حلب وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية

حلب وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية

580

لمحافظة حلب خصوصيتها في معادلة الصراع العسكري، فهي أكبر محافظة من حيث مساحات القتال أولا، ومن حيث الكثافة الديمغرافية ثانيا، ومن حيث التنوع الإثني والطائفي ثالثا، ومن حيث كثرة القوى المقاتلة رابعا.

هذه الأسباب جميعها حالت دون تمكن أي طرف من إطباق سيطرته المطلقة على حساب القوى الأخرى، ودفعت في الوقت نفسه كل طرف لاقتطاع مناطق خاصة به تحولت مع الوقت إلى ما يشبه المعقل العسكري، فأضحى الريف الشمالي الغربي تحت سيطرة الأكراد، والريف الجنوبي الغربي تحت سيطرة فصائل المعارضة، والريف الجنوبي الشرقي بيد النظام، مع بقاء مناطق الريف الجنوبي في الوسط ساحة للصراع بين المعارضة من جهة والنظام وحلفائه من جهة ثانية، أما الريف الشرقي فكان لتنظيم الدولة مع تواجد متفرق لقوات النظام، وبقي ريف حلب الشمالي ساحة مفتوحة لكل القوى المتصارعة.

“شكل تجدد المعارك في حلب فرصة عظيمة للنظام السوري وحلفائه الإقليميين والدوليين لاستكمال ما أوقفته هدنة فبراير/شباط، ولكن هذه المرة تحت غطاء شرعي دولي، مستغلين القرار الدولي الذي يعتبر “جبهة النصرة” جزءا من المنظمات الإرهابية غير المندرجة في اتفاق الهدنة”

جاء التدخل العسكري في سوريا ليقلب الموازين في عموم محافظة حلب، وخصوصا الريفين الجنوبي والشمالي، ولم يكن أمام النظام والميليشيات الشيعية سوى أيام لاختراق الطريق الدولي حلب ـ دمشق والعبور غربا نحو محافظة إدلب تمهيدا للوصول إلى كفريا والفوعة، وكذلك الأمر في الشمال حيث أصبحت إعزاز تحت مرمى نيران النظام والقوات الكردية، لكن الهدنة العسكرية أوقفت كل شيء، وشكلت طوق نجاة للمعارضة المسلحة، وضربة قوية للنظام الذي كان يراهن على تحقيق مكاسب ميدانية أكثر.

الأسباب العسكرية
شكل تجدد المعارك في حلب فرصة عظيمة للنظام السوري وحلفائه الإقليميين والدوليين لاستكمال ما أوقفته هدنة فبراير/شباط، ولكن هذه المرة تحت غطاء شرعي دولي، مستغلين القرار الدولي الذي يعتبر “جبهة النصرة” جزءا من المنظمات الإرهابية غير المندرجة في اتفاق الهدنة.

وكان تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري قبل أيام دليلا واضحا على الدعم الأميركي للروس والنظام على حد سواء (التداخل بين الفصائل بحلب يمنع تحديد الفصائل الإرهابية).

اختزلت حلب على مدار السنوات الماضية التصدعات الإقليمية والدولية، لكنها في السنة الأخيرة اختزلت بالمقابل تقاطعات هذه المصالح خصوصا بين الولايات المتحدة وروسيا، وهي تقاطعات أدركها النظام جيدا ولعب ويلعب عليها الآن في حلب.

لكل طرف من الأطراف الأربعة (النظام، روسيا، الأكراد، الولايات المتحدة) مصلحة في استمرار المعارك في حلب.

ـ بالنسبة للنظام، ثمة هدف إستراتيجي كبير، عنوانه عزل مدينة حلب عن محيطها، وبالتالي استكمال تقطيع أوصال فصائل المعارضة وإجبارها على خوض ثلاثة معارك وعلى ثلاث جبهات، جبهة النظام وجبهة الأكراد وجبهة تنظيم الدولة.

الهدف الرئيسي السيطرة على المناطق الشرقية والمناطق الشمالية من مدينة حلب وفك الحصار الذي تفرضه المعارضة على الشيخ مقصود، وفي حال تم ذلك للنظام، فإن فصائل المعارضة إما أن تصبح محاصرة داخل المدينة أي بين فكي كماشة، قوات النظام في منطقة حندرات شرقا والقوات الكردية في حي الشيخ مقصود غربا، أو تنسحب إلى خارج المدينة باتجاه الشمال نحو إعزاز.

كما أن سيطرة النظام على كامل المدينة تعني وفق المعايير العسكرية، الحصول على جبهة أمامية وخلفية في نفس الوقت، حيث تصبح المدينة منطلقا سهلا لقوات النظام نحو الأرياف الأربعة للمحافظة، في وقت تصبح المدينة قاعدة رجوع وحماية خلفية لقوات النظام أمام أي هجوم طارئ ومفاجئ من المعارضة.

ـ بالنسبة للأكراد، يتمثل هدفهم في فك الحصار عن حي الشيخ مقصود شمالي المدينة، واستكمال ربط الحي مع المناطق الشمالية الغربية في الريف الحلبي وصولا إلى عفرين.

“بالنسبة للنظام، ثمة هدف إستراتيجي كبير، عنوانه عزل مدينة حلب عن محيطها، وبالتالي استكمال تقطيع أوصال فصائل المعارضة وإجبارها على خوض ثلاثة معارك وعلى ثلاث جبهات، جبهة النظام وجبهة الأكراد وجبهة تنظيم الدولة”

ـ أما بالنسبة لروسيا، فإن الهدف الأساسي القضاء على الوجود التركي المتمثل بخطوط الدعم والإمداد عبر خط الكاستيلو، وهو هدف يتلاقى مع النظام، لأهمية هذا الطريق الذي يبعد نحو 4 كلم عن حي الشيخ مقصود و2 كلم عن حي السكن الشبابي.

يربط هذا الطريق أرياف المدينة الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة بالأحياء الواقعة شرق المدينة (بعدين، الهلك، بستان الباشا، شيخ خضر، مساكن هنانو).

أهمية الطريق تكمن في ناحيتين، الأولى أنه الخط الرئيسي لإمداد المعارضة واستمرار تواصلها بين شمالي مدينة حلب ومدن وبلدات الريف الشمالي وصولا إلى تركيا، ومنه يتواصل الدعم التركي لفصائل المعارضة، والناحية الثانية أن هذا الطريق يمنح فصائل المعارضة سرعة الحركة والارتداد ويمنحها أيضا أفضلية في توجيه الضربات السريعة كما يحدث في حالة الشيخ مقصود.

ولذلك يسعى الروس بقوة إلى السيطرة على هذا الطريق للقضاء نهائيا على الدعم التركي في هذه المنطقة تحديدا.

ـ بالنسبة للولايات المتحدة، فهي تحاول تقليم أظافر تركيا والسعودية في سوريا أكثر مما تريد روسيا، ولواشنطن مصلحة في إضعاف جميع فصائل المعارضة الإسلامية، وليس فقط “جبهة النصرة” المدرجة في قوائم الإرهاب وإنما أيضا “أحرار الشام” وبعض فصائل “الجيش الحر”، كي تلتزم بشروط الهدنة من جهة ولإضعاف علاقتها مع “جبهة النصرة” من جهة ثانية.

الهدف الأميركي يكمن في تحويل تركيا إلى لاعب خلفي وليس أماميا في معادلة الصراع الميدانية داخل سوريا، ولا بد من إضعاف الدور التركي في حلب تحديدا قبيل الانطلاق نحو معركة الرقة، حيث تفضل واشنطن محالفة الأكراد في حلب والعشائر العربية داخل محافظة الرقة، وليس تركيا وفصائل المعارضة في عملية تحرير الرقة من تنظيم الدولة.

الأسباب السياسية
ليست المعركة الجارية في حلب منفصلة تماما عن المعركة السياسية التي تجري في جنيف، فمازال النظام وروسيا يعتبران أن النجاحات العسكرية ستقود بالضرورة إلى نجاحات سياسية.

بالنسبة للنظام، فإن السيطرة على مدينة حلب ومن ثم أريافها، أو على الأقل أن تصبح له اليد الطولى في عموم المحافظة، يعني وضع المعارضة في مأزق كبير، وبالتالي دفعهم نحو القبول بالتسوية السياسية المعروضة أمامهم، وليس صدفة أن تترافق الهجمة العسكرية الشرسة مع انسحاب وفد الهيئة العليا للمعارضة من مفاوضات جنيف، ونجاح وفد النظام والوفود المدعومة من روسيا (وفد موسكو، وفد الآستانة، وفد القاهرة) في الحصول على فرصة ثمينة للاستئثار بوفد الأمم المتحدة.

“تسعى روسيا إلى ترجمة التطورات العسكرية إلى واقع سياسي، يضمن تحقيق هدفين، أولهما تغيير وفد الهيئة العليا للمعارضة، وإدخال قوى سياسية أخرى، أقرب للرؤية الروسية للحل السياسي، أما الهدف الثاني فهو إدخال أحرار الشام وجيش الإسلام في قائمة الإرهاب”

بالنسبة لروسيا، فإن هذه التطورات العسكرية لا بد أن تترجم سياسيا في هدفين طالما فشلت موسكو خلال الأشهر الثلاثة الماضية في تحقيقهما، يتمثل الهدف الأول في تغيير وفد الهيئة العليا للمعارضة، وضرورة إدخال قوى سياسية أخرى، هي أقرب للرؤية الروسية للحل السياسي، وبدا واضحا من التصريحات الروسية والخطوات التي تمت في جنيف أن المناخ السياسي أصبح ناضجا لتوسيع وفد المعارضة، وعدم اختزاله في وفد الهيئة المدعوم من السعودية وتركيا.

يدرك الروس جيدا أن رفع وتيرة الحرب لن تدفع المعارضة السورية ومن ورائها الرياض وأنقرة إلى الهرولة نحو القبول بشروط النظام وسوريا، بل تعتقد روسيا -وهذا صحيح- أن حدة العنف ستزيد من تعنت المعارضة وداعميها، وهذا ما تطمح إليه موسكو مع اقتراب الجولة المقبلة من جنيف، من أجل إبقاء المعارضة على مواقفها وعدم المشاركة في الجولة المقبلة، وترك طاولة الحوار مفتوحة للأطراف الأخرى المرفوضة من قبل الرياض وأنقرة.

أما الهدف الثاني، فهو إدخال “أحرار الشام” و “جيش الإسلام” في قائمة المنظمات الإرهابية، وقد اقترحت روسيا الأسبوع الماضي على مجلس الأمن إدراج الحركتين في قائمة سوداء بسبب ما سمته صلاتهما بتنظيمي الدولة والقاعدة.

الهدف الروسي من هذه الخطوة يتمثل في إخراجه الحركتين من اتفاق وقف الأعمال العدائية، وبالتالي يصبح ضربهما مبررا شرعيا، وهو أمر طالما انتظرته موسكو، كما أن إدراج هاتين الحركتين في قائمة الإرهاب يعني خروجهما عمليا من الوفد السياسي المفاوض للمعارضة، وهنا يتحقق الهدف الكبير، بفصل العلاقة بين القوتين السياسية والعسكرية للمعارضة، وجعل كل منهما يسير في مسار مختلف، كما كان الأمر في علاقة الائتلاف مع الفصائل العسكرية قبل نحو سنتين.

وهذا الهدف الروسي يتلاقى تماما مع الهدف الأميركي، حيث أزعج تعنت المعارضة في المفاوضات الأخيرة واشنطن، وما الغطاء الأميركي المفتوح للروس والنظام في حلب سوى رسالة سياسية بلباس عسكري للحليفين الخصمين في سوريا.

حسين عبد العزيز

الجزيرة نت