بعد 103 أعوام على عقدها… سايكس بيكو مشجب المؤامرة الدائم

بعد 103 أعوام على عقدها… سايكس بيكو مشجب المؤامرة الدائم

رغم مرور 3 أعوام بعد المئة، لا يزال ذلك الحدث الذي شهد تفاصيل رسمه العقد الثاني من القرن العشرين يلقي بظلاله “الثقيلة” على أحداث وتطورات منطقة الشرق الأوسط، لا سيما الجزء الآسيوي منه، إذ توافقت كل من لندن وباريس وبتزكية قيصرية في موسكو، على تقاسم مناطق نفوذ “الرجل الأوروبي المريض على ضفاف البسفور” (الإمبراطورية العثمانية)، باتفاقية “سرية”، اشتهرت لاحقا باسم “سايكس – بيكو”، نسبة لأرفع دبلوماسيين في لندن وباريس آنذاك.

ومع كل عام من ذكراها يتجدد نقاش قديم، ويستمر جدل قائم، على ذلك المحتوى المكون من 3 صفحات بها 12 بندا وخريطة، رسم عليها خط أفقي يمتد من ميناء عكا على البحر الأبيض المتوسط إلى كركوك في العراق شرقا، تتولى السيطرة على شماله فرنسا (جنوب تركيا وسوريا باستثناء فلسطين وولاية الموصل)، بينما تسيطر بريطانيا على جنوبه (أي ولاية بغداد وموانئ عكا وحيفا شرق الأردن إلى غاية الحدود العراقية السعودية والأردنية السعودية الحالية)، مع امتياز فلسطين بوضع خاص، لتبقى تلك الاتفاقية، مع السنين “محل اتهام أمام محاكم التاريخ”، بين من يرون أنها سبب المشكلات التي لا تزال تعاني منها المنطقة، وآخرون يقولون إنها كانت محقة في بعضها ومخطئة في أخرى.

وبين هذا وذلك، تطرح مع كل ذكرى لها “أفكارٌ لإعادة ترسيم الحدود وتقسيم دول المنطقة بما يتناسب مع الظروف العرقية والإثنية والدينية”، كمسعى لحل المشكلات “العالقة والمزمنة”، وفق صائغيها، في ضوء ما تشهده منطقة الشرق الأوسط حالياً من أحداث، لتتجدد الأسئلة، حول “مسألة سايكس_بيكو”، وما إذا كان الطروحات الجديدة بإعادة رسم الحدود تندرج تحت “نظرية المؤامرة المتواصلة منذ عهود الاستعمار” أم أنها حالة “انكشاف لإقليم مضطرب ومتصارع بين مكوناته”؟، وفقا لمؤرخين وساسة.

بينما تتباين آراء المؤرخين والساسة، وحتى على مستوى المواطنين، بشأن تداعيات الاتفاقية “السرية”، التي تفاهم على بنودها الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو ممثلا لبلاده، والبريطاني مارك سايكس، ممثلا هو الآخر لبلاده، إلا أن حقائقها وفق ما أجمعت عليه المصادر التاريخية، والباحثون كان كالتالي: تبادلت كل من فرنسا وبريطانيا عبر دبلوماسييها (سايكس وبيكو) وروسيا القيصرية، في الفترة ما بين 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، ومايو (أيار) 1916، وثائق ومذكرات تفاهم “سرية”، والمصادقة عليها، بشأن تقسيم “تركة الرجل المريض” (الإمبراطورية العثمانية)، وأن الكشف عن الاتفاق تم بعد وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا إبان الثورة البلشفية عام 1917، مما أثار غضب الشعوب التي مستها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا (القوتين الاستعماريتين آنذاك)، لما حملته في طياتها الحدود المفروضة من نزاعات مبطنة.

وبحسب المصادر التاريخية الموثقة أيضاً، فإنه وعلى الرغم أن مخرجات اتفاقية “سايكس – بيكو”، لم تشق طريقها إلى الواقع، نظرا لمستجدات الأحداث أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وبعدها، التي كان أبرزها سقوط الإمبراطورية الروسية بفعل “الثورة”، لتأتي معاهدة “سان ريمو” في أبريل (نيسان) 1920، بهدف تحديد مصير ولايات المشرق العربي، بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، وتعدل عليها محددة مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في بلاد الشام والعراق، إذ أقر رئيسا الحكومتين الفرنسية والبريطانية، آنذاك، وضع سوريا ولبنان تحت سلطة الانتداب الفرنسي، بينما وُضِعت الضفة الشرقية لنهر الأردن والعراق وفلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني تمهيدا لتنفيذ وعد بلفور 2 نوفمبر(تشرين الثاني) 1917 بإقامة “وطن لليهود في فلسطين”، الذي أسس للصراع العربي الإسرائيلي.

وفي 1921 تخلت فرنسا عن كيليكيا، ثم في 1939 عن لواء إسكندرونا السوري جنوبي تركيا. كما أنه في عام 1922، وبعد إفشال الثورات في فلسطين وسوريا والعراق، أكدت عصبة الأمم على الانتداب (أو الاستعمار لمدة محددة) البريطاني على فلسطين والضفة الشرقية للأردن والعراق، والفرنسي على سوريا ولبنان، ومنه ولدت الدول الحالية، تزامن ذلك مع بدايات نشاط الحركة الصهيونية لتطبيق وعد بلفور لإقامة دولة إسرائيل.

وبحسب أستاذ التاريخ في معهد “كوليج دو فرانس” هنري لوران، فإن “حدود سايكس بيكو” التي أعادت تقسيم الإمبراطورية العثمانية تم التفاوض حولها بين 1916 و1922، وأن خارطة سايكس بيكو الأولى “لا علاقة لها” بالحدود الحالية، ولم يبق منها عمليا سوى الترسيم المبدئي لحدود لبنان والعراق والأردن وفلسطين.

ويوضح لوران، “كان اتفاق سايكس بيكو شبه مؤقت، وسرعان ما عوضته اتفاقية سان ريمو”، متابعاً، أن “تحدث النص الأول عن إقامة دولة أو دول عربية عدة على الأراضي التي قسمت إلى منطقتي نفوذ فرنسية وبريطانية، ولم يشر إلى دولة يهودية ولا إلى لبنان”. وأضاف، “وكان يفترض أن تكون فلسطين، وكذلك الموصل، جزءا من منطقة النفوذ الفرنسية، لكن باريس تخلت عنها في 1918 تحت ضغط بريطانيا، وتخلت عن كيليكيا (في تركيا الحالية) عندما حرر القوميون الأتراك، بقيادة مصطفى كمال، الأناضول بين 1919 و1922”.

وتماشياً مع الاتهامات العربية بتحميل “سايكس بيكو” مشكلات وأزمات المنطقة، يقول جان بول شانيولو، المؤرخ ومؤلف “اطلس الشرق الأوسط”، إنه “على المستوى الرمزي، ترتبط اتفاقات سايكس بيكو بفكرة قوية في الذاكرة الجماعية لشعوب المنطقة هي الإهانة نجد بعد عقود مشاكل مختلفة لكن جذورها موجودة في مكان ما في اتفاقات سايكس بيكو”.

وتركزت البنود الرئيسة في اتفاقية “سايكس_بيكو”، على أن “فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان لأن تعترفا وتحميا دولة عربية برئاسة رئيس عربي في المنطقتين “أ” (داخلية سوريا) و”ب” (داخلية العراق) المبينة في الخريطة الملحقة بهذا الاتفاق، ويكون لفرنسا في منطقة “أ” ولإنجلترا في منطقة (ب) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية، وتنفرد فرنسا في منطقة “أ” وإنجلترا في منطقة “ب” بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية”.

وكان خط سايكس على الخريطة يقابله على الأرض خطٌ أفقي ممتد من عكا على البحر الأبيض المتوسط إلى كركوك (250 كيلومتراً). وتقسم مناصفة الشمال (أ) بلون أزرق، والجنوب (ب) بلون أحمر إلى بريطانيا. وتفصل فلسطين بلون بنّي (إدارة عالمية) يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة، وفقما جاء في المادة الثالثة من الاتفاق.

وفق تمحيص “اندبندنت عربية”، للكتابات والمذكرات والوثائق حول “سايكس_بيكو” وتداعياتها، تجمع أغلب الروايات على “وضع تلك الاتفاقية في دائرة الاتهام والمساءلة لما تشهده المنطقة منذ صياغتها وحتى الآن من تداعيات”، إذ شبه بعضها ما تم بين الدبلوماسيين الكبيرين (الفرنسي والبريطاني) “لا يعدو سوى أنه كان لعبة يمارسانها عبر شق خريطة المنطقة إلى شطرين تستحوذ كل بلد على شطر منها دون أي مراعاة أو حساب لمواطني وأهل هذه المناطق”.

ففي كتابه “خط فوق الرمال”، الصادر في عام 2011، يصف المؤرخ جيمس بار اتفاق “سايكس بيكو” قائلاً، “لم يكن الخط الفاصل بين منطقتي نفوذ بريطانيا وفرنسا عقلانيا، بل كان فكرة بسيطة: كل شيء هنا عبارة عن رمال، لا داعي للأخذ بعين الاعتبار أراضي القبائل ومسارات الأنهار وقنوات الاتصال الجغرافي. إنه خط هندسي خالص، كل شيء تم بشكل عرضي”.

يضيف، “تم تطوير التفاهم الفرنسي البريطاني على تقاسم الهلال الخصيب إلى اتفاق (كامبيون – غراي) في مراسلات بين سفير فرنسا في لندن بول كامبون ووزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي، وانضمت إلى الاتفاق روسيا وإيطاليا، وحينها قال سايكس إنه يريد أن يرسم خطاً يبدأ بـ(ألف) عكا وينتهي بآخر (كاف) من كركوك”.

من زاوية أخرى، يعتبر المفكر عبد الوهاب المسيري، في موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية”، أن “الهدف من سايكس بيكو كان بالأساس توطين اليهود في فلسطين، إذ ارتبط الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية، وعلى رأسهم ليونيل والتر روتشيلد، بالمصالح الرأسمالية الإمبريالية البريطانية والفرنسية، التي كانت تريد توسيع رقعة نفوذها في الشرق، وكانت تفكر بحماس شديد في التركة التي سيتركها رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية)”.

وروتشيلد، هو من وجه إليه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 رسالة تعهد فيها بوقوف بريطانيا إلى جانب الحركة الصهيونية في سعيها لإقامة وطن لليهود في فلسطين.

ومع مرور العقود، وتطور الأحداث في المنطقة، استمرت تلك الأصوات المنددة بالاتفاقية وتحميلها مسؤولية ما حاق بالمنطقة. ففي ذكراها الأولى بعد المئة، كتبت مجلة “ديلي بيست” الأميركية قائلة إن “على الجميع الاعتراف أن هذا الدمار الذي حاق بالشرق الأوسط في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ليس سببه الغزو الخارجي (الأميركي البريطاني) أو التوترات الداخلية (ثورات الربيع العربي)، ولكن السبب الرئيس هو تلك الخريطة، التي تم بموجبها تقسيم الشرق الأوسط المطلق عليها سايكس بيكو”، معتبرة “أن التقسيم جرى يومها على أساس طائفي، مما زرع بذور الصراعات في المنطقة”.

وبحسب “ديلي بيست”، فإن أصل الصفقة يعود حسب المجلة الأميركية إلى ارتفاع حدة الصراع بين بريطانيا وفرنسا على النفوذ في المنطقة العربية، ونقلت عن الباحث الفرنسي جان بول شانيولو، صاحب كتاب “عنف وسياسة في الشرق الأوسط – من سايكس بيكو إلى الربيع العربي”، قوله، “فرضت تقسيمات تعسفية للأراضي وتم تناسي قوميات. قامت دول بلا شعوب وظهرت شعوب بلا دول” في إشارة إلى الفلسطينيين والأكراد. موضحا “كاد الأكراد يحصلون على دولة. فقد حصلوا عليها في معاهدة سيفر أغسطس (آب) 1920، لكن توازن القوى على الأرض غير الوضع”.

ورغم تلميح اتفاقية “سيفر” عام 1920، لاحتمالية إقامة كيان كردي في شرقي الأناضول حيث يشكل الأكراد الغالبية، فإن الاتفاقية لم تطبق بسبب الحركة القومية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس تركيا الحديثة)، وتم استعاضتها باتفاقية لوزان في 1923 التي اعترفت قانونيا بتركيا الحديثة، دون ذكر للأكراد.

ووفق ما ذكره بول شانيولو في كتابه، فإن “سايكس بيكو فرضت حدودا على الشعوب ويجب إعادة الأمور إلى نصابها: الآن يعود إلى الشعوب فرض إرادتها في إنشاء دولة”.

040.jpg
سيطرة داعش على سوريا والعراق عام 2014 كان أول إزالة لحدود “سايكس – بيكو” في العصر الحديث (غيتي)

اتركوا دور الضحية

من تحميلها المسؤولية، إلى إعفائها عنها، يرى آخرون ضرورة توقف الاتهامات “ولعب دور الضحية” من قبل شعوب ودول المنطقة.

وبحسب أستاذ التاريخ في معهد “كوليج دو فرانس” هنري لوران، فإنه “يجب الكف عن لعب دور الضحية”. معتبراً أن القوميين العرب “رغم إدانتهم لهذه الحدود التعسفية، لكن لم يتم التشكيك فيها بجدية، لأنها كانت تناسب الجميع”. يتابع، “عدم الاستقرار الحالي مرتبط بطبيعة الأنظمة السياسية القائمة، وتدخل ومشاركة قوى إقليمية ودولية منذ القرن الثامن عشر”.

هو الآخر، اعتبر الباحث والمؤرخ جيمس غيفلين، في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، الصادر عام 2017، أن “السمات المميزة للشرق الأوسط الجديد هي التمرد والقمع والحروب بالوكالة والنزاع الطائفي وصعود داعش والاستقطاب داخل المنطقة”. مقللا من أهمية “سايكس – بيكو”، حيث قال “يبدو الآن الاتفاق غير مهم؛ إذا قمنا بمقارنة الخريطة الحالية للشرق الأوسط، بالخريطة المقترحة التي قدمتها اتفاقية سايكس- بيكو؛ إذ لا تخضع أي منطقة للسيطرة الروسية أو البريطانية أو الفرنسية المباشرة، كذلك الحال بالنسبة للقدس التي لا تخضع حالياً لسيادة دولية، كما أن فرنسا وروسيا لا تسيطران على أي أجزاء من الأناضول، ولا تسيطر بريطانية على أجزاء من العراق أو الجزيرة العربية”.

وتابع، “بغض النظر عما اتفق عليه سايكس وبيكو، فإن الحدود الحالية في منطقة الشام (سوريا وفلسطين ولبنان) وبلاد ما بين النهرين (العراق حالياً) ومنطقة الأناضول نتجت بالأساس من عاملين رئيسين: العامل كان تكوين ما يعرف بعصبة الأمم من قبل الأمم المتحدة؛ إذ منح هذا النظام الحق لبريطانيا وفرنسا في السيطرة المؤقتة على أراضي هذه المنطقة، وعليه، قامت الدولتان بتقسيم الأراضي إلى مناطق أصغر؛ وفق مصالحهم الاستعمارية؛ إذ قامت بريطانيا بإنشاء العراق، وما يعرف بشرق الأردن، عقب الحرب العالمية الأولى، بينما فعلت فرنسا الأمر ذاته في لبنان وسوريا”. معتبراً أنه “باستثناء إنهاء استعمار الخليج في 1971، وتوحيد شطري اليمن عام 1990 كانت حدود الدول في المنطقة العربية مستقرة بشكل متميز على مدار 75 عاماً، بل كانت أكثر استقراراً في حقيقة الأمر من الدول الأوروبية”.

وفي تحقيق مطول للذكرى المئة للاتفاقية، كتب كل من “ستيفن كوك” و”عمر ليهيتا”، في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، أن “سايكس بيكو” ليست سبب الفوضى في الشرق الأوسط، وأن تحميل ذلك الحدث أكثر مما ينبغي “ليس دقيقاً”. معتبرين أن ما يجري في تلك المنطقة التي تضم طوائف وأعراقا وجماعات مختلفة داخلها، “هو نتيجة للكراهية والصراعات التي تعود جذورها إلى آلاف السنين بين تلك الجماعات”، وأنه لا حل لتلك الصراعات سوى بـ”رسم حدود جديدة”.

وبحسب الكاتبين، فإن “الوضع المتفجر الحالي في المنطقة قتل (سايكس- بيكو)؛ لأنها وُلدت ميتة أساساً. ولم تضع اتفاقية سايكس- بيكو أي حدود، وإنما حددت مناطق للنفوذ، ولم تجد تلك المناطق ـ التي حددها الدبلوماسيان الشهيران ـ طريقها إلى النور”.

030.jpg
آثار الدمار الذي خلفه داعش في سوريا والعراق (غيتي)

محاولات لإعادة صياغة الحدود

ومع استمرار تفجر الأوضاع واضطرابها في العديد من بلدان المنطقة، وتجدد الحديث عن مشروعات وأفكار خارجية لإعادة تشكيل المنطقة، يتخوف البعض من أن تقود الصراعات العنيفة في المنطقة، إلى “تقسيم المقسم وتجزئته”، لا سيما أن دولا عربية وعلى رأسها سوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن، لا تسيطر الحكومة على أجزاء كبيرة من حدود الدولة، وفرضت الميليشيات والمنظمات الإرهابية، والمقاتلون الأجانب، وغير ذلك من الجماعات المسلحة درجات متفاوتة من السلطة المحلية، فضلا عن طموحات وطنية لبعض الأقليات بإقامة دولة لهم. ووسط هذا الاضطراب تحتفظ الذاكرة العربية باتفاقية سايكس بيكو وحدها دون غيرها من الاتفاقيات الأخرى.

وفيما توقعت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، أن استمرار المعارك الإقليمية والدولية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما في سوريا، إلى جانب الاضطرابات السياسية التي شملت دولا أخرى لأسباب طائفية أو دينية مثل لبنان والعراق؛ يؤشر على قرب نهاية “الحدود المصطنعة” التي خلّفها اتفاق سايكس بيكو في المنطقة العربية، ذهبت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية لأبعد ما هو ذلك، حين نشرت في سبتمبر (أيلول) 2013، خريطة وتقريرا مطولا “تدعو فيه لتغيير حدود 5 دول عربية بالمنطقة”، وتحويلها إلى 14 دويلة، عبر انفصال تسعة كيانات عرقية ومذهبية.

ففي المقال الذي كتبه الباحث الأميركي روبين رايت، المتخصص في العالم الإسلامي، ومؤلف كتاب “الغضب والتمرد في العالم الإسلامي”، وجاء بعنوان “لنتخيّل مراجعة خريطة الشرق الأوسط”، أوضح فيه احتماليات تقسيم كل من ليبيا والسعودية وسوريا واليمن والعراق. معولا على أن الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الأخيرة قد تكون عاملا ممهدا لانشطار عدد من الدول وتقسيمها إلى دويلات، مضيفا أن الحرب التي تشهدها سوريا ستكون نقطة تحول في هذا المسار. ووضع روبين رايت سوريا على رأس الدول العربية المرشحة للتقسيم إلى عدة دول، لما قاله حينها “إنه بسبب تناقضاتها الداخلية وتعدديتها الدينية والمذهبية والعرقية”.

في المقابل، استبعد الباحث “غريغوري غويس”، في معهد “بروكنغز” الأميركي عام 2014، أن “تتغير أو يعاد ترسيم الحدود التي تركها الاستعمار الأوروبي في المنطقة في عشرينيات القرن الماضي”.

وتساءل غويس في دراسته المعنونة، “هل هذه هي نهاية اتفاقية “سايكس – بيكو؟”، قائلاً: “هل توشك الدول التي أنشأها الاستعمار الأوروبي في عشرينيات القرن الماضي على وشك الانهيار؟ هل سنشهد إعادة رسم مهمة لحدود الشرق الأوسط؟”، ليجيب “إن الجواب باختصار على هذا السؤال هو كلا”.

وبحسب غويس، فإنه “رغم حدة الحرب الأهلية في سوريا، مصحوبةً بالتداعيات المستمرة في العراق والحالة السياسية المتزعزعة الشائعة في لبنان، قد أدت إلى شكّ مفاده أن الحدود المصطنعة التي رسمتها بريطانيا وفرنسا حول المشرق العربي عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية تسير إلى رمقها الأخير، إلا أن أياً من هذه الدول لن تتمكن من المطالبة بسلطة فعالة ضمن حدودها في القريب العاجل، والحدود بحدّ ذاتها لن تتغير”.

وذكر غويس، “ستؤول هذه الحدود إلى شبه الدول، المشار إليها دولياً وفقاً للقانون المعني كصاحبة سيادة رغم أنه لا يمكن تنفيذ الشروط التشغيلية الحقيقة التي تتطلبها السيادة، السيطرة على الأراضي والحدود. ولا شكّ أن السلطة الحقيقة في المشرق العربي ستصبح متاحة أمام الجميع، فإن الحدود نفسها ستكون آخر المتغيرات لأن أياً من الفاعلين يرغب بتغييرها سواء كان ذلك على الصعيد الإقليمي أم الدولي”. وتابع، “قد تشهد الدول هذه تفككاً داخلياً. وقد تنشأ سلطات أمر واقع حاكمة. ولكن لا يبدو أن رياح التغيير ستطال الحدود الدولية بحدّ ذاتها”.

يشار إلى أن إحدى الحالات التي تمت المحاولة من خلالها لتغير شكل الحدود القائمة بين الدول، هي تلك التي قادها تنظيم “داعش” الإرهابي إبان بداية ظهوره في سوريا والعراق في عام 2014، حيث فتح الحدود بين البلدين في المناطق التي سيطر عليها، وسرعان ما عادت الأمور إلى طبيعتها كما كانت، بعد أن تم دحر التنظيم في السنوات التي تلت.