الصراع والتنافس في الشرق الأوسط يعيدان رسم توازنات القوى

الصراع والتنافس في الشرق الأوسط يعيدان رسم توازنات القوى

في قمة الاضطرابات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بعد موجة الربيع العربي في 2011، وكانت إيران حاضرة فيها بقوة، بالتزامن مع محادثات توقيع الاتفاق النووي بينها وبين مجموعة خمسة زائد واحد، كان أي تحذير مما تبطنه إيران من تهديدات غالبا ما يتم تفسيره على أنه يأتي في سياق الحرب بين إيران، الشيعية، والسعودية، السنية.

ودقت مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأميركية والغربية طبول الحرب الطائفية، خصوصا بين سنتي 2015 و2016. وفتحت مقالات ودراسات كثيرة بوابة التاريخ مستحضرة الشرخ الديني الذي حصل قبل أكثر من 1400 عام، لتسقطه على ما يجري في الوقت الراهن.

لكن، هدأت النبرة بعد وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة وتغير الموقف الأميركي من إيران وانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، ليؤكد هذا الهدوء أن الأمر لم يكن سوى بروباغندا كانت تحتاجها إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وحلفاؤها في الاتفاق النووي، من أجل ترسيخ وجود إيران وتبرير تصرّفاتها في العراق واليمن وسوريا.

حرب سياسية
اليوم، تبين متابعة للمشهد، ومراجعة ما حصل على مدى السنوات الأخيرة أن الصراع الذي ما زال دائرا في دول عدة في الشرق الأوسط اتّخذ في شكله العام مظهر تنافس بين إيران والسعودية؛ لكن النظر بعمق لكل الأحداث وخلفياتها التاريخية والسياسية يكشف، وفق خبراء، أن الصراع ذو جذور سياسية وليست طائفية.

ويذهب في هذا السياق فنار حداد، الباحث في معهد مهتم بالشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية، مشيرا بقوله “عندما يتعلق الأمر بالسياسة الإقليمية، ما يحمل في الظاهر عنوانا طائفيا، ينطوي في الحقيقة على تنافس سياسي”.

ويتناول هذا الواقع توسيع النفوذ وحماية الحدود والموارد وتأمين خطوط الإمداد في منطقة غير مستقرة.ويقول المحللون إن جذور النزاعات في الشرق الأوسط مرتبطة بالأمن والسلطة وموقف السعودية السياسي والأمني من إيران، وقد ثبت ذلك وباعتراف الغرب أنفسهم بعد أن تمرّدت إيران وبدأت تكشف عن أجندتها التوسعية ومشروع الممر البري الذي يربطها بسوريا عبر العراق ولبنان والبحر المتوسط لتقوية المحيط الشيعي، وصولا إلى استهداف المنشآت النفطية السعودية وفي مضيق هرمز عبر وكلائها في اليمن (الحوثيين).

لكنْ، نسيت القراءات التي ركّزت على هذه الصورة التنافسية رمزية السعودية الدينية، بما يجعلها قائدة العالم الإسلامي، بشقيه السني والشيعي، وبما يجعل من اعتبارها وإيران قوتين متماثلتين، الأولى سنية، والثانية، شيعية، مقارنة لا تستقيم على مختلف الأصعدة.

من السهل النظر إلى النزاعات من المنظار الطائفي، لكن يتناول هذا الواقع حماية الحدود والأمن الإقليمي في منطقة غير مستقرة بالنسبة للرياض
من السهل النظر إلى النزاعات من المنظار الطائفي، لكن يتناول هذا الواقع حماية الحدود والأمن الإقليمي في منطقة غير مستقرة بالنسبة للرياض
وفي الوقت الذي كانت تتطلع فيه إيران إلى تكوين الهلال الشيعي كان “منافس” إقليمي آخر، لإيران وللسعودية، وهو تركيا، التي طلعت بدورها إلى هلال سنّي، تنافس من خلاله السعودية.

اليوم تغيرت المعادلة، وانتقلت تركيا وإيران من خطاب الحرب الطائفية والتنافس على قيادة العالم الإسلامي إلى وضع حماية المصالح وحتى الاكتفاء بالحفاظ على أسس الأنظمة فيها. بالمقابل تبدو السعودية بعيدة أساسا عن تأثيرات ذلك “الشرخ الديني” وغير معنية به بقدر ما هي معنية بما تواجهه من تحديات إستراتيجية وتهديدات لأمنها القومي. وتأكد ذلك بعد نشر موقع ذي انترسبت الأميركي أن وثائق سرية مسربة للاستخبارات الإيرانية تضمنت معلومات عن استضافة تركيا لاجتماع بين الحرس الثوري الإيراني وجماعة الإخوان بهدف التخطيط لكيفية مواجهة السعودية وبحث التحالف ضدها.

من السهل النظر إلى النزاعات من المنظار الطائفي، لكن يتناول هذا الواقع حماية الحدود والموارد وتأمين خطوط الإمداد في منطقة غير مستقرة بالنسبة للرياض أما طهران وأنقرة فتسعيان إلى ضرب المصالح السعودية وتعميق الأزمات وتسجيل نقاط ضد خصومهما من خارج الحدود لأنهما رأتا في فوضى ما بعد 2011، فرصتهما لتحقيق أجنداتهما التوسعية والعودة إلى المشهد الإقليمي كقوّتين، يدفعهما التغيير الحاصل في السياسة الخارجية الأميركية، وصعود قوى جديدة مثل روسيا بما أثر على طبيعة النظام العالمي التقليدي.

وكانت إيران أكثر وضوحا في سياستها التوسعية، وهي التي تصنف على أنها دولة مارقة وفرضت عليها عقوبات أثقلت كاهلها ثم باتت تشعر بأن نفوذها في عراق ما بعد 2003 لم يعد يكفيها، وكان من الضروري التدخل لحماية الحليف السوري، ثم جاءت فرصة دعم الحوثيين في اليمن، الذي يعد خاصرة السعودية ومنطقة ذات أهمية إستراتيجية على البحر الأحمر.

ارتخاء القبضة الأميركية
إشاعة الفوضى
إشاعة الفوضى
منذ الغزو الأميركي للعراق دخلت منطقة الشرق الأوسط في حالة من إعادة الترتيب لمناطق نفوذ الدول سواء القوى الكبرى أو القوى الإقليمية، بصعود وهبوط لها. كما يتهدد وجود ما يسمى بالنظام الإقليمي العربي برمته، ليتحول إلى دوائر جديدة أهمها الدائرة الخليجية الممثلة في السعودية، وأغلب الدول العربية، والدائرتان الإيرانية والتركية.

وجدت السعودية نفسها مجبرة على التدخل في مناطق الصراع المحيطة بها، وعلى أن تواجه المخاطر خارج حدودها بترحيل خطوطها الدفاعية بعيدا عن مثيرات الصراعات الداخلية في البلاد.

فبعد إسقاط نظام صدام حسين ظهرت إيران محملة برغبة عميقة في الثأر. ثم اتسعت دائرة نفوذها لتصل إلى ساحل المتوسط عند حدود الدولة اللبنانية، وأدى ذلك إلى اشتعال الكثير من نقاط التماس حول حدود السعودية، سواء في العراق أو في اليمن وامتدادا حتى باكستان.

وكان لذلك أثر برؤى مختلفة لكيفية التعامل مع التهديد الإيراني المحتمل، وبالأولويات الاقتصادية والأمنية، كما صعدت تركيا في حقبة العدالة والتنمية منذ عام 2002، لتصنع لها دائرة نفوذ جديدة في العالم العربي، تتقاطع بالضرورة مع كل من المصالح الإيرانية والسعودية.

وبدأت تركيا بالسعي إلى اتباع سياسة رعاية الميليشيات التي تتخّصص فيها إيران كطريقة لإسقاط قوّتها في العراق وسوريا. ومع أنّ لتركيا خبرة محدودة مع الميليشيات، أظهر نجاح تعاونها مع مجموعات سورية حليفة في عفرين إمكانيات هذه الإستراتيجية.

وفيما تنظر السعودية إلى إيران على أنّها تهديد ينبغي مواجهته، تعتبر أنقرة طهران خصما وجارا إقليميا يجدر بها أن تتنافس معه حينا وأن تتعاون معه حينا آخر. ولا يعني ذلك أنّ تركيا سترفض أيّ خطّة تهدف إلى الحدّ من نفوذ إيران في جوارها، لاسيّما خطّة وليدة أفكار القوى العالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا. لكن بهدف أن تقبل تركيا بها، على هذه الخطّة أن تستثني تغيير النظام في إيران أو المواجهة العسكرية معها.

في السنوات الأخيرة، طوّرت السعودية سياستها الدفاعية، التي ترجمتها بشكل واضح في عاصفة الحزم في اليمن. ثم تطور الأمر بإطلاق رؤية السعودية 2030، التي كشفت عن وجه جديد للمملكة مخالف لذلك الذي دأبت وسائل الإعلام الغربية على رسمه عند الحديث عنها.

ويعيدنا هذا إلى الحديث عن اختلال المقارنة التي تصنف الصراع بين السعودية وإيران على أنه تنافس بين قوتين؛ ففوائض السعودية النفطية الهائلة ومساحتها الكبيرة ورمزيتها كقلب العالم الإسلامي واحتفاظها بالمقدسات في مكة والمدينة وتحالفها مع الولايات المتحدة، جعلتها قطباً إقليميا فاعلا في المنطقة، مقارنة بإيران التي تشهد اليوم انقلابا بكل المقاييس في الداخل والخارج يهدد ما حققته في السنوات الأخيرة.

وفي الوضع الراهن لم تعد القرارات الخارجية تمتاز بالبطء والتشاور الحذر –مثل عمليات اتخاذ القرار الأخرى في السعودية– بل أصبحت أكثر ديناميكية برعاية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي أصبح واجهة السعودية أمام العالم، كما يقول تقرير لموقع ستراتفور الاستراتيجي. وفي منطقة تعاني من الصراعات تبقى الرياض متمسكة بالحفاظ على أمنها من التهديدات المتمثلة في الفكر الجهادي، والمشاعر المعادية للحكومة والتهديدات الأمنية الخارجية القادمة من إيران.

وفي ضوء هذه التفاعلات، يخلص الخبراء إلى أن من حق السعودية، ومن مطالب الحلفاء لها، العمل على تكريس دورها كقوة فاعلة في الشرق الأوسط، يمكنها أن تتحدى خصومها (مثل إيران وتركيا).

العرب