كيف خذل الغرب والأمم المتحدة ليبيا؟

كيف خذل الغرب والأمم المتحدة ليبيا؟

بينما تقوم طموحات أمراء الحرب المتنافسين بتأجيج نار الصراع وتستهلك موارد النفط في البلاد، يواصل المبعوثون من الأمم المتحدة والغرب إلى ليبيا تهنئة أنفسهم على قولهم الكثير بينما فعلوا القليل وحسب. لكن الذي على المحك الآن ليس مدى نجاح مهمات هؤلاء الدبلوماسيين فحسب، وإنما مستقبل ليبيا ذاته كدولة عاملة.
يقوم الدبلوماسيون في جميع أنحاء المنطقة والعالم، بإهالة الثناء على بعضهم بعضا، ويتلقون الاعتراف، والجوائز، والترقيات بسبب عملهم على ما يسمى “الاتفاق السياسي الليبي” وعلى الرغم من الإشادة العالية، فإن اتفاقية 2015 تعرضت للانتهاك مراراً وتكراراً على يد الذين صاغوها وعلى يد نفس أعضاء الحكومة التي أنشأتها الاتفاقية. ولعل الحقيقة التي لا يعترف بها الكثيرون هي أن آخر جزء من الجدل الدبلوماسي، والذي كان له أي معنى دائم، كان قرار الأمم المتحدة رقم 1970، الذي دعا إلى التدخل المسلح ضد القذافي في العام 2011. وفي السنوات السبع التي تلت منذ ذلك الحين، لم تفعل ملايين الدولارات وانخراط الآلاف من الناس وساعات العمل المخصصة لحل الصراع الذي لا نهاية له، أكثر من مجرد تسمين السير الذاتية للدبلوماسيين وتشجيع المنظمات غير الحكومية على التقدم للحصول على المزيد من التمويل.
في أحد الأمثلة، يعرف هذان المؤلفان عن مكالمة هاتفية أجراها دبلوماسي أوروبي اتصل بسياسي ليبيا وشكره على دوره في دعم “الاتفاق السياسي الليبي”. وأشار هذا السفير بوضوح في هذه المكالمة الهاتفية إلى أن عمله في وزارة الشؤون الخارجية في بلده قد انطلق وأقلع بسبب دوره في صياغة هذا الاتفاق.
وفي المقابل، لاحظ المراقبون الذين يتابعون منذ وقت طويل عمل الأمم المتحدة في ليبيا أن مثل هذه المحاولات كانت غير فعالة، إن لم تكن غير كفؤة. ومنذ البداية، كان كل مبعوث للأمم المتحدة يقدم المقترحات، ويحث على الاتفاق، ثم يغير الخطط على الطريق. وفي إحدى الحالات، بعد التوصل إلى اتفاق حول تشكيل مجلس رئاسي مؤلف من ثلاثة أعضاء، قام برناردينو ليون فجأة بتغيير رأيه ليصنع مجلساً رئاسياً مختلاً وظيفياً من ستة أعضاء، بالإضافة إلى ثلاثة وزراء دولة.
الكثير من الخطط، ولا نتائج
في العام الماضي، قدم المبعوث الخاص للأمم المتحدة، غسان سلامة، خريطة طريق أخرى تتضمن خطوات ومعايير واضحة. وقد أشادت الأمم المتحدة ودبلوماسيون غربيون بخطته باعتبار أنها تشكل قفزة كبيرة إلى الأمام. لكن أياً من هؤلاء الدبلوماسيين لم يكن ليعترف بأن بعض جوانب خطة سلامة تتعارض فعلياً مع خطة العمل السياسي التي تم التفاوض عليها سابقاً.
على وجه التحديد، اقترح سلام أن يتم اختيار مجلس رئاسي جديد من قبل البرلمان الذي يوجد مقره في طبرق. وفي رده على مخاوف من أن خريطته للطريق سوف تنتهك الاتفاق السياسي الليبي، قال سلامة ببساطة إنه كان أكثر اهتماماً بروح الاتفاق السياسي الليبي  منه بنصه. وبعد اجتماعات مكثفة عُقِدت في تونس وفي أماكن أخرى مع عشرات من السياسيين الليبيين والدبلوماسيين الأجانب والأوليغاركيين والنافذين، تخلى سلامة عن الاقتراح بالتدريج، وإنما بسرعة أيضاً.
عندما بدا أن أياً من هذه المقترحات لم يفلح، طرح سلامه فكرة تخطي خطوة المفاوضات والتوجه مباشرة إلى عقد مؤتمر وطني، والذي يجمع بين جميع الليبيين للجلوس وحل خلافاتهم في “لويا جيرغا” على النمط الأفغاني. وقد رحبت الأمم المتحدة والدبلوماسيون الغربيون بهذا الاقتراح مرة أخرى واعتبروه ضربة عبقرية. والليبيون الذين أصبحوا ماهرين في الاستفادة من مقترحات الأمم المتحدة التي تقدم لهم حرية السفر، والطعام وأماكن الإقامة من فئة الخمس نجوم، حضروا المؤتمرات وعقدوا الاجتماعات المنظمة لمناقشة الاقتراح والاستعداد له. وبعد إهدار الكثير من الوقت والمال في المؤتمر، أصبحت الفكرة كلها الآن في طور التلاشي.
توصل الفرنسيون إلى “خريطة طريق” جديدة. وباستثناء الإيطاليين، رحّب الدبلوماسيون الدوليون والأمم المتحدة بهذا “الاختراق” الفرنسي. وجاء رؤساء الفصائل الأربعة الرئيسية في ليبيا إلى اجتماع القمة في اللحظة الأخيرة، بناء على دعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وعلى ما يبدو، كان الجمع بين الزعماء في الغرفة نفسها سبباً للاحتفال في الغرب. ومع ذلك، رفض المندوبون الليبيون الأربعة التوقيع على الاتفاقية، وأصبح الحدث بدلاً من ذلك سباقاً لإثبات عدم امتثالهم، والذي يقدمونه لمؤيديهم الليبيين.
كان خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، سريعاً إلى طمأنة مؤيديه بأنه لم يتحدث مباشرة مع خليفة حفتر، رئيس الجيش الوطني الليبي. وصرح عقيلة صالح عيسى، رئيس مجلس النواب، بأن حكومته في طبرق هي الحكومة “الشرعية” الوحيدة في ليبيا، على الرغم من حقيقة أن اتفاق باريس دعا صراحة إلى حلها.
على الرغم من حقيقة أن المشاركين في المؤتمر قد تجاهلوا القمة بأكملها إلى حد كبير، إلا أن الدبلوماسيين يجدون سعادة في التركيز على الرغبة في إجراء انتخابات في غضون أشهر في بلد لا يستطيع، على الرغم من احتياطيات النفط الهائلة، أن يبقي أضواءه مُنارة، حرفياً.
لا يمكن إجراء انتخابات حرة ونزيهة في بلد يفتقر إلى قوانين للانتخابات وليس فيه دستور. وبالإضافة إلى فقدان هذه الوثائق المهمة، تصبح الانتخابات أكثر صعوبة بسبب حقيقة أن البلاد منقسمة بشكل كبير. وتخضع معظم المنطقة الشرقية لسيطرة أحد زعماء الحرب الذين سيغتالون بسهولة أي مرشح معارض، وتهيمن على المنطقة الغربية العقيدة المذهلية التي تعتبر التصويت بدعة وعملاً من الإلحاد، وتسيطر الجماعات الأفريقية المسلحة على المحافظات الجنوبية في ليبيا.
الغرب.. وسياسة غضّ الطرف
على الرغم من الدعم من الغرب، لم تفعل حكومة الوفاق الوطني في ليبيا سوى القليل لإقناع الليبيين بأنها أي شيء آخر سوى هيئة فاسدة يحصل أعضاؤها على رواتب ومكافآت باهظة تتفوق على مثيلاتها عند الدبلوماسيين الغربيين الذين يجلسون في الجهة المقابلة من طاولة المفاوضات. وتأتي أموال حكومة الوفاق الوطني -وبالتالي الفساد- من كونها المدير الوحيد للمالية الخارجية للبلاد، بما في ذلك إيصالات النفط الكبيرة.
ما تزال حكومة الوفاق الوطني قاصرة عن أن تكون هيئة حاكمة شرعية لليبيا، ليس فقط بسبب تعاملاتها المالية المشبوهة، وإنما أيضاً بسبب فشلها في خلق بلد آمن ومأمون. وبدلاً من إنشاء جيش وطني -واحد يمكن استخدامه ليتيح شبَها بمظاهر مؤسسة ليبية، تعتمد حكومة الوفاق الوطني على عدد من الميليشيات التي تعمل بعمق في الاقتصاد غير المشروع، بينما تتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان، ناهيك عن القانون الليبي نفسه.
سمح غياب قوة أمنية بأن تكون ليبيا منصة الإطلاق الرئيسية للمهاجرين الذين يذهبون إلى أوروبا. وإدراكاً منها للعجز الكلي لسلطة حكومة الوفاق الوطني، أنشأت إيطاليا آلية يتم بموجبها تحويل أموال الاتحاد الأوروبي إلى زعيم ميليشيا، أحمد الدباشي، الذي أعطِيَ له لقبٌ رسمي وكُلف بهمة وقف المهربين. وأبلغ مسؤول رفيع المستوى في الاتحاد الأوروبي هذين المؤلفين بأن الفرنسيين لم يكونوا راضين عن هذا الترتيب، ولذلك شجعوا مهرّبين آخرين على معارضة الدباشي. ويتصاعد هذا التنافس والخلاف بين الدول الأوروبية، مع آثار مدمرة يجلبها على العملية السياسية الليبية.
كما أن حكومة الوفاق الوطني مسؤولة أيضاً عن إعادة تعيين المتبقين من سنوات القذافي في مناصب أمنية. وقد تمت الآن إعادة تجميع الجهاز الأمني نفسه الذي كان مسؤولاً عن شن الهجمات الإرهابية ضد الأوروبيين والأميركيين خلال عهد القذافي. وعلى الرغم من هذا الفساد الكلي وعدم الفعالية، ما يزال الغرب متمسكاً بحكومة الوفاق الوطني باعتبارها الحكومة الشرعية في ليبيا.
أدى فشل الاتفاق السياسي الليبي في جلب السلام والأمن إلى ليبيا إلى السماح لمفسدين آخرين بالازدهار. وفي أوائل هذا الشهر، سعى إبراهيم الجضران، وهو أمير حرب آخر في شرق ليبيا كان في يوم من الأيام رئيس قوة أمن حقول النفط، إلى انتزاع السيطرة على مساحات كبيرة من هلال النفط الليبي من حفتر. وقد تمكن من طرد جميع قوات حفتر في غضون أيام. وفقط بعدما تم جلب قوة جوية أجنبية، تمكن حفتر من طرد المهاجمين ودحرهم.
في عمله الأخير، كان الجضران تحت إغواء محاولة تكرار نجاحه السابق في العام 2013 عندما نجح في انتزاع الأموال من حكومة طرابلس والحصول على اعتراف من الأمم المتحدة. وقد جلبت له تلك المحاولة للاستيلاء على النفط والغاز الليبي، والتي تسببت في خسائر بقيمة 68 مليار دولار، علاقات وثيقة ومودة مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة، مارتن كوبلر، الذي وافق على السماح للجضران بتعيين ممثل له لدى حكومة الوفاق الوطني التي تم تشكيلها حديثاً. وخليفة حفتر هو أحد أمراء الحرب الآخرين الذين كافأتهم الأمم المتحدة والقوى الغربية على جرائم الحرب التي ارتكبوها، من خلال اعتبار أنه يقود قوة مقاتلة شرعية والسماح له بتسمية ممثل عنه لحكومة الوفاق الوطني، على الرغم من رفضه للاتفاق السياسي الليبي وللانتخابات. وفي الشهر الماضي، كلل حفتر نشاطه الإجرامي في ليبيا بإعلانه أنه سيسيطر على جميع حقول النفط والغاز والموانئ في شرق ليبيا، وأنه يحق له الحصول على حصته الخاصة من العائدات. ويشكل الجضران وحفتر مثالين رئيسيين على كيفية مكافأة الأمم المتحدة للمفسدين والمجرمين في ليبيا.
نتيجة لكل ما سبق، فإن كلاً من الاتفاق السياسي الليبي، والانتخابات، ومبادرة باريس، تبدو كلها ميتة سريرياً. وقد حان الوقت الآن للتحضير للخيارين المتبقيين: حل عسكري يكون من شأنه أن يحقق النصر لأحد الفصائل المتحاربة؛ أو تقسيم ليبيا على طول خطوط برقة/ طرابلس. ومع بقاء الجماعات المسلحة في غرب ليبيا مجزأة، فإن الخيار الأول لن يكون مرجحاً. ولذلك، يجب منح أولئك في شرق ليبيا الذين لم يهدروا أي فرصة للعمل من أجل هذا الانفصال ودعوا حفتر إلى تولي السلطة، ما يرغبون في تحقيقه. وفي المقابل، كان سكان غرب وجنوب ليبيا يزعمون أنهم يتوقون إلى دولة حديثة وديمقراطية. ويجب السماح لهم بوضع مطالبتهم قيد الاختبار من خلال التصويت على دستور جديد وبرلمان وحكومة جديدين.
إن هذا الطريق إلى تقسيم الدولة هو النتيجة المنطقية والواقعية للسياسات الخاطئة، والعثرات المتوالية، والفساد، والنفوذ المصري/ الإماراتي، والاقتتال الغربي الداخلي، وسياسة استرضاء مجرمي الحرب وزعماء القبائل. وليس التقسيم بأي حال من الأحوال طريقة سهلة أو مفضلة للمضي قدماً. ولكن، في غياب أي حل عسكري، يبدو أن التقسيم هو السبيل الوحيد للتقدم.

عماد الدين زهري منتصر، ومحمد فؤاد

الغد