لا شك أن ازدياد المشهد العسكري والميداني تعقيداً في شرق الفرات وجنوب إدلب، يأتي انعكاساً لخلافات سياسية وجيوسياسية بين روسيا وتركيا في شمال سورية، رغم المحاولات الخجولة من قبل مسؤولي البلدين لرأب الصدع بطرق دبلوماسية لا يبدو أنها مجدية، قياساً بسير العمليات العسكرية على الأرض.
وحسب وكالة “سبوتنيك” الروسية، فإن النظام السوري “استقدم تعزيزات عسكرية نوعية إلى ريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي بهدف استكمال عمليته العسكرية، والقضاء على وجود الجماعات الإرهابية في المنطقة منزوعة السلاح، مع احتمال توسع العمليات وفتح جبهات جديدة في ريف إدلب”. ونقلت الوكالة عن مصدر ميداني قوله إن “تعزيزات عسكرية إضافية وصلت إلى وحدات الجيش على محاور ريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي، تشمل معدات عسكرية وآليات وأسلحة نوعية سوف يتم استخدامها في الوقت المناسب”. وأكد المصدر أن “هذه التعزيزات وصلت على مدار الأيام القليلة الماضية، وذلك في إطار استكمال التحضيرات لعملياته العسكرية على محور ريف إدلب الجنوبي الشرقي”، مضيفاً أن “احتمالات توسيع العمل العسكري واردة وكبيرة، وقد تحدث في أي لحظة، في مقابل التصعيد المستمر من قبل المجموعات المسلحة، والتي تعمل على تعزيز مواقعها القريبة من الجبهات المواجهة لمواقع الجيش في جنوب إدلب”.
”
نفى المصطفى أن يكون النظام قد دفع بتعزيزات جديدة خلال الـ48 ساعة الماضية
”
وكانت الأيام العشر الأخيرة قد شهدت تقدماً لقوات النظام، بدعم روسي جوي، باتجاه خمس قرى في جنوب شرق إدلب، في ظل مقاومة من فصائل المعارضة، التي باتت تتحسب لمزيد من محاولات التقدم في ظل سياسة قضم الأراضي التي تعتمدها قوات النظام، مع استمرار القصف الروسي على المناطق المأهولة بالسكان للضغط على قوات المعارضة. غير أن المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير” النقيب ناجي المصطفى نفى، في حديث مع “العربي الجديد”، أن يكون النظام قد دفع بتعزيزات جديدة خلال الـ48 ساعة الماضية، وذلك بحسب وحدات الاستطلاع التابعة للجبهة، التي لم ترصد أي شيء من هذا القبيل. وقال “استقدم النظام تعزيزات مع بدء عمليات التقدم منذ أسابيع، وهو يقاتل بها على جبهات ريف إدلب الجنوبي وريف اللاذقية عند جبهة الكبينة، لكننا ما زلنا نقاوم هناك، ومستعدون لكافة الاحتمالات”. وحول احتمال شن عملية واسعة من قبل النظام بهدف السيطرة على ما تبقى من إدلب أو جنوبها على الأقل، أشار المصطفى إلى أن “الجبهة الوطنية للتحرير” إضافة للفصائل الأخرى، “على استعداد لأي معركة وأي تطور”، مشيراً إلى أن “قوات النظام والاحتلال الروسي تحاول منذ أيام التقدم، لكن صدنا لتلك المحاولات لم يحقق للقوات المهاجمة مبتغاها، وكبدنا قوات العدو خسائر فادحة في العتاد والأرواح. ومنذ أيام نفذنا كميناً لعناصر القوات الخاصة الروسية، واستطعنا قتل عدد منهم وجرح آخرين، ما أفشل محاولة تسلل باتجاه ريف إدلب الجنوبي الشرقي”.
أما في شرق الفرات، فقد بلغ التصعيد الروسي التركي خلال الـ24 ساعة الماضية أعلى مستوى له، إذا قال مراسل “العربي الجديد” ومصادر أخرى، منها المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن “القوات الروسية في القاعدة العسكرية بمدينة عين عيسى في محافظة الرقة السورية قصفت مواقع للقوات التركية والفصائل الموالية لها، فيما ردت القوات التركية بقصف مماثل”. وأشارت المصادر إلى أن القوات الروسية أطلقت 5 قذائف على مواقع الفصائل الموالية لتركيا، فيما أطلقت نظيرتها التركية نحو 5 قذائف سقطت في محيط القاعدة الروسية. وأكدت مصادر مقربة من “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) تبادل القصف، في حين وصلت تعزيزات عسكرية روسية من منطقة منبج، شرق مدينة حلب، إلى منطقة عين عيسى في ريف الرقة، أول من أمس الخميس.
ويأتي التصعيد بين الروس والأتراك في شرق سورية، في وقت لم تطبق فيه الاتفاقات المبرمة بين الجانبين، ولا سيما اتفاق سوتشي الموقع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في 22 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والذي عُلّقت بموجبه العملية التي شنتها تركيا في الثامن من الشهر ذاته، والذي يقضي أيضاً بانسحاب القوات الكردية من المنطقة مسافة 30 كيلومتراً. وفيما لم يطبق الاتفاق بشكل كامل، فقد طرأ على المشهد أخيراً خلاف حول السيطرة على مدينتي تل تمر وعين عيسى، اللتين لا تزالان تحت سيطرة “قسد” مع وجود روسي وانتشار لقوات النظام في محيطهما. وفي حين يصر الأتراك على انسحاب “قوات سورية الديمقراطية” من المدينتين وكامل المنطقة المتفق عليها، طرح الروس فكرة بقاء قوات “الأسايش”، أو الشرطة الداخلية التابعة لـ”الإدارة الذاتية” التي يديرها “مجلس سورية الديمقراطية”، لكن الأتراك لا يزالون يبدون اعتراضاً على ذلك، مع قبولهم بانتشار الشرطة العسكرية الروسية في تلك المناطق. وقال المتحدث باسم “الجيش الوطني” السوري، المدعوم من تركيا، الرائد يوسف حمود، إن “القصف على مناطق العمليات مستمر بشكل يومي بين قوات الجيش الوطني ومليشيات قسد المشتركة مع قوات النظام في الكثير من النقاط التي كانت تسيطر عليها قسد ودخلتها قوات النظام أخيراً”. وحول ما إذا كان هذا التصعيد سيؤثر على الاتفاقيات التركية الروسية في ما يخص المنطقة، رأى حمود، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “هذه الاتفاقيات عبارة عن تفاهمات متجددة بشكل مستمر. وفي مواجهة جميع السيناريوهات المحتملة فإن قواتنا في الجيش الوطني جاهزة دائماً لكل الاحتمالات، وسنعمل قدر المستطاع على أن نغتنم كل نقطة تفاوض لصالح توسيع مناطق السيطرة”.
”
غوناي: تركيا قد تقلص نقاط المراقبة في إدلب مقابل الإبقاء على الاتفاق مع روسيا
”
وكان رئيس هيئة الأركان العامة التركية يشار غولر قد بحث في اتصال هاتفي مع نظيره الروسي فاليري غيراسيموف، الخميس الماضي، مستجدات الملف السوري. وذكرت القوات التركية، في بيان، أن غولر وغيراسيموف تبادلا “وجهات النظر حول عدد من القضايا المتعلقة بالمستجدات في سورية”. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، أول من أمس، إن “القوات الروسية تبذل جهوداً لتخفيف التوتر في محيط منطقة العملية التركية في شمال شرق سورية”، مشيرة، في مؤتمر صحافي، إلى أن “الوضع لا يزال متفاقماً في المناطق غير الخاضعة لسيطرة دمشق في إدلب، حيث من الواضح أن مشكلة إدلب لن تحل طالما تعمل هناك التنظيمات التي صنفها مجلس الأمن الدولي بأنها إرهابية”.
وحول تباين وجهات النظر بين روسيا وتركيا، وانعكاسه على المشهد الميداني في إدلب وشرق سورية، رأى الصحافي والمحلل السياسي التركي هشام غوناي أن “الروس بدأوا يلعبون اليوم ورقة الدفاع عن الوحدات الكردية، أو عدم الضغط عليها بالقدر الكافي لإجبارها على الانسحاب من المنطقة الآمنة. وفي المقابل، يضغطون على الجانب التركي من أجل الانسحاب من إدلب وشمال غرب سورية. ولا شك أن الخلاف بين الدولتين متعلق بهذه المعادلة، فالروس الآن يعتبرون أنفسهم انتصروا بفرض (بشار) الأسد في الوقت الراهن كأمر واقع في المعادلة السورية، ويريدون أن يسيطر الأسد على جميع أنحاء البلاد. لكن لا تزال هناك نقاط مراقبة تركية في إدلب ومحيطها، وهذا ما يحول دون بسط السيطرة على هذه المنطقة”.
وعما إذا كان هناك أفق لحل الخلافات بين الجانبين، اعتبر غوناي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الثقة لا تزال شبه معدومة بين الأطراف، سواء بين روسيا وتركيا من جهة، أو بين تركيا والولايات المتحدة من جهة أخرى، فكل دولة ستحاول الضغط على الأخرى من أجل تحقيق مصالحها في سورية. لكن تركيا قد تقلص نقاط المراقبة في إدلب، مقابل الإبقاء على الاتفاق مع روسيا، ولا سيما في شمال شرق سورية، لأن الحكومة التركية تعتبر فعلياً أن المنطقة الآمنة مسألة متعلقة بالأمن القومي التركي، ولا تريد التراجع عنها”. وتلتزم تركيا وروسيا بالعديد من الاتفاقيات والتفاهمات في ما يتعلق بإدلب أو منطقة “خفض التصعيد الرابعة”، وأهمها مسار أستانة الذي تشترك فيه إيران كضامن أيضاً، إضافة إلى العديد من اللقاءات على مستوى مسؤولي البلدين، أهمها اتفاق سوتشي الموقع بين بوتين وأردوغان في سبتمبر/ أيلول 2018، والذي يركز على وجود منطقة منزوعة السلاح حول إدلب، إلا أن قوات النظام خرقت، بدعم روسي، الاتفاق وتقدمت باتجاه مناطق واسعة في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي خلال العام الحالي.
العربي الجديد