرات قطع الطريق أمام خطط أردوغان للوصول إلى الحدود العراقية، لا سيما بعد انتشار القوات الروسية والنظام في منبج وعين العرب (كوباني)، كذلك ثمة هدف روسي آخر من هذا التزاحم، وهو وضع الإدارة الذاتية الكردية هناك أمام خيار وحيد، هو الحوار مع النظام بشروط الأخير، أي التخلي عن مشروعها الخاص لصالح الاعتراف بحقوق ثقافية للكرد.
في جميع الأحوال، تفيد خطوة موسكو إقامة قاعدة لها في القامشلي، بقناعاتها بأن التطورات الميدانية في سورية وتوازن القوى والمسارات السياسية، هي تغيرات لصالح استراتيجيتها، ولعلها استفادت في ذلك كله من التخبّط الأميركي.
ومع أن خريطة نفوذ في شمالي سوريا لم تستقر بعد، من الواضح أننا بتنا أمام ثلاث مناطق نفوذ أساسية: الأولى واقعة تحت سيطرة القوات الأميركية وحليفتها “قسد”، وهي تمتد من المالكية (ديريك) على نهر دجلة وصولا إلى القامشلي لتنحرف جنوبا نحو ديرالزرو، أي بموازاة الحدود العراقية، والثانية واقعة تحت النفوذ التركي وهي تمتد بين رأس العين (سريه كانييه) وتل أبيض وبعمق نحو 32 كليومترا، والثالثة واقعة تحت النفوذ الروسي وقوات النظام وهي تمتد من نقطة عين عيسى في محافظة الرقة وتتجه نحو نقاط ثلاث، هي عين العرب (كوباني) ومنبج وتل تمر في ريف الحسكة، هذه الخرائط الجديدة ولدت حالة من التزاحم، لا سيما في ظل تسيير الدوريات المشتركة في هذه المناطق، إلى درجة أن دوريات من هذه القوات قد تلتقي مع بعضها في هذه المنطقة أو تلك، وهو ما يشير إلى تنسيق، وربما تفاهم روسي – أميركي مسبق، جرى الحديث عنه خلال اللقاء الذي جرى بين الرئيسين الروسي بوتين والأميركي ترامب في شباط/ فبراير العام الماضي.
من البداية كانت سياسة واشنطن من الأزمة السورية غير مستقرة. ومع إدارة ترامب تسارعت وتيرة تذبذبها. وبالتحديد حول الدور العسكري الأميركي في شمال شرق سورية. الموقف بخصوصه بقي وما زال يتأرجح بين الرغبة بالانسحاب والعدول عنه، بين تقليص هذا الحضور وتعزيزه. وفي كل الحالات كانت الضبابية القاسم المشترك وبما يحمل على الترجيح بأنه مستمر على هذه الحال خلال المتبقي من إدارة ترامب. موقف في الدائرة الرمادية بحيث يسمح بحرية التبديل والتغيير حسب مقتضيات اللحظة، والتي تشكل ركيزة السياسة الخارجية الترامبية.
كل هذه التحولات دفع المحللين الأتراك مجددًا للحديث عن وجود اتفاق أمريكي روسي غير معلن، وسط تزايد كبير للمخاوف التركية بوجود اتفاقيات سرية بين البلدين لم يتم اطلاعها عليها وهو ما زاد التوجس التركي ودفع اردوغان للإعلان رسميًا أن الاتفاقيات الثنائية مع روسيا وأمريكا حول سحب الوحدات الكردية من الحدود لم تنفذ، وسط قناعة تركية متزايدة بأن المكان الوحيد الآمن لتركيا في سوريا هو المكان الذي تقف فيه الدبابة التركية فقط، لا الروسية ولا الأمريكية.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية